مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الأربعاء، 25 يناير 2012

البِنَـاءُ الفـارِغُ

صلاح بو سريف  

 
" بَيْتُكَ هُوَ قَبْرُكَ، بَيْتُكَ هُوَ حَشْرُكَ "
[النِّفَّرِيُّ]
[1]
العبارة لهايدغر. حين أَسْتَعْمِلُها هُنا، فأنا أذهبُ إليها، في سياق حديثي عن معنى " البناء" في الشِّعر.
أصبحنا اليومَ، في كثير مِمَّا نقرأ من نصوص شعرية خُصُوصاً ما يُنْشَرُ بدعوى التَّجريب، أو الكتابة، في أُفُقٍ مٌغايِرٍ، أو ما سَيُسَمِّيهِ البعض، بـ " ما بعد الحداثـة "، أو " قصيدة النثـر "، تحديداً، أمام نوع من " البنـاء "، هو ما نُسَمِّيه، وفقاً للعبارة السابقة، بـ " البناء الفارغ ".
أقصد بهذا المعنى؛ تلك الكتابة التي تخضع لِدَفْقِ الكلامِ، أي لِمَا يَنْسَابُ من كلمات، بعضُها يَجُرُّ بعضاً، ولا يُفْضِي إليه بالضَّرُورَة. فالكلامُ، هنا، يصير هو مدار النص، وهو ما يحكم " شعريتَه "، أو هو النَّصُّ، أو " البناء ".
ليس ثمَّة في النص إلاَّ هذا الكلام الذي يَسْتَدْعِي بَعْضَه؛ يترادفُ، أو يتجاوَرُ، دون أن يكونَ محكُوماً برؤية تَخُوضُ " البناء "، كأرضٍ، لِمَا هي بصدد بنائه. فالكلامُ هو شرط النص، لا البناء.
[2]
لستُ مَدْعُواً هنا، لأستحضر مفهوم البناء، كما حَدَّدَتْهُ الشعرية العربية القديمة، لعلَّ ابن رشيق كان كافياً لِيُزَوِّدَ ابن خلدون وغيره، بما آلَ إليه هذا المفهوم عنده، بناءً على ما جاءه من غيره، ومن مُقتَرَحات " القصيدة "، التي حرصت على بنائها، وأنْجَزَتْهُ نَصِّياً، أي ممارَسَةً.
الذي يَشْغَلُني هنا، هو ما تُواجِهُنِي به تلك النصوص التي أقرأها لشعراء من المغرب، كما من غيره؛ من جغرافيات عربية أخرى، من استعمالٍ للكلام، دون تَفْكِيرِ البِنَاءِ، أو وَعْيِهِ. وهذا ما سَيُفْضِي بي، وأنا أتحدَّثُ عن معنى البناء، إلى الحديث عن مفهوم آخر، مُوَازٍ، أو مُحَايِثٍٍ، بالضرورة، هو مفهوم التجريب.
[3]
التَّجريب، كما سَيُذَكِّرُنِي بذلك، الصديق القاصّ أحمد بوزفور في حوار له، هـو ما يأتـي بعد الكتابة، وليس قبلها. وهـو في ما أتصـوَّرُ، يقصد، أنَّ التجريب، هو ما يأتي بعد مُمَارَسَةٍ، تقتضي خوْض طُرُق الكتابة ومَطَبَّاتِها، أي مُزَاوَلَة المعرفة كشرطٍ، لا يُمكن للكتابة أن تَحْدُثَ دُونَه.
ليس مُمْكِناً خَوْض التَّجريب دون مَعْرِفَةٍ، أوَّلاً؛ بما تقتضيه الكتابـة كمِحَكٍّ، ومُوَاجَهَةٍ، في خِضَمِّها يَحْدُثُ التَّعَلُّمُ، وتَحْدُثُ التَّجْرِبَةُ التي تكونُ أوَّل مُنْعَرَجَات طريق التَّجريب. ألم يذهب هايدغر إلى أنَّ " كل طريق مسكون بآخَرِهِ "، أو هو، ما يُفْضِي احْتِمَالاً إلى غيره…
تجربة الشَّاعر هي إنصاتٌ، تَأمُّلٌ وقِرَاءةٌ. وهي اختبار للكتابة، ليس بالاكتفاء بما هو مُتاحٌ، بل بالبحث في كل ما يُمكنه أن يُساعِدَ على معرفة مُخْتلِف البرامج، أو المُقترَحات الشعرية، بِغَضِّ النظر عن زمان، أو مكان هذه البرامج، أو المقترحات. ما يهمّ، هو هذا الانشراح الذي يُتِيحُ للشاعر أن يَسْتَلْهِمَ أُفُقاً لِكِتَابَةٍ، رُبَّما يكونُ بدايةَ طريقٍ نحو تجريبٍ له ما يُبَرِّرُهُ.
في مثل هذا الوضع، اللغة تستحيل إلى معطىً، ضمن معطيات أخرى، كُلُّها تتدخَّلُ في " بناء " النص، وفي إنجاز خُصُوصياته، قياساً بما هو مُتَدَاوَلٌ.
إنَّ تَفْكِيرَ البِنَاء، يُعتَبَرُ شَرْطاً أساسياً من شُروط الكتابة، ليس ثمَّة ما يَحْدُثُ بالصُّدْفَة، بل ثمة ما يمكن أن يَحْدُثَ، في سياق هذا التفكير ذاته، وهو نوع من الصُّدَفِ المحكومة بشروط إنجازها وَوَعْيِها.
