مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الاثنين، 28 فبراير 2011

عبد اللطيف الحسيني : كتابة الألم وألم الكتابة.

مصطفى النفيسي .
يعتبر المبدع عبداللطيف الحسيني أحد أعلام الكتابة الجديدة الموسومة بالحلم والإنصات لإيقاع الحياة. كتابة مختلفة تؤرخ لهشاشة الإنسان.وهي كتابة أشبه بالمغامرة.لأنني أتخيله وكأنه يمسك بريشة ويحاول رسم مشاعره ومشاعر الآخرين،أو بالأحرى القبض على تلك المشاعر بلطف شديد ووضعها في لوحة جميلة.كيف تصبح حيواتنا وحيوات الآخرين ممكنة داخل نص؟ أليست الكتابة نوع من العيش داخل نص؟ حينما تعرفتُ على نصوص عبد اللطيف الحسيني-وهي بالمناسبة نصوص باذخة كحدائق أندلسية-وجدت أن كتابته شديدة الوفاء لشيء اسمه الألم،وذلك ليس من خلال الانهزام أمامه بل عن طريق تجاوزه وتدميره بكلمات لا تترك مجالا للشك في قيمتها الإبداعية.كلمات كالجمر لا يمكن الإمساك بها بل تظل مستعصية وهاربة. ولكن لماذا الألم تحديدا؟ إن الألم هو الإنسان  عند عبد اللطيف الحسيني.الألم ماهية الكانسان.الألم هو ساحة للركض لا تنتهي أبدا.ساحة لا تحتمل المزيفين أوعشاق جلسات التجميل.الألم هو الصوت الجميل الذي يطلقه الكائن الإنساني النبيل.لذلك نجده  يكتب وهو يؤمن بأن أي كتابة متعالية وموغلة في وحل التخفي ستكون عبارة عن فقاقيع صابون ذات الانفجار المكتوم الصوت والمبتذل. إنه يتوخى الكتابة الجادة والرصينة إن لم أقل الملتزمة والمحايثة لكل ما هو إنساني.إنها كتابة أشبه بالوشم على جسد.كتابة ذات أثر وصدى. ولكن لماذا الألم مرة أخرى؟ إنه النتوء الكبير في حياة أشبه بستارة أبلتها السنين.حياة متمنعة كلوحة كئيبة في جدار عال.وهذا هو ما يجعل المبدع عبد اللطيف الحسيني يسعى دوما إلى تدمير الألم داخل نصوصه ليخلق فرحا آخر.فرحا باطنيا غير مرئي.لا يحسه إلا من جرب لعبة الكتابة. إن الكتابة عند عبد اللطيف الحسيني ليست بالكتابة السهلة ،بل هو يكتب بحذر شديد وبتقتير كأنني به يخاف أن يقع في مستنقع التكرار والابتذال.يبني نصوصه بتؤدة وتركيز.لذلك تجد نصوصه أشبه بزنابق صغيرة،لكن بعطر فواح مسرف في الجمال.  نجده يقول مثلا في نصه "لقطة":
"يَرمي شَوكةً في الطريق , فتتكاثرُ الأشواكُ في أيّ طريق تشاء : ذاك أنا حينَ أجرُّ الطرقَ خلفي وأنا ألهثُ , فتسقطُ مني أصواتي لأعودَ كمَنْ يلتقطُ كلَّ حبّات الرّمال طوَالَ الحياة. تلك حروفُ اسمِهِ تبعثرتْ , ولم يبقَ فيهِ احتمالٌ ليجمعَها , كلُّ مَنْ مرَّ بها سرقَ حرفاً , فبقيَ يتيماً : ذاكَ أنَا حينَ أمرُّ و يناديني أطفالُ حارتنا من فوق الجدران" وهو نموذج واضح للخواء الذي يلف عالما أصبح كفوهة بندقية صدئة. كما نجد عنده نوعا من الحنين مشوبا بالألم إلى أمكنة بعينها.حيث نجده يقول مثلا في نصه "النهر":"كأنّي أتنفّسُهُ، أتنفّسُ جحيماً حينَ أذكرُهُ، كأنّ أفعىً نفخَتْ في ترابٍ فجاء على شكل منعطف يرمي الصبيةُ فيه شغباً ألتقطُهُ قبلَ أنْ يُرمى .أيّها النهرُ: أينَ خبّأتَ كلَّ هذي الظّلال التي مرّتْ بكَ أو مررْتَ بها فسحبْتَها إلى شهيقكَ ."وهنا كما يبدو ليس النهر في حد ذاته ما يعنيه ككاتب.بل هو عالم الطفولة الذي تبخر كما تتبخر حبة نفتالين.عالم الطفولة الذي تم اغتياله.وهي إشارات إلى عدم الاقتناع بما يحدث،وربما هو تعبير عن العجز عن تغيير معالم الكارثة. ونجد نفس الحنين وان بصيغة أخرى ،ولكن في نص آخر بعنوان "بيت جدي"،اذ يقول:"جدّي الذي بيته من عراءٍ يتعرّف عليه مَن أضاعَ القرية ، و تملأ عيونَه خرقةٌ خضراءُ تمنعُ مَن يقتنيها شرَّ العيون." وهو حنين كما قلنا إلى الزمن الجميل ،حيث بيت الأسرة الممتدة العامر والدافيء.وهنا سأتجرأ وأقول أن هذا انتقاد صارخ للحياة الخاضعة لمنطق الحساب والتوازنات الاقتصادية،حياة تسير وفق إيقاع ركيك تغلب عليه القسوة والميكانيكية. إن عبد اللطيف الحسيني ،ومن حيث هو يعي جيدا أن الكتابة الجادة هي ليست وسيلة للوصف فقط وخلق المتعة،فقد اختط لنفسه طريقا نحو العمق،طريقا ينبذ كل ما هو سطحي ،بل يمكن القول أنه يخوض من خلال الكتابة حربا ضد النسيان وضد التشويه الممارس على الأشياء الأصيلة التي تؤرخ للإنسان الحقيقي.
مصطفى النفيسي : كاتب وقاص من المغرب .

