حدث قبل سنوات كثيرة من الآن أن ناشراً ايطالياً كان يحضر مؤتمراً فكرياً في إحدى مدن بلاده. وكان في المؤتمر عدد كبير من المفكرين المحليين والأوروبيين. وقد لاحظ الناشر يومذاك جدية المواضيع المطروحة وصعوبة الولوج في دهاليزها... ثم لاحظ كيف ان المفكرين الباحثين يبدون قادرين تماماً على إيجاد الحلول في نهاية الأمر. ولاحقاً، خلال عشاء أقامه وحضره عدد من الباحثين، راح الناشر يشبّه البحث العلمي الفكري من ذلك النوع بالرواية البوليسية التي يحكمها المنطق في نهاية الأمر. ثم بعد أن صمت لحظة قال ما يعني انه يحلم بأن يقوم مفكر جاد بكتابة رواية بوليسية حافلة بالمنطق والأحداث الغريبة، ثم سأل الحاضرين: لماذا لا تجرّبون حظكم؟ ابتسم الكل يومها باستثناء واحد منهم قال، في ما يشبه الرفض المهذب: «اذا ما وجدت أن عليّ كتابة رواية بوليسية ذات يوم، ستكون رواية تدور أحداثها في القرون الوسطى وشخصياتها رهبان في دير. وعدد صفحاتها لا يقل عن 700 صفحة...». على الفور قال له الناشر عند ذاك انه يوافق على نشرها وأن هذا تحديداً ما كان يفكر فيه. فوجئ الباحث أمام ذلك الاقتراح وقال لنفسه: «لم لا؟».
> كان اسم الباحث الشاب اومبرتو إيكو. وعلى يديه ستولد بعد ذلك بسنوات، واحدة من أغرب وأجمل روايات النصف الثاني من القرن العشرين: «اسم الوردة». طبعاً لا بد من ان نقول هنا ان ايكو هو نفسه من يروي هذه الحكاية... وقد لا تكون صحيحة كلياً... وبخاصة على لسان كاتب وباحث سيعرف لاحقاً بطرافته وغرابة طروحاته. لكنها، في هذا الاطار تحمل كل دلالاتها، خصوصاً أن «اسم الوردة» هي في نهاية الأمر رواية عن الفلسفة وعن الكتب... أو - كما قيل دائماً - رواية عن «جدّ» بعيد لشرلوك هولمز وجد نفسه فجأة وسط دوامة من الشكوك والتساؤلات والحيرة، أمام آباء الكنيسة وأمام أرسطو.
> من الناحية الزمنية تدور أحداث «اسم الوردة» خلال اسبوع من خريف عام 1327... ففي خلال ذلك الاسبوع يجتمع كبار مفكري الكنيسة من الرهبان الفرنسيسكان في دير آبينين الشهير، بأمر من البابا بقصد التصدي لهرطقة كانت بدأت تشقّ طريقها مهدّدة ما تبقى من وحدة الكنيسة وسيطرتها المطلقة... غير ان رجال الدين نفسهم الذين أقاموا ذلك المجمع بدوا منذ البداية غير متفقين في ما بينهم لاهوتياً وسياسياً. ثم يحدث أن يقع عدد من الرهبان الموقّرين ضحية لقاتل غامض راح شرّه يستشري من دون أن يعرف أحد عنه شيئاً. ولا يعود ثمة - والحال هذه - مفر من ارسال الأخ غيوم دي باسكرفيل، ذي المزاج الغريب، الى المكان ليحقق في ما يحدث، يصحبه سكرتيره الشاب آدسو دي ملك... وآدسو هذا هو الذي تروى لنا الرواية على لسانه، إذ يكتبها بعد سنوات طويلة، من وقوع الأحداث.
> ان هذه الرواية التي تتخذ هنا هذه السمات البوليسية التحقيقية المشوّقة، لا تنسينا أبداً ان الكاتب (اومبرتو ايكو) فيلسوف في الأصل ومؤرخ للفلسفة. وهو يذكّرنا بهذا في كل صفحة من صفحات الكتاب، حيث إن مقدمة الصورة البوليسية، تشكل اطاراً لرسم صورة عميقة وجذابة للمناخات الفكرية السائدة هناك في ذلك العصر... ولا سيما في اجواء الطوائف الهرطوقية... وهذا ما يجعل ايكو يغوص في تفاصيل مدهشة حول الأفكار ولغة الحوار بين مختلف الأقوام وعاداتهم وحياتهم اليومية... ثم بخاصة حول فضاء الصراع على السلطة داخل الكنيسة نفسها... والمذهل هنا هو انه كلما غاص ايكو أكثر في حمأة الأفكار العميقة، وجد لذة قبل أن يثقل على القارئ، في القفز مباشرة الى الأحداث البوليسية وحكايات الجرائم، ما يعطي هذه الرواية فرادة فكرية.