[4]
ما يُثِيرُ، في ما نقرأه من نصوص، تَنْتَسِبُ تَسْمِيَةً، إلى " قصيدة النثر "، هو هذا الاحتكامُ اليتيمُ للكلام. فأُنسي الحاج، مثلاً، حين كان يخُوضُ هذا النوع من الكتابـة، كان على وَعْيٍ بطبيعة ما هو مُقْدِمٌ عليه. فمقدمة ديوان " لن "، وما كتبه فيما بعد من إشارات، هنا وهناك، كلها كانت تَشِي بوعيٍ نظريٍّ، أو بتفكيرٍ في البناء، بغضِّ النظر عن مصدر هذا الوعي أو التفكير.
لم يكن أنسي الحاج يخـوض الكتابـة، كـ " لُغَـةٍ "، أو كمحاكـاة لِصُـوَرٍ و تركيباتٍ، هي ذاتُها التي تتكرَّر في تجارب غيره ممن جاؤوا قَبْلَهُ، أعني في تجربة الشعر الفرنسيّ الحديث تحديداً.
فهو كان مَحْكُوماً بتجربته هو، و بِوَعْيِ البناء الذي يخرج، في رؤيته كامِلَةً، عن شُرُوطِ بِنَاءٍ، كانت القصيدة قد أرْسَتْهُ، أو أنْهَتْ صُرُوحَ بنائه، و أسَّسَتْ له نظرياً، كما يذهبُ ابن طباطبا في " عيار الشِّعر ".
النصوص التي تَفِدُ علينا اليوم، ليست فاسِدَةً، بالمعنى الذي يضعها خارج الشِّعر. فهي، في بعض نماذجها، تَحْمِلُ في تُرْبَتِها بُذُورَ كتابةٍ لا يُمكن تجاهُلُها. لكن المشكلة توجد في كون هذه " التَّجارب "، لم تَعِ بَعْدُ شُروط بنائها، فهي كتابة بـ " بناء " فارغٍ. أو كما في عبارةٍ لابن رشيق، رغم أنَّه يذهبُ فيها إلى " المعنى " في " البيت "، فلا خير في بناء لا ساكِنَ فيه.
[5]
لا أدْعُو هنا، إلـى الامتلاء، الذي كُنتُ انْتَقَدْتُـهُ، واعْتَبَرْتُـه أحد مكـوّنات " القصيدة ". فالبناء الذي أنا بصدد الحديث عنه، هو وُجُود برنامج يحكُم بناء النص، ويُمَيِّزُهُ، باعتباره مُقْتَرَحاً شعرياً، له وعيُه النظري، وله طُرُقُه التي بها يَبْتَنِي أفق تجربته.
فابن طباطبا العلوي، مثلاً، هو أحد الذين امْتَلَكُوا وَعْـيَ البناءِ، لأنَّه كان فـي " عيار الشِّعر "، رغم سَعْيِهِ لِحَصْرِ أُسُسِ هذا البناء، يذهب إلى هذا المفهوم، انطلاقاً من الكُلِّ، أي من القصيدة، أو ما يُمكن اعتباره النَّسيجَ الكُلِّيَّ للنص.
وَعْيُ البناءِ عنده، كان شرطاً شعرياً، لا يُمْكِنُ للقصيدة أن تَحْدُثَ، أو تَكُونَ، إلاَّ بوجود " بناءٍ يُسْتَأْنَفُ مِنْهُ "، أو بوجـودِ بناءٍ " باقٍ لا يُسْـرِعُ إليه البِلَى " أو " يُخْشَى عليه التَّقَوُّضُ ".
البناءُ، وفق هذا المنظور، هو برنامج نَصِّيٌّ، و هو ما يجعلُ " القصيدة "، تكون ذات أُسُسٍ، و شعريتُها، تكون محكومة بهذه الأسس ذاتها، التي عملت الشعرية العـربية القديمة على اختـزالها في " القصيدة " كبناء ممتلئ، تَـامٍّ ومُنَتَهٍ.
[6]
في الوعي الشَّعري الحداثـي، وفي ممارسة الكتابـة المُنْتَسِبَةِ لهذا الوعي، ما يجعلُ مفهوم البناء مُرَكَّباً، أو مُتَشَعِّباً.
إذا كانت " حداثة القصيدة "، أو ما سُمِّيَ بـ " الشِّعر الحـرّ "، بَقِيَت مُخْلِصَةً لـ " القصيدة "، في أهمِّ مُكَوِّناتِها، بما فيها البيت الشعري ذاته، ولم تستطع أن تُحْدِثَ القلبَ المعرفيَ الكاملَ، مع الشِّعرية القديمة، فهي كانت، في أقلِّ تقدير، تسعى لِـ " مُسَاوَمَةِ " البناء القديم، لا تتجاوزُهُ، أو تقطع معه، لأنَّها، سواء لدى السيـاب، أو نـزار قبانـي أو أدونيس، أو صلاح عبد الصبور، أو أحمد المجاطي، أو الخمار الكنوني.. بَقِيَتْ مُفْعَمَةً بِوَتَرِ هذا البناء، و لم تستطع إحداث تلك النَّقْلَة الأساسية، التي سيصيرُ النصُّ معها مُتَشَعِّبَ البناء. مفهوم البيت ذاتُه، سيصير لاغِياً، لأنَّ الشعـرية المعاصرةَ، وخصوصاً، في ما سَمَّيْتُهُ بـ " حداثـة الكتابـة "، شَقَّت أخاديد جديـدة، وناهزت طُـرُقاً، لا عهدَ لـ " القصيدة " بها. نَصٌّ " لا يَنْفَكُّ يتَكَوَّنُ ويَتَشكَّلُ، أو يَتوسَّعُ و يزدادُ تعقيداً ".
ليس من " الرَّصانَة " في شيء، الحديث عن مَفْهُومٍ للبيت الشِّعريّ، وعن وقفاتٍ تَحْدُثُ في ارتباطٍ بهذا " البناء " ذاته! فالشعريةُ المعاصرة، في حداثة الكتابة، وَضَعَت القصيدة في سياقها الشَّفاهي، كما وضعت حداثة القصيدة، ذاتها، فـي سياق هذا البناء المُتَحَدِّرِ من وَعْـيٍ معرفيٍّ، هو غير ما آلَتْ إليه الكتابة اليوم، التي كانت القلبَ الجذريَّ لِأَوْضَاعِ الشعرية المعاصرة، وحَوَّلت النص من مُجَرَّد أصوات، أو دَالٍّ أكبر! إلى دوالّ تتفاعل بنوع من التجاوُب الذي لم تعد فيه الفراغات، أو البياضات تكفي لتحديد مكان البيت؛ مَوْقِعَه في النص، وهو ما يجعل من مفهوم القصيدة ذاته يتعرَّض للعَصْفِ، بل صار النص انْشِرَاحاً، البياضات والفراغات، هي دَوَالٌّ تُضاعِفُ من تَقَبُّلات النص، من قراءاته، كما تُضاعف شِعْرِيَتَهُ، وتخرجُ بها من البناء المُتَوَحِّدِ، إلى البناء المُتَعَدِّد، أي ما يجعل البناء يَسِيرُ وفق طبيعة التَّجربة، ووفق ما تُمْلِيهِ لحظة الكتابة، بكُلِّ مُمْكِناتِ انْشِرَاحِها.
[7]
الكتابةُ الخَطِّيَةُ لم تَعُد عُنصرَ تمييز بين " النثر " و" الشِّعر "، لأنَّ أوضاعَ هذه الكتابة، أصبحت مُتَشَعِّبَةً هي الأخرى، ولم يعد مُمْكِناً، وَصْلُ صَفْحَةٍ بأُخرى، أو عَطْفُ السابق على اللاَّحق فيها، لأنَّ كُلّ صفحة أصبحت تَمْتَلِكُ توزيعها الخاص بها، ولم يعد مُمكناً اعتبار " الكتابة الإملائية " وَحْدَها هي دالُّ هذا التـوزيع. فالنص اسْتَحـالَ إلى أراضيَ لا تَحْكُمُها مُسَلَّماتُ السَّفَـر القديـم، ولا مُسَلَّمات المفاهيم المُتَلاشِيَةِ، بل إنَّ تشعُّبات توزيعاته الخطية، وما يَحْدُثُ فيه من تَوَالُجَاتٍ، في مستوى العلاقات التي يُحْدِثُها مع مرجعياتٍ، ليست شعرية بالضرورة، أو تَنْتَسِبُ إلى " لغة الشِّعر "، كما يذهب إلى ذلك الفصل القديم بين لُغة للشِّعر وأخرى للنثر، أصبحت تَحْتَكِمُ إلى استراتيجية بناءٍ، التَّجربَةُ، بكُلِّ اشْتِبَاكاتِها، هي ما يُحَدِّدُ أفق بنائها. فنحن، على أيٍّ، أمام بنـاءٍ، لكنه ليس بِنـَاء أُسُسٍ، كما سعـى ابن طباطبا إلـى ذلك، فـي تعامُلِـهِ مـع " القصيدة "، بل بناء انشراحات وتَمَوُّجاتٍ، أو هو بالأحرى بناءً هيراقليطياً، بالمعنى الذي يُعطيه هيراقليط للشمس التي ليست هي نفسُها التي تُشْرِقُ كُلَّ يوم، أو هكذا نَتمَثَّلُها، وفق طبيعة الحالة التي نكون عليها، أقصد التجربة تحديداً.
[8]
البناء الفارغ إذن، هو كل بناء لا يَشْرِطُ الممارسة النَّصِّيَةَ بِوَعْيِ بنائِها، و هو أيضاً، كُلُّ بناءٍ ما زالَ محكوماً بـ " الأُسُسِ، أو مُقيماً في " البيت القديـم "، أو في ما يَتَرَتَّبُ عنه من تَبِعَاتٍ، لعلَّ " نظام الوَقَفات " [هكذا!] هو أحد مظاهر الأزمة التي ما تزال النظرية الشِّعرية المُعاصرة تعيشُها، لأنَّ هذه النظرية، حتى وهي تعودُ إلى " الأصول "، لم تُنْصِت بالعُمق الكافي إلى ما تستدعيه هذه الأصول ذاتُها من مرجعيات، كانت في بُعدها المعرفي، محكومة بمركزية الصوت "، وبهيمنة اللِّسان على الخط، أي على الكتابة.
أليس مفهوم البيت، و" نظام الوقفات " الذي هو من تَبِعاتِهِ، هو انعكاس لهذه المركزية التي لم نتحرَّر منها، حتى ونحن نخرجُ من وضع البيت المُقَيَّـد أو " المسكون "، وهو ما يُسَمِّيهِ النفـري بـ " القبـر "، إلى " البيت الحـرّ "، أو السَّكن المفتوح..
وَعْيُ البِنَاء، لا يُمكنُه أن يَسْتَكْمِلَ شرطه النظري، إلاَّ بوعي الكتابة، أي بوعي تلك التَّشَعُّبات التي تُحْدِثُها الكتابـة، وهي تخـرج من الصوت إلى الصفحة، أو إلى تلك الدَّوالّ التي ظلَّت بعيدةً عن وَعْيِنا، لأنَّنا لم نكن نقـرأ إلاَّ السَّواد، أو ليل " القصيدة "، حتى نبقى في سياق المفهوم القديم.
[9]
عندما كان تينيانوف يُؤكَّدُ على مفهوم " الدينامية "، فهو كان يذهبُ إلى وَعْيٍ مُغايِر. فكتابُه حول البيت الشِّعري، لم يكن نظرية حول البيت ذاته، البيت كان، عُنصر بناء، لا يمكن تحديد وضعه من خلال انفصاله، أو إفْرادِه،، بقدر ما كان شَرَيَاناً، صِلَتُه بباقي خلايا النص، هي ما يجعل منه شِعْباً، لا تَحْدُثُ الصِّلَةُ بمكوِّنات النص، أو لا يمكن لنسيجه أن يكون إفْضَاءً، بعضُه يُفضي إلى بعضه الآخر، إلاَّ بوعي هذا البعد الإفْضَائِيِّ فيه. أي ما يكونُ وَصْلاً.
حين نتَّخِذُ من مفهوم الدينامية عُنصُرَ بناء، فنحن نكون قد أتَحْنا للنص دَمَهُ الذي يَسْرِي في كُلِّ الجسد، و جعله، بالتالي، جسداً حيّاً، مُتَحَرِّكاً، أو جسداً هيراقليطياً، إذا تركنا الشمس وعُدْنَا إلى النَّهر.
[10]
الكتابة اليوم، لم تعد استجابةً لنِدَاءً قادمٍ من مجهولاتٍ ما، فالنِّداء هو إيذانُ بالشُّـروع، وبمُزاوَلَة الكتابـة، لكن وعـي الكتابـة، باعتبارها إفْضَـاءات وتَوَالُجاتٍ، لا يمكن الاحتكام في قُدُومِها، إلى الصُّدفَة وَحْدَها، هو ما يجعلنا نخوض هذا النداء بِوَعْيٍ نظريٍّ، لم يعد الشِّعر اليوم بِمَنْأًى عنه، ولم يكن، حتى من قبل، بعيداً عنه. كثيرة هي القصائد القديمة التي فَضَحَتْ بناءَها، أو وَشَتْ بوعيها النظري، ليس نَظَراً، بل ممارسةً، أي في ثنيات النص ذاتِهِ. هذا السلوك النظري الذي أصبحت الممارسة الشعرية المعاصرة تَذْهَبُ إليه، و تَخُوضُهُ كاخْتِراقٍ نظريٍّ طالَ جسد النص الشعري، واسْتَبَاحَ لُغَتَه التي كانت من قبل ترفض لغةَ المتكلِّمين والفلاسفة، أي ما ليس شعراً، وتعتبر الشِّعرَ نوعاً لا تَطَالُه الأنواع، و لغةً، لا صلة لها بالفكر، أو بـ " لغة النثر ".
إضاءة أولى
لم يعُد ممكِناً اليوم، فصل مفهوم البناء وَوَعْيِهِ، عن وَعْيِ المعمار الحديث. ثمَّة دراسات ونظريات معمارية، الاقتراب منها يُتيح لنا تَوْسيع النظر، في مفهومنا للعمارة، وللمكان بشكل عام، وللفراغات، والتجويفات، والأحجام، بشكل خاصّ. فإذا كان التشكيل الذي دَأَبَ الشُّعراء على اتِّخاذه مرجِعاً، في وَعْيِ العلاقة بالأمكنة، بالضوء والظِّلِّ، أو ما يترتَّبُ عنها من تغيير في المنظور أو الرؤية، فإنَّ ما أصبح يُتيحُه لنا المعمار، وأشكال البناء من انشراحات في النظر، وفي الاستثمار الباهر للأمكنة والفضاءات، هو أحد المنظورات الجديدة التي، في تمثُّلِها، يمكن للنص أن يَنأَى بنفسه عن البناء ذي البُعد الواحد، أو البناء الفارغ، الذي لا يُتِيحُ للقاريء أن يُضَاعِفَ من وَعْيِهِ بجهات النص، ويصبو بمنظوراتِه نحو إفضاءاتٍ لا تأسَرُ نفسها بضيق المساحة، أو الحَيِّزِ، لأنَّ طبيعة النص، حين يكون محكوماً بوَعْيِ بنائه، وبهذا النوع من الوعي المعماريّ الحديث، فهو يُوَسِّعُ من منظوراته، ويُعَدِّد أمْكِنَتَهُ، أعني بناءاته.
إضاءة ثانية
في كتاب " ثقافة البناء وبناء الثقافة "، يذهبُ ناصر الرباط إلى أنَّ " العمارة المُؤثِّرَة " هـي " العمارة المُحَمَّلة بالمعنـى بحقّ "، أو هي " العمـارة التـي لا تفرض على المتلقـي معناها بتشكيلاتها المُكتَمِلة والمُتألِّقـة والمُتَكَبِّـرَة والفائضة، بل تستدعيه إليها وتُلفِت نظره لكونها إطاراً لمجموعة من المعاني الممكنة والمُحْتَمَلَة وغير المفروضة تشكيلياً ووظيفياً.
العمارة الناجحة رمزياً ومعنوياً هي التي تقترح ولا تفـرض، التـي تُسايِرُ ولا تُجْبِرُ، والتي تُومِيءُ إلى معناها ولا تمليه إملاءً. إنها في نهاية الأمر العمارة الفاعلة التي تغوص في أعماق النفس الإنسانية وتستخلص منها أبسط الأشكال الأولية والطبيعية والمتوازنة بصريا وهندسياً، وتبني منها مجموعاً مُركَّباً مُثْقَلاً بالفراغات المتروكة خصوصا دون وظيفة ولا معنى محدّد لكي يتمكن كل متلقّ من اقتباسها لنفسه ليمنحها مدلولاته الخاصة ومعانيه الخاصة التي تجعلها في نهاية الأمر عمارته هو، مَوْئِل ذكرياته هو، مع ما هي عليه أصلاً من عمارة ذات وظائف جمعية، ومعانٍ جمعية طبعاً، وذكريات جمعية تؤدّي رسالتها من خلال تواصُلِها مع ذلك الهامش الفرديّ الخاصّ الذي بناه كل مُتَلَقّ لنفسه فيها ".
ألسنا هنا، بصدد بناءٍ ديناميّ مفتوح، عَطْفاً على ما سمَّيْناهُ قبل بالشعرية الدينامية المفتوحة، رفضاً لمفهوم الانفتاح وَحْدَهُ، الذي لا يَفِي بالصيرورة، بقدر ما هو استقرار. ففي عطف الانفتـاح على الدينامية، يكون البنـاء وفق ما يكشف عنه المفهوم المعماريّ السابق، هو إطارٌ لاحتمالاتٍ وإمكانات غير مفروضة، أو هو اقتراح يُتِيحُ للفردي، والهامشيِّ والخاصِّ، أن يَنْبَثِقَ كأُفُقٍ لبناءٍ مُنْشَرِحٍ مُتَصَيِّرٍ، مُنْبَثِقٍ باستمرار…

الأربعاء، 11 يناير 2012

النَّصُّ القَلِـِقُ . صلاح بو سريف


رغم أنّ أبا تمَّام بقي أسيرَ بناء القصيدة، فهو بذهابه إلى بنية اللغة، وإلى تراكيبها تحديداً، أي إلى العلاقات التي تجمع الكلمات فيما بينها، وفق تركيب مخصوص، قد عمل على فتح ثغرة في أساس ِ بناءٍ كانَ قد اكتمل، أو أشرف على اكتماله؛ حين اتّخذ من الاستعارة ذاتها، نظاماُ قائماً على المُقاربة، وليس على التَّبْعِيدِ.
[1]
تميّزَت تجربة أبي تمّام بـ"غموضِـ "ـها. اللغةُ عنده، لم تكن تسير في نفس خطّ التَّعْبيرَات التي كانت القصيدة تَطْمَئِنُّ لها، أو تعتبِرُها أحد مُكتَسَبات الشِّعر. اختار أبو تمَّام المُفَارِقَ ليضع نصّه في مُوَاجَهَةِ قَلَقِهِ. فالاستعارات نَقَلَتِ الصُّورَة من البساطة إلى التّركيب، ولم يعد المألوف يكفي لِفَكِّ أسرارها؛ بل سيجد القارئ نفسه أمام أفُق مُفارِق لِتَوَقُّعَاتِهِ. فجملة النُّصوص التي قرأها من قبل كانت تضعه أمام اختيارات مُحَدَّدَة، وتُهَيِّئُهُ لِتَلَقِّيَاتٍ، كانت النّصوص ذاتُها تُفضي إليها. إنّنا، بهذا المعنى، أمام شعرية كانت تُرْسِي نَمَطَـها وتَبنيه. ونموذج أبي تمّام جاء كاختراق، أو هو بالأحرى، كانَ مُقتَرَحَ شعرية، سَعَتْ في تصوُّر صاحبها إلى الخُروج من شعرية النّمط، إلى شعرية الأفق.
هذا، في تصوُّرِنا، ما يجعل نصّ هذا الشاعر قَلِقاً، فهو غير مُطْمَئِنٍّ للسَّائد والرَّائج، وهو نوع من التّركيب الذي كان يخرج باللغة من التّركيب الخطِّيّ المُتَواصِل، إلى التّركيب المُتَقَطِّع الناتئ، أو ذي الأضلاع المُتَعَدِّدَة التي تُفضي إلى المعنى الكثير، وتضع قارئها في مَهَبِّ انكسارَاتِها.(1)
[2]
رغم أنّ أبا تمَّام بقي أسيرَ بناء القصيدة، فهو بذهابه إلى بنية اللغة، وإلى تراكيبها تحديداً، أي إلى العلاقات التي تجمع الكلمات فيما بينها، وفق تركيب مخصوص، قد عمل على فتح ثغرة في أساس ِ بناءٍ كانَ قد اكتمل، أو أشرف على اكتماله؛ حين اتّخذ من الاستعارة ذاتها، نظاماُ قائماً على المُقاربة، وليس على التَّبْعِيدِ.
فما أرادته الذّائقة العامَّة اكتمالاً، عمل أبو تمّام على جعله نُقصاناً، وَوضَعَهُ في مَهَبِّ الرُّجْحَان ِ. هذا ما جاء جبران ليذهب به إلى أقصى التّجريب. نظريا، كان جبران واعيا بمشروعه، وأعلن عن بعض جُزئِياتِ برنامجه في بعض كتاباته، كما أعلن عنها، كذلك، في بعض رسائله إلى ماري هاسكل.
بعكس أبي تمَّام، عمل جبران على وضع نَصِّهِ في مُفـترَقِ الجُرحِ. ولعلّ في إقدامه على الكتابة خارج النّمط، وإبعاد مسبقات التَّجنيس،(2) ما جعل لغته تختار المُفارِقَ، وتُتيح للشّكل أن يكون مُتَصَيّراً. سائِلاً. أو دينامياً، بالمعنى الذي يعطيه تينيانوف لهذا المفهوم.(3)
فــي مفهـوم الدِّيناميّ، أو المُتَصَيِّر، ما يشي بقلـق الشّكل، وبقلـق لغته التـي لا تفتأ تحدث وتكون.
النصّ، في هذا الوضع، يصبح هو المحكّ، حيث لا معنى لأيّ شيء إلاّ من خلال وُجودِه نصِّـياً، أي بما هو مُمَارَسَة نصِّيَة. أو كما يقول ميشونيك؛ فـــ " في ما هو نص texte ، لا معنى لأيَّة كلمة، فالنَّصّ هو معنى الكلمة ".(4) أي هو حياة الكلمة، أو حياة اللغة بالأحرى.وهو ما يسير في سياق مفهوم الدينامية كما عند تينيانوف.
نص جبران مُفْعَمٌ بهذه الدّينامية. قَلِقٌ. لا ينتمي لإطار مسبق. فهو مفتوح. سائلٌ؛ فيما هو يُكْتَبُ ويَنْكَتِبُ، عابِثاً بالأشكال التّاريخية، ذات الاتجاه الخطِّيّ الواحد.أو ما سمّاه جبران نفسه بـ " الشّكل اللاّمحدود الخاصّ ".(5)
وحتى إذا نظــرنا إلى نصّ جبــران باعتباره " نظــاماً "، فهو نظــام يقبــل " جدلياً " وجود الشيء ونقيضه.(6) أي إنّه حمَّال أوجُهٍ، وليس سيراً في أرض منبسطة.
[3]
وفق هذا التّصوُّر، كانت الكتابة تُعْلِنُ عن نفسها. تُؤكِّدُ قلقها، وتُؤَجِّلُ المُطْمَئِنَّ. تخوض المجهول، وتَضَعُ التَّسْمِيَةَ أمامَ تَشَقُّقَاتِها. فهي ليست واحداً بل كثرة، كما أنّها ليست شكلاً، بل انسياب وسيلان. وهذا ما يدفع، في تصوُّرِنا، إلى إعادة قراءة مفهومنا للشّعر في ضوء مفهوم الكتابة، ومراجعة أو نقد المفاهيم السّابِقَة على وجود الكتابة؛ بما هي احتمال واقتداء بالشّعر، وليست شكلا آلياً، ناجِزاً وتامّاً.
يعود الشِّعْرِيُّ هنا، في وضعه المُتَكَثِّرِ، وينفض عنه واحدية الشّكل الذي اسْتبَدّتْ به " القصيدة " كتسمية، وكبنية افتراضية، تارِكاً خلفه نسيانَهُ، مُسْتَعِيداً ذلك الانشراح البعيد الذي جاء النّص الدينيّ لِيُعِيدَ تذكيره ولو في سياق نُبوئيّ عقائديّ.
حتى عندما نعود إلى الأناجيل الأولى، أعني إنجيلي "بابل " و" سومر"؛ فإنَّنَا سنعثر على الكتابة وهي تخوض مُغامَرَتَها دون أن تَسْتـَأذنَ شكلا أو نمطاً سابقاً. أي إنّها تُمارِسُ الكتابة، وهو ما يجعلها شعرية بشكل جوهريّ، لأنّها لم تكن محصورة في عمل مّا.(7) بل كانت تخلق أشكالها، باعتبارها " عملا قويا " أو مُؤَثِّراً وحَيّاًً، لأنّها لا تَكُفُّ عن مُسَاءَلَتِنا، أو لا نَكُفُّ نحن عن مساءلتها.(8) وهي بهذا المعنى، نصوص قَـلِقَة ٌ.
[4]
في الشعر المُعاصِر، وتحديداً في ما أسمِّيه " حداثـة الـكتابـة "، خرج النَّصّ عن نمطية القصيدة، وذهب إلى مدىً لم تعد معه المفاهيم المُرَافِقَةُ للقصيدة، أو التي هي أحد تبدِّياتِ بنياتها الذهنية، قادرة على استيعاب هذا الامتداد اللاّنهائي، أو مُواكَبَتِهُ، لأنّ القصيدة؛ بما هي شكل تاريخيّ، استنفذت إمكانات البناء، كما استنفذت إمكانات الرُّؤيا، وبَدَتْ، في معظم ممارساتها المُعاصِرَة، نوعـا من الاستعـادة وتذكيـر الماضي. وهـذا ما يجعلُها تكاد تخلو من المُفارَقات. لهذا، فمفهوم النّص القَلِقِ، هو أكثر المفاهيم تمثيلاً للكتابة، كما أنّه من المفاهيم التي تجعل النّص، في طَيَّاتِهِ، يحمل كلّ سمات مُفَارَقَاتِهِ وتشَظِّيهِ. نصّا يسير في اتجاهاتٍ شتَّى، لا يكتفي بآخِر، فهو لا آخِرَ له. كما أنّ أوَّله يبقى صدى لصوت غير معلوم.
ليست الشِّعرية، بهذا المعنى، مجرّد نظام " يُفَسِّرُ أدبية الأدب".(9) بل إنّها ذهاب إلى مجهولاتِ نصٍّ لا يسمح للمفهوم ذاته أن يستقِرَّ في وضع واحد، أو يُصبحَ أداة ناجِعَة ً في تحديد المفهوم وضبطه.
لعلّ في أحد تعريفات النص، كما تقترحها " ميثولوجيا الواقع "، ما يكشف عن هذا النّمط من النّصوص ذات الفُروج والفَجَوَات والشُّقوق أو التّصَدُّعات التي تجعل من القلق أحد مُصَاحِباتِ الكتابة، أو شعرياتِها بالأحرى.
يقول ع. بنعبدالعالي " فالنّص لا يدخل ضمن تراتُباتٍ، ولا ينقسم إلى أجناس. ما يُحَدِّدُهُ أساساً هو قدرته على خلخلة التّصنيفات المعهودة. على هذا النحو فالنص دوماً بِدعة وخروج عن الدُّوكسا. إنّه قدرة على خلق المُفارَقات para-doxes .لذلك فما يميزه هو انفلاته من كل تأويل نهائي. إنّه لا يقبل الانغلاق.. النص.. لا نهائي ورمزيته لا حدود لها. وهو نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء".(10)
[5]
أستحضر في هذا السياق، شاعِراً مغربياً، نقل تجربته كُلّياً، من وضع القصيدة إلى وضع الكتابــة، أي حــوَّل النص من " حداثــة القصيدة " إلى " حداثة الكتابة "؛ حيث النّص أصبح شبكة علاقات مُرَكّبَة، تتدخّل في بنائه جملة عناصر تجعل قارئه غير مُطْمَئِنّ، يَخُوضُ النَّصَّ، بما هو طبقات ومضايق، وليس أرضا منبَسِطَة، سهلة، أو مخارج، بعضُها يُفْضِي إلى بعض ٍ بلا حَرَج ٍ.
أعني هنا الشّاعر محمد بنطلحة، في ديوانه "ليتني أعمى"، وفي ديوانه الأخير " قليلاً أكثرَ "، بشكل خاص.
تتبدّى ملامِح القلق في كتابته، في اللغة. لم تعد الاستعارة، باعتبارها قلبا للوظائف والعلاقات، تكفي لقراءة نصّه. النصّ في " ليتني أعمى " يُجَازِفُ بالمعقول، ويعصف بكلّ القرائن، التي عادة ما تكون في الاستعارة، هي نقطة الضّوء التي تُفضي إلى آخر النّفَقِ. يُبَدِّدُ صلة الوصل، ويختار المُتَشَظِّي والمُتَقَطِّع، كصيغة جمع بين المُتَفَرِّقاتِ، وبالمُتَقَطِّعِ ذاته، يصل النَص بِكُــلِّهِ.
الصُّورَة التي كانت في حداثة القصيدة، تقوم بوظيفة الوصل، أصبحت في هذا النص، فصلا واحتِمالاً. هذا ما دفَعَنا في قراءة سابقة لهذا العمل œuvre، نذهب إلى اعتبار المُفارِقِ والشّاذ، هما جوهر هذه التّجربة. إنّ الكتابة، بما هي ممارسة، لم تعد تشرط وُجودَها بالقائم، فهي بَدْءٌ.(11) أي أنّها انحياز فاضح للشعر وليس إلى القصيدة. إنّها عودة إلى أوَّل الماء.
لن نُجازِفَ إذا اعتبرنا اللغة، في تجربة محمد بنطلحة، شارَفَتْ ذاتَها، وأنجزت كفايتها باستنفاذ مُمكِنَاتها دون حاجة إلى الرّمز الذي كان، دائما، وسيطاً في تقريب المسافة بين النص وقارئه. اللغة، هنا، بما هي كُلّ، أو سياق، كما أشار ميشونيك من قبل، اختارَت التَّبْعيدَ Distanciation كمُقتَرَح قراءة ، وهو ما دَأبَ قارِئ القصيدة على وصفه بالغموض.
أليسَ النص، بهذا المعنى، كما يقول غاستون بييل " فَخّـــاً ". فهو بقدر ما يتبدّى يخْتَفِي،(12) أو يجُرُّ قارئه إلى مُفارقاتِه، مُضَاعِفاً قَلَقَهُ.
[6]
لن أعودَ إلى التّوزيع الخطّي، الذي هو أحد مُقتَرَحات الكتابة، وسأكتفي بالحديث عن الشكل في النّص، أو النصوص القَلِقَة.
الشّكل في هذا المُقتَرَح النَّصِّيّ، وَهْــــمٌ، أو هو ضرب ٌ من الأسر الذي تسعى قراءات القصيدة إلى افتراضه ووضعه كإطارٍ بهِ تضمن سلامَةَ قوانينِها.
فحين لا ننظر، كما يُشير إيكو، إلى الكتابة كتجربة شخصية،(13) وهو ما يُؤَكِّدُهُ ميشونيك أو يُضَاعِفُهُ، حين يتحدّث عن " الشعر كمُختبر "،(14) فإنّنا سنبقى أسيري وضع سابق على وجود النّص. وهذا ما لم تعد " القراءة المُعاصِرَة "(15) تقبله، أو ينسجم مع تصوُّرَاتِها.
في تجربة محمد بنطلحة، الشّكل إفْضَـــــاءٌ، وليس حَدّاً. فهو يُفْضِي إلى مُحْتَمَلاتِهِ، إلى الذّاتي في الكتابة، وإلى المُفرد الذي يُبَدِّدُ جَمْعَهُ مُكتَفِياً بتوقيعه الخاصّ.
أليس الــذّاتي والمُفرد والخاصّ، أفُقَ شكلٍ جــامِع، أو كُلِّيّ، تتأسّسُ ملامِحُهُ بالعودة إلى التّجربة، بما هي كُلّ، وليس من خلال نصّ أو قراءات تختار من التّجربة بعضها، وتتجاهَلُ الباقِيَ منها.
إنّ الشّكل هنا، بِلَّوْر مُتَعَدِّد الأضلاع، إنّه شكل شعريّ بامتياز، وليس شكلا بالمُفرَدِ، كما كَرَّسَهُ فهمنا للقصيدة، باعتبارها جمعاً، أي شعراً، وليست مُقتَرَح نصٍّ، الشعر جمعُهُ.