الخميس، 24 فبراير 2011

تأخَّرتَ يا محمود

(درويش و بركات)
سليم بركات

تنفّس الموتُ في وجهيَ، هذه المرّة؛ تنفّس عميقاً في المكان، الذي رسمتَ خريطتَه على صفحاتٍ من كتابك الأخير "أثر الفراشة"، يا محمود.
نسيتُ، ربما، أن أزوّد تدوينكَ عن بيتنا، في غابة سكوغوس، شجراً أكثر، وطيوراً أكثر، وأنت تستعرضني طاهياً، متذرعاً بأفاويه الكاتب وتوابله. قلتَ: "تناقلتُكَ بلسان كتابتي، مراراً، كشاعر. سأتناقلك، الآن، كطاهٍ". وفي مطبخي ذاك، الذي ابتكرتُ فيه، إذ زرتَني قبل سنتين، خيالاً لمساءيْن من اللحم طريفاً، نقلتْ زوجتي سيندي الموازينَ الكبرى للألم إلى جهة العاصف: كانت واقفةَ قرب المنضدة حيث أجلس. ألقت بصرَها، على نحو لم أعهده، عبر النافذة، إلى غمامات الفيروز من شجر الصنوبر، والحور الرجراج. لمستُ بيدَي قلبي نظرتَها النقيّة كبكاءٍ تتكتم عليه الشِّفافةُ المعلَنةُ. سألتُها: "ما بك؟". ردّت: "لم تعد تخبرني، إذ أعود إلى البيت، أنّ محموداً اتصل بك".
أبكيتني مرّتين، يا محمود. مرّة حين رميتَ على عاهن البسيط كلماتٍ لم أصدّق أذنيَّ أنني أسمعها. قلتَ، بالإنكليزية، في ندوة جمعتنا بإحدى مدن أسوج: "بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات". وإذ صدّقتُ أذنيَّ، اغرورقت عيناي، بل بكيت صامتاً: جليلٌ مثلُك، ضمّ عصراً أدبياً إلى ظلّه، لا يحذر اعترافَه العابرَ، الذي يُبكي مثلي.
كنتُ أعددت مغلفاتٍ قليلة جداً، تحمل عناوين أصدقاء أقلّ من قليلين، مذ أُبلغتُ أنّ البريدَ يحمل لي نسخاً من كتابي الأخير. لطالما سألتَني، وأنت قارئي الأكثر بكورةً على عادة شغفكَ بمساءلتي عمّا أكتب، تفصيلاً: "ما مصادر لغتكَ؟ ما مصادر خيالكَ؟". سؤالك محيّر يا محمود. لم أتفكر في جواب، من قبلُ، أو من بعدُ، إلا أن أعيده مرتداً إليكَ، هذه المرّة: ما مصادرُكَ، انتَ، في تحويل غيابك إلى زلزال؟
حين وصلتني نسخ من كتابي الأخير، يا محمود، فأودعتها المغلّفات الممجّدةَ بعناوين على قدر أصابع اليد، وجدتُ شرخ الزلزال قد بلغ العنوانَ، الذي وسَمْتُه بحروف سكناك. لم ترتجف يدي، قبلاً، كارتجافها وأنا أهمّ، متردداً، بوضع نسخةٍ في المغلّف الحاملِ اسمكَ، في اليوم السادس، أو الثامن، من مغادرتكَ محطةَ جسدِك، في الرحلة إلى الأبدية.
تأخر وصولُ النسخ إليَّ في البريد، قليلاً، يا محمود. تأخرتَ، أنتَ، في تأجيل قلبك عن موعدٍ لم يكن منصفاً، ضرورياً، مرتّباً، مدروساً، مع الحافلة التي أقلّتكَ، من محطة جسدك، إلى إقامتك النهائية في اللاموصوف.
لكنني سأصحح الأمر: نسختُكَ من كتابي الأخير محفوظةٌ، بتمام ما ظنَنْتَه جنوناً في موضوعه، مذ أرغمتَني على البوح ببعضه موجزاً. سأحملها، بيديّ، إلى المقطورة التي تستقلّها، في عبور الأبدية، إلى الأبدي.

الثلاثاء، 22 فبراير 2011

نهر.


إلى دارين : ابنتي .

كأنّي أتنفّسُهُ , أتنفّسُ جحيماً حينَ أذكرُهُ , كأنّ أفعىً نفخَتْ في ترابٍ فجاء على شكل منعطف يرمي الصبيةُ فيه شغباً ألتقطُهُ قبلَ أنْ يُرمى .
أيّها النهرُ : أينَ خبّأتَ كلَّ هذي الظّلال التي مرّتْ بكَ أو مررْتَ بها فسحبْتَها إلى شهيقكَ .
أيّها النهرُ: ها أنا أمدُّ يدي لتمشيَ عليها مَرَحَاً لا يعدِلُهُ مرحُكَ حينَ تجلسُ الفتياتُ بجانبكَ .
: ها يدي زورقٌ يمشي على مائِكَ الوهميّ الفيّاض .
اهطلْ علينا أنتَ الذي لا ماءَ عندكَ , أيُّها النهرُ : ها أنا نهرُكَ وقد أصحبتُ جَدّي الذي يخبّئ رأسَهُ بيديهِ حين تأتيه شتائمُ الصبية , و كأنهُ – كأني – المُتهمُ بشرب كلّ هذي المياه .
مَنْ أَوقفَكَ قبالتي لأراكَ يتيماً .. خاسراً كأنّكَ – كأنّي - قادمٌ من معركةٍ طُعنتْ من الخلف فيها ؟.
لا تحدّثني عن خساراتِكَ أيّها النهرُ , فلي منها ما يملأُ كلّ جوانبي .
كنْ كما عهدْتُكَ : يخافُ هديرَكَ مَنْ يمرُّ بكَ هارباً وأنتَ تلاحقُ , لتلتهمَ ظلالَهُ .
كنْ كما عرفَكَ الصبيُّ : ماءٌ ميّتٌ أو عشبٌ يخجلُ من ذبولِهِ في الربيع .
......
هذي المياهُ التي لا تراها في النهر , إنها دموعي كي يرمي الصبية سفنَهم الورقيّة فيها .

الاثنين، 21 فبراير 2011

الجزء الرابع من العقد الفريد مفقود

عامودا السبعينيّات .

إنه ليس الكتاب الوحيد الأهم الذي يتدفأ به شتاءً من أصابتهم حمى قراءة الكتب التراثية، و يبترد به صيفاً، الندماء في مدينتي؛ لكنه لا يغادر سطحاً مشمعاً تحسبه برتقالياً لوهلة، لكن لا لون له حين تصافح عيناك، ذاك السطح لطاولة خشبية مصنوعة على عجل، وكأن الشيخ أرادها مهدودة، فرقعها النجار بعصبية تحت إلحاحه ذاك، ربما أنجزت الطاولة بساعة من عمل لا دقة فيه، لكنها صمدت لتنافس رأي النجار بأنها ستتداعى خلا ل أيام.
بعد مرور ثلاثين عاما (مذ رأيتها) قرأت أربعة وجوه، لأربعة أشخاص، يتجمهرون حولها، وكأنهم يقرؤون نصاً مطلسماً: الشيخ بشرحه وتعليقه على ما يقرأ مناوبة، والفقيه بتعليقه مناصراً الرأي السابق للشيخ ، و الصوفي متغنياً بأبيات لا أحد يردّه إن أعجبه بيت من قصيدة صوفية بصوته المبحوح، ويشاركه الثلاثة بإشارات الرضا بأفواههم، أو بعيونهم؛ غير أن الرابع الكفيف منهم يبقى صامتاً... حيادياً، لا يجيب إلا إذا سُئل، وإن أجاب فيقول: "أنا أرى".
***
كانوا ثلاثة يقرؤون الجزء الرابع من العقد الفريد، وضاع في اليوم الثاني الكتاب حين أرادوا أن يتمموا ما انتهوا إليه في اليوم السابق.
ثمة شخص اخترق حجرة الشيخ المطلة على الشارع، فاستهواه تجليد الكتاب بدقته ولونه وغرابة اسم مؤلفه: "ابن عبد ربه الأندلسي"، فاختلسه، وكان مالك الكتاب يقول: إن الكتاب سيردّ إلى مكانه، ألا يقال من محتوى الكتاب حين قرئ بأنه بضاعتنا وقد ردّت إلينا؟
لماذا لم تصب يد المختلس رعشة حين آثر أن يأخذ الكتاب، ألا يقال عن هذه الحجرة بأنها دار عبادة وعلم؟!.كان بامكان الشيخ أن يصلّت ملائكة سوداء، لتجعله محنطاً حين مسّت يده الكتاب لسرقته.
في اليوم الذي ضاع الجزء الرابع واسطة العقد- ، من الكتاب (الجزء الذي خصه مؤلفه عن الطرائق الآثمة لقتل آل البيت)، وكان الثلاثة يتفقدونه، جاء نبأ وفاة الرابع منهم، ذاك الذي شاركهم سنوات في القراءة والتغني بالقصائد الصوفية.
***
وفاة الفقيه أنست الثلاثة كلّ الكتب التي تدارسوا فيها معاً.
الجزء الربع من العقد الفريد كان يعرفه الفقيه مجرد أن تلامس يده الكتاب، وأيّ كتاب آخر، فكان الشيخ يمتحنه، فيحّمله كتاباً، فيقول الضرير: إنه (حلية الأولياء) ويحمّله كتابا يشبه سابقه، فيقول الضرير: إنه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك.
نعي الثلاثة للضرير كان على شكل قول "للحسن البصري":
إن الموت لم يترك لذي لبّ فرح.  

بَيْتُ جَدّي


  ( لا بدَّ أنْ أملكَ الأرضَ.)
- السّهروردي  .

جَدّي الذي لا يسمحُ أنْ يهتزّ حرفٌ من اسمه ، ليكونَ وحيداً بينَ الأسماء ، وألّا يُطلق أحدٌ اسمَه على أبنائِه ، خوفَ أنْ يتكررّ شبيهُه ، خوفَ أنْ يلتفتَ إلى مَن ينادي على طفل سُمّي باسمه ، خوفَ أن يُشتمَ طفلٌ يحملُ رنينَ اسمِهِ .

جَدّي الذي يلتمُّ حولَه الصّغارُ مفترشِين الحروفَ الأولى على حصى الأرض التي يتراشقون بها ، فتسكتهم عصا جَدّي .
جدّي الذي بيته من عراءٍ يتعرّف عليه مَن أضاعَ القرية ، و تملأ عيونَه خرقةٌ خضراءُ تمنعُ مَن يقتنيها شرَّ العيون.
قبر جَدّي فوقَ رابيةٍ رآه جمعُ القرى : الألمُ يغطّي وجهَه و الحروفُ تتساقطُ من فمه:  يراه النائمُ ميّتا , يشتعلُ جَدّي بياضًا, وفوقَ مزاره فانوسٌ يضيء عتبات القرية , تقولُ القرية : رأيتُ جَدَنا يأتي صوتُه من كلّ البيوت , يضيءُ صوتُه دربًا قاحلًا نمشي فيه . 
بيتُ جَدّي خربة يتذكّرها أصدقاؤه : مرّ من هنا حاملاً كتبَه الكبيرة التي تُشمًّ منها رائحةُ الصّفرة الكابية .
تحتَ هذه الشّمعةِ  دوّنَ كتاباً لا ينتهي ، هنا أطعمَ القطط الأليفة ، و لفّها بعباءَتِه ليغنّي موّالاً شجيّاً .
---------
ألا تراه ؟ : يحملُ مخدّةً ليرتاحَ في أيِّ منعطفٍ يصادفُهُ ، يوقفُ السّفنَ الورقيّة التي تمرُّ بجانبهِ في النّهر . وإن جاعَ يقطفُ تمراً من الشّجرة التي تظلله .

وإن مَلَّ ، فأيُّ صبيّ سيمسك بيدِهِ ليدلّه على منزلِهِ .

أمَامَ امْرأةٍ .


تنظرينَ في السَّمَاءِ , فتتساقط ُ الأَنْجُمُ عَلى شَعرِكِ, شعرُكِ – النجومُ حينَ تمرّينَ بي , تلقينَ نجمة ًعلى الطريق ِ لتُشعلي دَربيَ المُرَّ . إنّها السَّمَاءُ تهبط ُعليَّ غيمة ً … غيمة ً تُسمعُني بخطواتِكِ مقتربة ً تُحرِقُ ما بقيَ فيَّ من انتظارٍ خجول ٍ أمامَ باب ٍ مُواربٍ , إنّهُ بابُكِ أُغلِقَ دوني لِئَلا أشمَّ راحتيكِ , وأسمعَ صوتَكِ السماويَّ حينَ تنطقينَ اسميَ الصَّعبَ . أرجوكِ أيّتها السَّيِّدةُ لا تُسرعي باسمي , بل قولِيهِ حرفاً … حرفاً , لأُحسَّ بالدفءِ يغزو جسدي قطعة ً … قطعة .

سأم:

على نفسِهِ فليبكِ مَنْ ضاعَ عمرُهُ . :( ابن الفارض )

1-
الشجرةُ المرميّة تُصفرُ أوراقَها ….. تتقصّفُ تحتَ رجلكَ حينَ تمرُّ بها , نفسُها تبتهجُ بضحكةٍ شجريّةٍ حينَ تبتعدُ .
2-
ذاكَ النهرُ يخوضُ العراكَ مع الماء , نفسُ النهر يجفُّ حينَ تريدُ شربة ماءٍ لتحيا .
3-
المرأةُ الدائمةُ الضحكِ , تفرّحُها وحدتُكَ الطارئة.
المرأةُ التي تعزفُ الكمانَ ابتهاجاً بغيابكَ ,نفسُ المرأة كانَ صوتُ الكمان يُسمّمُها.حينَ تبتسمُ لحظةً .
4-
لنْ أُظللكَ : تقولُه الشجرةُ .
لنْ أمرَّ فوقكَ : تقولُه طيورُ السماء .
أنا ظلُّكَ الأبديُّ : يقولُه السأمُ .

أسرار .

قلْ لها : لمْ يكنْ صوتي ما سمعتِه , بلْ وهمٌ عَرَفَ كيفَ يُضحكُكِ . لمْ يكنْ ضحكي ما تألّمْتِ بهِ , بلْ روحي التي تتفتّتُ حتّى تصلَ إليكِ , لمْ يكنْ جلوسي على ترابِ الطريق ِ , كانتْ يدي المشلولةُُ تعبثُ بشعرِكِ الغائبِ الذي يغطّي وجهي الهشَّ . قلْ لها : ما أكتبُهُ ليسَ لكِ , إنهُ لعاشقةٍ تخاصمُكِ سرّا ( وهي مثلي لا تقولُ لكِ ). ما ترينَه وحدَكِ عميقاً كصوتِ الكناريّ , هو نفسُه يقولُه لغيركِ , تحسّين بهِ ( أنتِ مثلي لا تقولينَ له ) . لا تقلْ لها : إنكَ تجلسُ تحتَ شجرةٍ وحيدة لتبكي , فتمتليءُ يدُكَ بدموعها ( باتتِ الشجرةُ مثلكَ لا يقولُ لها ) .

حُطام .

إنّهُ صفرةُ تلكَ الورقةِ التي تتقصّفُ تحتَ الأرجل , إنّهُ التقصّفُ ذاتُهُ الذي يملُّهُ مَنْ داسَهُ خطأً ,
إنهُ غيمةٌ ينتظرُها عَطِشٌ , وتظلُّ غيمةً : لا تُمطرُ و لا تزول .
إنّهُ الوجهُ الذي لا يغادرُهُ الشّحوبُ , الوجهُ الذي فرّ مِنَ المعركةِ , وراياتُ الهزيمةِ مغروسة في قلبهِ دونَ أنْ يُحسَّ .
إنّهُ الخائِنُ أوقفَهُ الضابطُ أمامَ الجنود ليضحكوا عليْهِ ,
إنّهُ انتظارُ المرأةِ الأبديُّ أمامَ البابِ . إنّهُ البابُ يصبحُ رَمَاداً لو مرّتْ بجانبهِ لمسة مريض .
إنّهُ العجوزُ يحملُ زوّادَتَهُ على كتفِهِ بطرفِ عصاهُ مُغادِرِاً حارتَهُ , ولعناتُ أحفادِهِ تُلاحِقُهُ .
إنّهُ السُّعالُ الحادُّ حتّى الصباح , السّعالُ حِينَ يُوقظُ جارا مريضا ,
إنّهُ الذاهبُ إلى المقبرةِ فلا يجدُ مكاناً ليدفنَ فيهِ ما لمْ يبقَ فيهِ مِنْ حياة .
إنّهُ كلُّ القبور حينَ تُداسُ أيامَ الأعياد .
إنّهُ العيدُ الذي ماتَ فيه كلُّ الأحبّة .

صورةُ الفنّان موشوماً .


الآنَ يا آزاد , وَقد ارتحْتَ , وأرحْتَ خَدّكَ الموشومَ على ترابٍ مُندّى , فهلْ شبعْتَ مَوتاً ؟, بعدَ أنْ خفّتِ الضّجّةُ
التي كنتَ تثيرُها بهدوئِكَ الذي لم نعتدْه في شوارعِنا الكئيبة - المليئة بأصواتِ لعناتِ الموبايل ذات النغمات الكريهة , وهي دليلُ ثقافةِ حامليه , ارتحْتَ منّا ومِنْ لعناتِنا التي لاحقْناها بكَ . أينما ولّيتَ وجهَكَ تابعناكَ في المدن القريبة و البعيدة ( وكأنّنا كثيرون – حاضرون في كلّ مكانٍ ), ولم تكنْ تُبالي بها ثانياً , لأنكَ لم تكن تبالي بنا أوّلاً : شتمناكَ بكلِّ اللغات , وبكلّ الإشارات المقذعة, و ابتكرْنا صفاتٍ غير موجودة في القواميس لنُطلقَها عليكَ , وكنتَ تدري أنّها لنا دونكَ , حيثُ صفاءُ الفنَّ منعَكَ حتى لتردَّها إلينا .حتى ولو...ولو بأقلَّ منها , هكذا عرفْتَنا . كما عرّفكَ بنا نُكرُ صفاتِنا و سلوكِنا المُدّعَى بالطهارة والنقاء ختلاً و دَجَلا , لكنْ في العمق : ما أقربَنا إلى الوحشيّة التي ننبذُها عَلَناً , وفي السلوك نطبّقُها خيرَ تطبيقٍ موزون ,لا شذوذ فيه و لا ادعاء, إذنْ ما أقبحَ الإنسانَ الشيطانيّ – السلطويّ فينا دونَ أنْ نحسَّ بهِ لحظة ً, دونَ أنْ نحاسبَه لثانيةٍ , فسحقاً لهذهِ الحياةِ التي جعلتِ الشتمَ اللازمة الوحيدة في حياتِنا التي لم تعدْ تُطاقُ دونَ فنٍّ ومسرح وموسيقا, بعدَما تاهَ أصحابُها أو تُوّهوا.
فهل لي الآنَ أنْ أدّعيَ : يا آزاد - الفنُّ احتضرَ بموتِكَ في هذهِ المدينةِ التي لم أرَها إلا محتضرةً ... فميّتة.ً
"""

المرءُ السّويُّ سيُجَنُّ لو لحقتْه مفرداتُ العتهِ مرّةً .. مرتين .. ثلاثاً , فكيفَ بآزاد الذي شتمَه أيُّ شارع مرَّ فيه , فالتصقتْ به كلمةُ ( المجنون : دينو بالكرديّة ) في كلّ زقاق ٍ موحل ٍ أو مغبرّ ٍ في مدينةٍ موحلةٍ مغبرّةٍ .
آزاد مجدو
كغيري ,سمعتُ أنّ (آزاد) رسمَ (اللهَ) , وليسَ كغيري اقتحمتُ غرفتَهُ التي "بملايين الجدران " لأرى ( اللهَ) لأوّل مرةٍ كما فهمَه ( آزاد) نوراً على نور من خلال اللون , لم أتفاجأْ بحسِّ وذوق (آزاد) , ولم أتفاجأْ بحسِّ وذوق مَنْ شتمَه و ضربَه و طردَه من جنّتِهِ .
"""

في كلّ خميس نزورُ مقبرتَنا لِنَرَى موتانا , و لِنشمَّ معَهم هواءً نقيّاً , وجدتُ قبرَ ( دينو) بعيداً ... ميّتاً ,وقد رُكِلَ و فُتِّتَ وهُشِّمَ : إنّهُ قبرُه, وقد دُفِنَ فيه حيّاً  .
""""
فيا (دينو) : أمَا كانَ منكَ أنْ تؤجّلَ موتكَ سنواتٍ لنتعلمَ منكَ فيضاً من النور الذي أردتَهُ عميماً ؟.

يأس.

أنا السطرُ الغامضُ في الكتاب الواضح والممتع , في الأفلام الهندية أنا البطلُ المهزومُ و السلبيّ . أنا المصباحُ ينكسرُ في ليلٍ مُعتم , ذاك العصفورُ الذي يُصادُ بسهولةٍ أنا , والدمعة الحارة و السهلة التي تسقطُ بألمٍ , وأنا الميّتٌ الذي لا يبكي عليه أحدٌ , أنا القبرُ الذي يمرُّ به الكثيرون و يركلونه دونَ ندم ٍ. في العرض المسرحيّ , أنا المهرّجُ طوال العرض . وأنا المقتولُ في بدايته . الطريقُ الذي لا نهاية له , الطريقُ الذي لا يسلكه أحدٌ : وحدي أمشي فيه . الرجلُ الذي لا تحبه النساءُ , النبتة الضارةُ في الحقل , الرجلُ الذي يطرقُ كلّ الأبواب , ولا يسمعُ طرقه أحدٌ , الرجلُ الذي يدخلُ المجالسَ , فيتشتتُ كلُّ مَنْ كان فيها .



الرجلُ



الذي



تمدّدَ



فوق سكة القطار , ولم يمنعه أحدٌ ,

كَالْبَرْق



  
سوسن حميدي – سعيد بودبوز : إِلَيْهِمَا كَالبَرْق .
لَوْ مَرَرْتَ بِي أيُّهَا المَيِّتُ لَرَمَيْتُ لَكَ حَيَاتِي قَطْرَةً … قَطْرَة .

اتركوهُ يَمَرّ مِثْلَمَا خَرَجَ مِنْ كَهِْفِهِ : هَيْكَلاً تُرَابِيّاً يُلَاحِقُهُ أطفَالُ حَارَتنِا بِرُقَعٍ مِنْ ثِيَابِهِ .

لَمْ يَتْركْ خَلفَهُ مَا يَدِلُّ عَلَيْهِ ،لا وَدَاعَاً ،وَ لا مِندِيلاً : عَادَ كَالبَرْق .

وَحْدَهُ أمَامَ المِرْآةِ يَتَقَرَّى وَجْهَاً غَيْرَ وَجْهِهِ ، وَ فِي الحَقْلِ يَسْتَظِلُّ بِفَيْءٍ مَا تَرَكَتْهُ الأشْجَارُ .

المِرْآةُ تُدِيرُ وَجْهَهُ كُلّمَا وَقَفَ أمَامَهَا .

الفَرَاغَاتُ المُتْعَبَةُ و الأشْبَاحُ الّتي لا تُخِيفُ إلا الأطْفَالَ : تلكَ حَيَاتِي حِينَ ألْتَفِتُ إلَى الوَرَاء .

أُمَدِّدُ رَقَبَتِي بَعْدََ أنْ أُعطِي لِلْجَزّار ِ مِدْيَةً حَادّة ً , فَتَمدُّ الصّحْرَاءُ شَسَاعَتَهَا لاسْتِقْبَالِ جَسَدِي قِطْعَةً … قِطْعَةً .

لقطة .

http://semakurd.net/arabic/permalink/3813.html

image


يَرمي شَوكةً في الطريق , فتتكاثرُ الأشواكُ في أيّ طريق تشاء : ذاك أنا حينَ أجرُّ الطرقَ خلفي وأنا ألهثُ , فتسقطُ مني أصواتي لأعودَ كمَنْ يلتقطُ كلَّ حبّات الرّمال طوَالَ الحياة.
تلك حروفُ اسمِهِ تبعثرتْ , ولم يبقَ فيهِ احتمالٌ ليجمعَها , كلُّ مَنْ مرَّ بها سرقَ حرفاً , فبقيَ يتيماً : ذاكَ أنَا حينَ أمرُّ و يناديني أطفالُ حارتنا من فوق الجدران.
....
يلتحفُ ظلّاً ليسَ له خبَّأ فيه ما قالَه العاشقُ لشهقة عاشقةٍ حين مرّ بجانب نافذتِها وهي تتذكّرُه بدمعٍ هتون , نفسُهُ اليومُ حينَ استجدى بظلّه الرّطبِ ليمشي قبلَهُ مرّةً واحدة في الحياة .
كأنّكَ ظلالٌ تركتْ أشباحَها و ألقتْها في فيافي الأرض تاركةً صوتاً متهجّداً .. متهجيّاً  : ع – ب – د - ا – ل – ل- ط – ي- ف .
نفسُهُ الصوتُ حين اقتربْتَ من مقبرة المدينة ليلاً يصاحبُكَ ظلٌّ ليس لكَ يُناديكَ بصوتٍ لم يسمعْهُ إلا ضوءُ السّماء الخافتة .
....
يرسمُ صورَ القوارب مُضيئَةً ليدفعَها بأيّ اتجاهٍ لا يشاء : ذاك أنا حينَ أحتدُّ .
يطبعُ قبلةً بيدِهِ خجولةً ويرميها في الطريق فتزدحمُ الفتياتُ في الطريق ذاك  : هذا أنا حينَ أحبُّ الحياة .

الكتب المطبوعة والنشاطات :

. 1نحت المدن الصغيرة
2 - نحت مدينة عامودا
3- كتاب عامودا
4- مسودات (نصوص نثرية)
5- في رثاء مدينة (مشترك مع الصحفي غسان جان كير)
6 – قيد الطبع (نحن الذين نسكن في الشمال - فصول مندثرة) .
7- كتابة الشعر و المقال الأدبي النقدي .