> ولعل أجمل ما في الأمر ان الأحداث كلها تدور في ذلك العالم السحري الغامض... عالم الدير المغلق على نفسه والذي تدور الأحداث في داخله مع عين مفتوحة على العالم كله، حيث يدرك القارئ بداهة ان كل ما يحدث هنا، بما في ذلك الجرائم البوليسية نفسها، انما هو على علاقة مباشرة مع العالم الخارجي: مع النتائج التي ستتمخض عن ذلك الصراع الخفي بين المنطق والنقل... بين العقل والخرافة... ثم بالتحديد بين نظرة الى الدين منفتحة على العالم تقبل الحوار مع ما هو مختلف، وبين نظرة أخرى يرعبها كل منطق وانفتاح. وطبعاً سنفاجأ، في نهاية الأمر، بأن حل ألغاز الجرائم انما هو مرتبط كلياً بذلك الصراع اللاهوتي - الفكري.
> ذلك ان هنا بالذات، يدخل أرسطو ومنطقه، من طريق الترجمات العربية، وتحديداً من طريق تفسيرات ابن رشد الأندلسي له. ابن رشد هو المحرك هنا، والموضوع هو أرسطو... أما النقطة الأساسية لكل الأحداث فهي مكتبة الدير، التي تبدو كالمتاهة. والمكتبة داخل الدير هي، كما يقول الباحثون صورة حقيقية لغموضه، لكنها في الوقت نفسه - كما يشير ايكو وكما يقول مؤرخ العصور الوسطى الفرنسي جاك ليغوف - المكان الذي يولد منه العصر الحديث، هذا العصر الطالع من رحم فكر أرسطو وجهود ابن رشد.
> أما الجرائم التي تحدث، فإنها تحدث، بالتحديد، لمنع تلك الولادة. و «الولادة» هذه، على ارتباط مع الضحك كوسيلة لانبعاث حرية الفكر لدى الانسان. والضحك موجود في بعده الانساني داخل كتاب لأرسطو، يحاول رجعيو الدير اخفاءه، فيما يسعى رجال دين آخرون الى قراءته، وسط ظلام المكتبة. وهذا الكتاب الذي هو في الأصل وسيلة تنوير لا بد من أن تصل الى الناس جميعاً، يكون هو تحديداً الأداة التي يستخدمها الرجعيون لقتل دعاة التنوير. وهذا ما سيكتشفه دي باسكرفيل... رجل التنوير والعقل الحقيقي الذي إذ يصل الى الدير مكلفاً بالتحقيق، يأتي حاملاً معه أفكار معلميه الانكليز التنويريين من أمثال فرانسيس بيكون والاوكامي. (والاثنان كانا من كبار أهل الرشدية في الفكر الأوروبي)... وهذا ما يمكّنه، وسط سجالاته التنويرية والانسانية، من حل الألغاز وكشف الجرائم ومدبّريها. غير ان هذا سيؤدي الى احتراق المكتبة. وهنا يقول لنا دي باسكرفيل: لم نحزن... طالما ان المكتبة ليست في ماهيتها، بل في من يهيمن عليها. والمهم ان ما يحدث لها وفي الدير، انما يكون اشارة حقيقية الى انبعاث عصر الانسان... أي الى بدء النهضة. وهكذا - عبر هذا الربط بالجرائم وبالفكر الكنسي والصراعات التي عرفها هذا الفكر في ذلك الزمن - قدم لنا اومبرتو ايكو صورة مشرقة لانبعاث عصر الانسان... لكنه في طريقه حدّد ايضاً تلك السمة الأساسية التي لا يفتأ قراء الرواية البوليسية يتعاطون معها من دون القدرة على إضفاء طابع نظري عليها: سمتها كمكان يتجلى العقل فيه أكثر ما يتجلى، طالما ان حل كل لغز بوليسي في أية رواية جديرة بأن تعتبر رواية بوليسية حقيقية، انما يقوم على مبدأ العقل والاستنباط المنطقي، ما يعني ان كل رواية بوليسية هي قبل أي شيء آخر درس في المنطق، أي عودة الى أرسطو. وفي هذا المعنى تمكن امبرتو ايكو، بعد ولادة الرواية البوليسية الحديثة بأكثر من قرن، من إعادتها الى رحمها الشرعي: المنطق... كما تمكن من أن يسهل وصول فكر المنطق هذا، الى الناس.
> ويقيناً ان هذه السمة هي التي أنجحت هذا العمل الصعب والمكثف الذي كتبه مثقف ايطالي كبير. وإيكو المولود عام 1932، لم يكن معروفاً قبل «اسم الوردة» ككاتب روائي، بل كفيلسوف ومفكر وباحث في علم المعاني. وهو كان أصدر الكثير من الكتب مثل «العمل المفتوح» و «البنية الغائبة»... ثم، بعد النجاح الكبير الذي حققته رواية «اسم الوردة» كتب روايات كبيرة أخرى من أشهرها: «بندول فوكو» و «جزيرة بوديرلو» وفي الفترة الأخيرة «مقبرة براغ» (الرواية التي اثارت ضحة كبيرة واحتجاجات حتى من قبل صدورها والسبب واضح: انها تدور من حول نصّ «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي لطالما اثار الاحتجاج والسجالات جرى العرف والمنطق على اعتباره كتاباً مزيفاً)، من دون أن يتوقف عن اصدار الكتب العلمية والتدريس الجامعي وخوض المعارك الفكرية من أجل التقدم والانسان.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق