مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الأحد، 19 يونيو 2011

تسونامي .

عبداللطيف الحسيني .
أبو آرتا – أبو فاطمة : إليهما .









إنّهُ تسونامي ,لن يتمكّنَ المرءُ -  أيّاً كانَ - صدّه أو الوقوفَ أمامَه لمنعه أو تقليل شأنه , أو وقْفه في الوسط , وهو الذي هَدَرَ,وسمعَ هديرَه المرتعبون , أو الذين ارتعبوا لأنه جاءَ مُطهِّراً, وأيُّ تطهير!
المرتعبون – الفاسدون شاءوا البطءَ فيه على أكثر تقديرٍ , أو ثباتَه عند حدّ رغبوه هم , و لم يدروا أنْ لا شفاعة عندَ تسونامي الذي أقبلَ ومعَهُ سنينُ قهر ٍ مكثَتْ سنين عددا عندَ مَنْ لقوا أثناءَها مرَّ الحياة و عندَ مَنْ قبّحَ دنيانا حلوَها (هنا المفارقةُ بينَ مَنْ يحسُّ بتغيير نمط عيش ). تلك السنواتُ قالتْ صمتاً وقهراً وكبتاً , ولم يعلم المنتفعون أنّ ذاك الصمت أوالقهر أو الكبت سوف يتفجّرَ لاحقاً . هذا ما يقولُهُ تشظّي (الإنسان المقهور) حينَ يغلي , وأيّ غليان .
رُكِلَ عهدُ الحياد الجبان عندَ حدّ تسونامي وتفتّت , لن يقبلَ أبناءُ وأحفادُ تسونامي حيادَ القائلين بحياء أو بدونه : لن يجرفني أو يمسّني عهدُ تسونامي هذا القادمُ بغير أنْ أتهيّأَ له !, لكنْ مَنْ ظنّ ظنوناً كتلك , عليه أنْ يراجعَ سوءَ أفعاله أو ظنَّه أنّ الثباتَ سنّّةُُ الحياة الأوحد واهماً نفسَه ومَنْ حولَه ممّنْ ابتغى نمطاً وحيداً أو لوناً رماديّاً للعيش تحتَ كنف (ربّ الأسرة ) , وقد قيلَت تكرارا تلك الصفةُ علناً وبصفاقةٍ دونَ حياءٍ بصوتٍ يعلو ليسمعَه الإلهُ الغضوب .
تفكيرٌ مشلولٌ , أليسّ كذلك ؟
تمكّنَ الشللُ منّا وأقامَ و طابَ له المقامُ زمناً قضمْنا فيه (أنيابنا) , وسطع نجمُ الخجل وخفوت الصوت ليصلَ إلى حدٍّ الهذيان الداخليّ و نقد العقل , فلا إمامَ سواه بعد تسونامي الذي فاضّ وشتّتَ شمل اللون الواحد .
إنّه تسونامي : فلا تغلقوا الأبوابَ والثغورَ التي ستُسوّى بالأرض , جاءَ (تسونامينا) بتعقّلٍ , "فكلّ عقل نبيُّ " كما أراده المعرّيّ وأردناه .

السبت، 18 يونيو 2011

الوشم : نصّ لطيفة لبصير .

كانت خطوط الوشم الدقيقة على ذراعه تعيدني إلى أزمنة غابرة، بقيت أحدق في ذلك الشاب الذي وضع الكؤوس على المائدة الصغيرة وفوق أظافره استقر طلاء أحمر أنيق. تأملته جيدا، إنه فتى وليس فتاة، هذا ما تخيلته بعد أن عاد إلى مكانه. كانت مقهى "القارب الثمل" ثملة كالعادة، حتى بالنسبة لمن لا يشربون الكؤوس. قال لي أحد الأصدقاء: هل تعرفين أن هذه المقهى تحمل اسم قصيدة رائعة لرامبو. كنت أعرف هذه القصيدة، وأعرف أن لها شهرة لم تنلها حين أنشدها الشاعر، بل بقيت لعقود من الزمن حتى اكتشفها شعراء سورياليون فكوا طلاسمها، فاشتهرت بعد صمت رامبو لسنوات طويلة، وحملت العديد من الأماكن اسمها مثل مطعم باريسي. كنت منشغلة أبحث في الوجوه عن شيء ما... عن عواطف الألمان الباردة التي تنقلها الكتب والصحف، لكنني لم أعثر على شيء ما، كل ما أدركته أنهم يتحدثون بهدوء تام، وهم يحدقون في بعضهم البعض، سواء من نفس الجنس أو من جنس مختلف. كانوا يشربون كؤوس البيرة العملاقة التي تعادل أحجامهم الممتدة أيضا، وكانوا يدخنون في الخارج وكأنهم منبوذون من الداخل. أتخيل أنهم سيثورون يوما ما على هذا الطرد للمدخنين، وأستعيد مقاهينا ومطاعمنا التي ما زالت ضاجة بالسجائر التي لا تنتهي. كان المكان يترنح ويتهادى، الأذرع الموشومة كثيرة جدا، ذلك الوشم الذي لا ينمحي، وأغرق في الوشم، وأرى جدتي التي كانت تحاول جاهدة محو ذلك الوشم الذي كان يربطها بعالم قديم. كانت تقول إنها لم تعد ترغب به، وتريد أن تصبح امرأة من زمنها، خاصة بعد أن زال النقاب الكلاسيكي. كانت جدتي قد استعملت جميع الوسائل التقليدية لمحو أثره حتى كادت أن تثقب الجلد، لينتفخ جلدها وتنام لفترة طويلة وهي تعاني من أثر الوشم على الجسد، وبعد أن زال الظاهر بقي الأثر الذي لا ينمحي موشوما إلى الأبد. كانت تلعن التقاليد التي جعلت الجدات يرسمن أشكالا متعددة من الوشم على أجسادهن...تخيلت لو كانت جدتي في هذا القارب الثمل وشاهدت حجم الأوشام على الأجساد وهم يتباهون بذلك، فماذا كانت ستقول؟ أشياء كثيرة لا يمكن أن تفسرها. السيدة التي كانت تجاور مائدتنا تهدهد كلبة صغيرة جدا، حملتها بعطف بالغ وهي تقبل فمها الأسود. كانت الكلبة مرتدية كسوة خضراء جميلة، وكانت السيدة وهي تحادث رفيقها تضع أصبعها في البيرة وتقدمه للكلبة التي تلحس أصبعها وتعيده إلى كأس البيرة وهي تراوح بين فمها وفم الكلبة الصغيرة. ماذا لو رأت جدتي هذا المشهد، لا شك كانت ستعيد الوشم إلى مكانه، وستلبس كل الكلاب الصعاليك ملابس جديدة للاحتفاء بأجسادهم المنهكة.
كنت أهرب من الوشم الذي كان بداخلي، كان يستعاد كل حين، وكنت في كل مرة أرى نقوشه وقد ازدادت في الحفر، وكنت أغيب تماما وأنا أستعيد مشاهد السنوات الماضية الأليمة، كانوا يغيبون تماما عنا هؤلاء الذين نحبهم بعمق، يختطفهم الموت فجأة، ينسحبون ليتركوننا للأثر، الأثر الذي لا ينمحي من القلب، هل كانت الوديان ستنزلني حيث شئت كما يقول رامبو؟
لم تكن الوديان تنزل إلا حيث شاءت، كنت أبحث عن عينيه وسط الجموع. كان دافئا جدا، مرهقا بعذوبة صغيرة، ينظر إلي من بين ترنحات الآخرين، لم يكن يمسك بأي قارب صلب. كان ثملا منذ البداية التي التقينا فيها، وكان يحدثني بوشوشة غابرة، واختفى وسط الظل، ليغيب تماما عن السنوات القادمة، وكنت أودع العام تلو العام وأنا أقتفي أثره مثل الوشم الساكن في قلبي. أتخيل أننا بعد أيام سنودع السنة القديمة إلى سنة جديدة تماما، وتتحول كل الأشياء والصور والأحاسيس إلى وشم لا ينمحي لتزيدها عتاقة الزمن حلاوة. عما قريب سأبدأ في رسم وشم آخر، وكلما ازداد عتاقته انحفر في داخلي إلى الأبد.
كان رامبو يردد قصيدته في هذا القارب الثمل وهو حيران في رقدته الأبدية:"أين ترى أحيانا| غريقا شارد الذهن| تلفه هالة صفراء| ممتقعة| يرسب إلى القاع| وهو مسرور."
وكأن الغرق والفرح لا يجتمعان، لكنهما يتجاوران حتما في ظل هذا القارب الثمل الذي نترنح فوقه ونحن في خضم الحياة بين الرغبة في النجاة والغرق الأخير، ولكن بينهما كانت الصور تنعاش بشكل آخر مختلف تماما، وعلي أن أبدأ بصرفها لصالحي، بقيت أستعذب كل الأشياء التي ابتعدت عنها وأوقظها كي تنتعش قليلا من النشوة وكي تطل معي فجر عام آخر، ورأيته هناك... كان يقف وحيدا، وكان ينظر إلي بعمق جميل، وكان يردد أحد المقاطع اللذيذة لقصيدة أبي القاسم الشابي:" أنت لم تخلقي ليقربك الناس، ولكن لتعبدي من بعيد..." ثم رحل.

أفقت وأنا أستحضر كل المقاطع الجميلة التي استعذبتها في زمني والتي وشمت حياتي للأبد، وأعدتها إلي كي أستقبل بها قاربا آخر يترنح كل عام، يبحث بذهول وسط الأهوال عن أصوات أخرى ترافقه في العام القادم وتجاور حياته ورغبته للأبد.
أشكال كثيرة وصور توشم حياتنا بلا نهاية، ننساها في بعض الأحيان ثم نعود لتذكرها كلما هبت أغنية تعيدها إلى الحياة، وكلما ازددنا بعدا عن الذاكرة حاولنا أن نعيدها إلينا وكأننا نخشى عليها أن تمحو الأثر الذي نرغبه. لا نريد أن تغيب الآثار القديمة عن أجسادنا التي تتغير يوما عن يوم... وحتما نرغب أن نتمايل قليلا فوق قواربنا التي لا تنتهي.

الخميس، 2 يونيو 2011

المرأة واللغة .

للكاتبة و الباحثة المغربيّة  لطيفة لبصير.








 إن علاقة الفرد باللغة تمر بعلاقته بالمجتمع، فاللغة مرآة ثقافية تثبت تمظهرات رمزية، وهي صدى لكل المسبقات الجاهزة.ومنذ ظهور كتاب “الجنس الثاني” لسيمون دو بوفوار تغيرت ثوابت كثيرة منها أن المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصبح كذلك نتاجا للمجتمع، انطلاقا من هذا الفهم نتساءل هل لللغة جنس؟ هل هناك أية علاقة جديلة بين اللغة والأشياء؟ ولماذا تحولت العديد من المفاهيم إلى لغات تدل على شيء محدد اجتماعيا بحيث لا يقبل الجدل؟ أسئلة وأخرى نطرحها بهدف استجلاء العلاقة القائمة بين المرأة واللغة في المجتمع؟
النساء والكلمات :
ترى الباحثة مارينا ياكيلو في كتابها الشهير”النساء والكلمات” أن هناك خطابا مزدوجا في الثقافة، وهو خطاب يخضع الأنثى لنفس الازدواجية والمعنى، وتؤكد على أن الهيمنة في اللغة هي للمذكر على حساب المؤنث، بحيث يتم إدماج الأنثوي داخل الذكوري في الصرف، وقد تمحى الأنوثة في الانكليزية مثلا. إن الجنس الذكوري هو الأكثر قداسة، ولذا فهو الذي يهيمن كلما تجلا النوعان معا، فالمجتمع يفضل الذكورة قبل ظهور الديانات، ولذا فحين جاءت الديانات استمرت صفة القداسة للذكورة، فالفعل الإلهي هو فعل مقدس، وبالتالي الإله واحد، ومن ثم فكل الصفات التي أصبحت تمنح للذكورة من خلال المجتمع هي صفات برزت مجتمعيا، وتفرعت حتى صارت مثل أشياء ثابتة ومصنوعة قبلا. ومن ثم فإن العلاقة بين النوع والجنس قد طرحت إشكالا آخر، بحيث أصبح النوع وكأنه نتاج لرؤية العالم. ويرى رومان جاكوبسون بأن النوع هو حامل لوظيفة مجازية، بحيث لا تدل الشجرة على شجرة فعلا، بل هي شيء تم التواضع عليه، وعليه فإن العديد من الكلمات أصبح لها معنى مجازي وكأنها خلقت فعلا كي تعبر عن ذلك. ويمكن اعتبار اختيار العديد من الكلمات الأنثوية أشياء قابلة للسؤال فقط، كأن نجد معان أنثوية من خلال ألفاظ مثل سيارة، دراجة، دراجة نارية، طائرة، وهي كلها وسائل لركوبها في حين نجد القطار مذكرا وهو الذي يمشي دون التواءات ودون أن يخرج عن السكة مثلا، غير أن الأمر قد يصير أكثر خطورة حين نجد أن القذف والسب يتم دوما عن طريق امرأة حتى لو كان رجلا، فحين نرغب الحط من رجل، فنحن نقول له: امرأة أو “امريوة”، وحين نرغب في سب قبيلته نقول له ابن العاهرة أو أخ العاهرة، فهو يسب بانتمائه لجنس المرأة، والمرأة دوما ما يتم سبها عبر أعضائها الجنسية، فهي تصير في أحط المراتب حين تنتقل إلى عضو متسخ. و ترى الباحثة فرانسواز إيرتيي أن هناك اختلافا بشأن العديد من المفاهيم، خاصة فيما يتعلق بالجسد، فالمني هو أحسن من الحليب، والرجل يفقد دمه في الحرب إراديا، في حين تخضع المرأة للعادة الشهرية بشكل لاإرادي. وهنا تبدو الأشياء وكأنها مسلوبة لدى الأنثى، في حين يمثل الرجل مالك القضيب وضع الفاتح والغازي والفاعل. إن العديد من المفاهيم بنيت اجتماعيا وصار لها كيان ومعنى متداول يصعب خرقه والنقاش فيه، وما الأسماء إلا نتاج للمواضعات المحددة سلفا.
فحولة اللغة :
إن اللغة ليست من صنع المرأة، لذا فهي موضوع لغوي كما يقول الغذامي، وليست ذاتا فاعلة. فالأصل في اللغة التذكير، ولذا يقول ابن جني: “إن تذكير المؤنث واسع جدا لأنه رد إلى الأصل”. فالفحولة في الرجولة هي سلطة، في حين المرأة الفحلة هي امرأة سليطة اللسان، وهي امرأة منبوذة اجتماعيا وثقافيا لكونها تتكلم في عشيرة الفحولة بلسانها السليط الذي يلغيها من مرتبة الأنوثة الصامتة المرسومة لها سابقا، ولذا نجد المقولة الشهيرة لبودلير:” كوني جميلة، واصمتي”، ففي هذه الثنائية تكمن الأنوثة وهي الجمال والصمت عن الكلام، لأنه ينقل المرأة إلى مفعول وأداة لتنفيذ الأوامر، ولذا ففي المجتمع نجد النساء اللواتي استلمن السيادة والقوة لا يحسبن ضمن عشيرة النساء، بل إن اللغة تحولهن إلى مسترجلات، ويتم التعبير عنهن بواسطة الرجال، أي أنهن دخلن إلى مراكز الرجال ألا وهي السياسة والتي تلغي الأنوثة من دائرة حسابها. إن اللغة الذكورية تفترض القوة والحروب، في حين تفترض لغة الأنوثة تصالحا مع الأمومة والفطرة، ولذا فإن المرأة تنتقل إلى مسار الذكورة حين تسود في خطاب لا تنتمي إليه، هو أساسا من صنع الرجل. ولا يسلم الأدب هو أيضا من هذه الازدواجية، رغم تطوره ورغم تراكم النتاجات التي أبدعتها النساء، فإنه ما زال تحت هذه الهيمنة الذكورية في جذوره وفي رؤيته للعالم.
لغة الآخر:
لا يمكن أن ننسى أن الرجل دون تاريخه في الكتابة قبل المرأة، فهو موجود ثقافيا وحضاريا وغرس جذوره اللغوية ورسخ بنياته ومتخيله فيها، ولذا فإن المرأة حين دخلت لمجال لم تكن موجودة فيه، فإنها اقتحمت بلسانه وصوته، وهذا ما يفسر ظهور الأسماء المستعارة سواء بأسماء ذكورية مثل جورج ساند أو جورج إليوت، أو أسماء مستعارة أنثوية مثل رفيقة الطبيعة أو بنت الشاطىء، وهي أسماء تحمل ازدواجية في الشخصية وخوفا من ضمير المتكلم الأنثوي الذي ليس له وجود في المجتمع. ولذا فلا عجب إذا وجدنا أدبا ملتويا يتخذ في كثير من الأحيان التعبير بلغة الآخر وبلسان وجوده، وبالرغم أن الكاتبة نوال السعداوي أصدرت كتابها “الأنثى هي الأصل”، فإنها في أدبها ما زالت تتحدث لغة أخرى تنتمي إلى لغة الذكورة وتقدم أدبا مزدوج الدلالة، يمكن القول عنه إنه خنثوي الأبعاد، أي أنه يضمر الأنثى والرجل وامتزاجهما، ويقدم صورة تخاف من ضياع القضيب أي السلطة التي يمتلكها الرجل بهيمنته في المجتمع، ولذا، فإن الكاتبة وهي تؤرخ سيرتها الذاتية في ثلاثيتها “أوراقي…حياتي” نجدها ترفض عالم الأنوثة وتنتقده لأنه عالم الارتخاء و”الحلاوة” التي تسلخ جلود النساء، ودون أن تشعر تجد ذاتها تعيد منظومة الرجل وتتكلم بلسانه بحيث تقول إنها ترتدي الأحذية الجلدية السميكة وترفض كل أنواع المساحيق وتصير امرأة خشنة، وهي كلها أشياء تنتمي للرجل مالك الهيمنة والقوة، لذا تجد نفسها ترغب أن تعيد منظومته. فهذا التصور يجعلها تعيد منظومة الآخر في هيمنته اللغوية لأنها دون أن تشعر، تجد أن السلوكات الأنثوية تعيد إلى الخلف، لذا تتخذ لذاتها سلوكا آخر ينتمي للغة أخرى أكثر قوة. وهذا ما يفسر خوف المرأة من ضمير المتكلم الأنثوي الذي يحيل مباشرة على الذات الكاتبة.
ضمير المتكلم الأنثوي:
بالرغم من أن هذا الضمير محطة سردية فقط، فإنه شكل في الأدب مزالق ومخاوف كبيرة، فالخوف من هذا الضمير جعل العديد من الكاتبات يراوغن في الحديث عن ذواتهن باسمه، ونجد أحلام مستغانمي حين كتبت روايتها”ذاكرة الجسد” كتبتها بضمير المتكلم الذكوري، وفيما بعد أعلنت عن أن هذا العمل هو سيرتها الذاتية. وبأنها كتبت بنوع من التزوير والتدوير، أي أنه ضمير يخيف لأنه سيتحدث عن الأنوثة. وحين كتبت مارجريت دورا روايتها”العشيق” وهي سيرتها الذاتية تركت المجال مفتوحا أمام القارئ ليعتقد ما شاء، سواء رواية أو سيرة ذاتية. إن الخوف من ضمير المتكلم هو خوف أيضا من الأنوثة، أي أن الأنوثة في اللغة مآلها التستر والانزواء إلى الخلف. إنها تكره الوضوح، لذا تعلن لغزيتها كما يقول فرويد، فهي لا تريد أن تكشف عن رغباتها، ولذا فنحن نجد أن السير الذاتية الأنثوية هي أكثر الكتابات رغبة في إخفاء لغة الجسد لأنه يكشف عن لغة الأنوثة، فالكاتبات لا يعلن عن هذه اللغة الجسدية إلا عبر وسيط الحلم، بحيث يتحدثن بواسطة الحلم فقط عن الرغبة الجسدية، في حين يتم كتمانها وإخفاؤها من لغة الواقع، وهن بذلك يتسترن عن صوت الأنوثة، في حين يمكن للأنثى أن تتحدث عبر التخييل الروائي عن رغبات الجسد أو إباحيته رغم العديد من الوسائل غير المباشرة مثل رواية”برهان العسل” التي تتحدث بواسطة لغة “المفكر” الذي يتحدث عن الجسد ويتلمس طريقه، ولكن كيف تكتب المرأة بلغة المذكر عن المؤنث، وكيف تستطيع أن تفكر بلغته في خلق الأشياء؟
تهذيب اللغة:
ترى الباحثة نورا غالي في مقالها “الكلمات الطابو والمرأة” أن المرأة لها علاقة مختلفة مع الطابو، بحيث أنها تتعامل معها بنوع من التلطيف، وقد تم إحصاء لوائح اللغة التي تستعملها المرأة، فوجدوا بأن المرأة تهذب اللغة وتصححها، كي تبرز بشكل مهذب ومنظم ومتصالح مع المجتمع. ولذا ففي لغة الشارع، لا نجد المرأة إلا مفعولا به في اللغة، وإذا وجدنا امرأة تمتلك لغة الشارع، فهي رجل لأنها تدخل عالم الرجال بفحولتها اللغوية غير المقبولة اجتماعيا، ولذا ففي الأدب يتم رفض تعابير لغوية فاضحة تستعملها الأنثى في الأدب، بدعوى أن المرأة هي كائن مهذب لا يحق له أن يتصرف في اللغة كما الرجال، وهذا ما يفسر رفض المجتمع لبعض الكتابات بدعوى أنها متحررة جنسيا كما الشأن في كتابات ليلى العثمان أو مليكة مستظرف مثلا. إن المرأة بامتلاكها القلم، ترفض أن ترى الآخر، فالعين القضيبية هي العين الرائية وهي الفاعل في الآخر، أي أن العين الرائية هي دوما عين مهيمنة وفاعلة، وهي التي تقوم بدور الغزو والفتح، ولذا نجد أن الأدب والتشكيل والسينما هي كلها أشكال تعبيرية ترى المرأة، وتبرز جسدها، وتلمعه، في حين يتوارى الجسد الرجولي ويختفي من دائرة الرؤية لأنه جسد غير مرئي على المستوى الجمالي، أو لكون الإثارة هي جسد أنثوي يمتلك لغة المفعول به في دائرة الرجال. لذا نجد الأديبات غالبا ما يبحثن عن ضمير المتكلم الذكوري الذي يمنح مساحات من الحرية ليتحدثن بلغة الرجل، إلا استثناءات أدبية قليلة حاولت في السنوات الأخيرة الخروج من أسر اللغة الذكورية لتصنع لغة الأنوثة .
صنع لغة الأنوثة
هل يمكن أن نصنع لغة الأنوثة ؟ هل يمكن للأنوثة أن تبني ذاكرة خاصة بها؟
اللغة لا تكفي كي يتم إقصاء التنوع الجنسي من المجتمع، فدونية التصورات والمفاهيم هي أشياء تشكلت اجتماعيا، وينبغي محاربتها في المدارس والمؤسسات ووسائل الإعلام إلى غيرها، لأنها تبنينت وأصبحت استعارات لاواعية تسير الذوات المتكلمة. وقد عمل النقد النسائي على تأسيس ذاكرة للأنوثة عبر إعادة النظر في العديد من الموروثات سواء تلك التي أرخت للأدب مثل نقد كتاب “زمن الرواية” لجابر عصفور الذي لم يشر في معرض حديثه عن السيرة الذاتية إلى أية كاتبة، ويمكن أن نشير إلى ظهور كتاب “مائة عام من الرواية العربية” لبثينة شعبان التي انتقدت إهمال مؤرخي الأدب للبدايات الروائية التي يبدؤونها برواية”زينب” لهيكل، في حين تعود البداية لرواية زينب فواز”حسن العواقب”، وأيضا تتبعها سبع روايات للكاتبة عفيفة كرم أولها “بديعة وفؤاد”. وقد أعاد النقد النسائي سواء الغربي أو العربي على بناء آخر لذاكرة قديمة، ولهذا ظهرت كتب هامة مثل كتاب “قالت الراوية” لهالة كمال، والذي أنتجت فيه العديد من الكاتبات حكايات تحكيها نساء بغرض تأسيس حكايات بديلة لا تقوم على العنصرية ضد النساء، ومحاولة بناء لغة بديلة لللغة المسكونة بوعي غيري.
إن محاولة بناء لغة بديلة وتغيير مفاهيم سواء عبر الأدب أو تأريخه، أو إعادة قراءته من جديد بهدف تغيير أنماط الرؤية السلبية فيه هي محاولات جادة وهامة، غير أنه تلزم قرون كي نغير الموروث اللغوي الذي نستعمله لأن اللاوعي فيه مبنين كلغة محملة بالعديد من المفاهيم السلبية عن المرأة.
إن علاقة المرأة باللغة تخص كل المجتمعات، حتى المتقدمة منها لأنها تحيا بداخلها كبناء لهيمنة الذكورة عن الأنوثة، ولذا على الكاتبات أنفسهن الكتابة عن الأنوثة اللغوية لأنها ما زالت في حاجة إلى عمل آخر. فهن يعبرن عن الأنوثة بمفاهيم الذكورة لأنها لغة الأب المهيمنة وهي اللغة السائدة التي يتحدثها المجتمع.

في شرح اللوحة .

غسان جان كير.

الحائطُ في دائرة السّجل المدني بعامودا يحتوي على لوحةٍ تشكيلية لا تحتاجُ لتوقيع فنان عالميّ مشهور كي تسترعيَ انتباهَ النُقّاد والعوام للمُشاركة في تحليل اللوحة أو تأويلها .
واللوحة لا يحتويها إطارٌ يُحدّد مساحتها , أو قُماشٌ يُرسمُ عليه , وليس لها اتجاهٌ يسير بعينيك بينَ معالمها , فلكل مُشاركٍ في رسمها اتجاهُه الخاصّ في محو آثار الحبر التي بقيتْ على أصابعه العشرة , مِن اليمين لليسار أو بالعكس أو مِن فوق لتحت أو بالعكس , وبتركيزٍ مُكثّف في بدايتها المُقابلة لطاولة مُدير السّجل لتبدأ بالتلاشي كلما ابتعدتَ عن الدائرة . واللوحة بما تحويه مِن البصمات تُذكّركَ بِعشرات العرائض كانت تحتوي إلى جانب التواقيع  فكيف بالبصمات , مُطالبة بِحل مشكلة المُجرّدين من الجنسية السورية , وما مِن عينٍ تقرأ وما مِن أُذنٍ تسمع .
اللوحة لا تحتاجُ شرحا مِن مُوظفي تلك الغرفة , وحين يستعصي عليك الفهمُ , فلن تجدَ الجرأة في الاستفسار من وجوهٍ سِمتُها التجهّم خُلقة واكتساباً مِن الوظيفة التي تُحيلك إلى عوالم شخصية ( بيتروفيتش ) في ( قصة المعطف ) .  
والرمزية المُتوخاة مِن اللوحة يُمكن مُلاحظتها في تداخُل البصمات في مركز اللوحة؛ حيث يُمكن قِراءتها ب ( اللُحمة الوطنية ) التي كثُرَ الحديثُ والتغنّي بها هذه الأيامَ بالتوازي مع تدنّي أسعار بورصة اللحمة الوطنية ( بفتح اللام ), بعد أنْ فقدَ الوطنُ الكثيرَ مِن الأرواح زادتها الفجيعة بأنْ تتحوّل إلى مُجرد أرقام تُقسّم على المناطق أو الأيام . هذه الفجيعة التي أفقدتْ مُعظم مَن استردوا الجنسية السورية السرورَ والفرح , وهي ذاتها الفجيعة التي ما كان لها أنْ تحدُث فيما لو رأى كُل مسؤول نفسَه خادما للمواطن وليس العكس .
في الارفاق : خريطة قرى عامودا .