[7]
يعود بي هذا، إلى شاعر آخر، وهو سليم بركات. تجربة أخرى قَلِقَة ٌ، تُبَدِّدُ شكلَها، وتضع قارئها في حَرَج ٍ.
الصَّفْحَة ُ التي كانت تحتفي بالبياض، ضاعَفَتْ من حضور المكتوب l’écrit، وأزَاحَتْ عن النّص شُبْهَةَ القصيدة، باتِّخاذ العين وسيلة حَسْــم ٍ.
نَصٌّ يُضَاعِفُ لَيْلَهُ.
هذا ما ضاعَفَ أيضاً، من بلبلة الشّكل، وأحْرَجَ قراءاتٍ قارَبَتِ النص، أو باعَدَتْه ُ بالأحرى، باعتمادِها على أداة لا تـُعيرُ اهتِمَاماًً للذاتي والمُفرَد.(16)
[8]
تشويش الشكل وطمسُهُ. هذه إحدى المَهام التي تَتَّخذها الكتابة شرطاً لوُجودِها. لأنّها ببساطة ليست كتابة شكل، أو كتابة بشكل، بل هي كتابة تَتشَكَّل؛
تَصّـيُّرٌ وانكتابٌ لا يفتأ يحدث.
ليست خِتاماً إنّها بَدْء ٌ. سَيْرٌ لا ينقطع. لأنّها تَوَتُّرٌ وقلَــق ٌ دائِمٌ ِ…
هوامش:
1. وهذا ما ينسجم مع طبيعة " البنية التّعبيرية المُرَكَّبة "، التي هي " خُلاصَة فكر مُرَكّب ". انظر Gallimard,1970,p56 Henri Meschonnic , Pour la poétique1
2. فهو لم يتّخذ الجنس أو النوع كـ " نموذج فني للعالم " أو نوع من تذكُّر الأصل " Pour la poétique2, Epistémologie de l’écriture poétique de la traduction, Gallimard, 1973, p.p. 201-202 ويمكن العودة أيضا إلى كتاب، Umberto Eco, De la littérature, Ed, Grasset et Fasquelle, 2003, p. 299
3. Iouri Tynianov, Le vers lui-même, Les problèmes du vers, collection 10-18, 1977
4. ويرى في نفس السياق، أن " الكلمة ليست كلمة، بل سياق ". كما لا يُمكن مواجهة الكلمة إلاّ من خلال الكُلّ .
5. Pour la poétique1, p.p.20, 38. et, Pour la poétique2, p.162 وتوفيق صايغ، أضواء جديدة على جبران، دار رياض الريس للكتب والنشر، 1990- ص 231.
6. Pour la poétique 2, op.cit, p. 139
7. وهو ما يعبـر عنه إيكو بـ "التجربة الشخصية ". م.س. ص.305 أو كما يرى ياكبسون، فـ " الشّعر يحمينا من الآلية " Pour la poétique , 218
8. ن.م. ص. 150-154
9. بفسه.ص. 26 و 45
10. De la littérature, op, cit, p.304
11. عبد السلام بنعبدالعالي، ميثولوجيا الواقع، دار توبقال 1999.ص. 59
12. Cahier de l’Herne, René Char, Ed de l’Herne.1971.P.76
13. Ibid, p.227
14. De la littérature, op, cit, p.303
15. Pour la poétique1, op, cit.p.93
16. Ibid, p.103
17. H. Meschonnic, politique du rythme, politique du sujet, ed, Verdier, Lagrasse1995.

الاثنين، 2 يناير 2012

تسونامي , تسونامينا .

عبداللطيف الحسيني .
 ليقيني وتأكيدي أنّ الإنسانَ المُهمّش والمُغيَّب باتَ يُبدعُ بأيّ شكلٍ أو مضمون ارتأه : خطّاً ورسماً وصراخاً واحتجاجاً يليقُ به وبما يمليه شكلُ الاحتجاج و مضمونه , ولأنّ مقام الفنّ يحتلُّ البصر في الصفوف الأماميّة , فليسَ من المستغرب أنْ تتجمهرَ قلّة أو كثرةٌ من المحتجّين لإصغاء ما كُتِبَ أو رُسِم من قِبل مَنْ هُمّشوا في فيافي المدينة دونَ أنْ ننتبهَ لقوّة ما خبّأه طوالَ فترة الكمون , وها قد جاء الأوانُ لعرضه و تقييمه ثانياً , ولتقدير مكانتِه كفنّان حثّتْه أخلاقُه للنداء أوّلاً .
هل قلتُ : الأخلاق ؟ , نعم .
أخلاقُ الخِطاب تخطّتْ مكاناً معيّناً (عامودا , مثالاً) لتندفعَ إلى مدنٍ أكثرَ إيلاما وإغراقا وتفتّتاً (مدن الداخل , نماذج), يكفي أنّ يكونَ الخطابُ ذاك يحتضنُ الآخرَ ليكونَ (الآخرُ : هو أنا) , و يكفي للمتشكّك القابع في بيته مراقباً حيطانَ غرفته منبوذاً وغيرَ منصتٍ لصوت الحياة ( القويّ إذا ما تغنّى صداه) الذي يأتي مرّة واحدةً في الحياة دونَ أنْ يتنفّسَه أو يلتقطه , و دون أنْ يدري ويسمع بصوت الحياة الذي تتدفّق من تحته الأنهارُ .
دليلاً على ما ذهبتُ إليه أنّ المتشكّك الذي اُكتُشِفَ أمرُه مجدّداً ما كان يوماً يجيدُ فنَّ الإصغاء لصوت الآخر الداخليّ , وإنْ استمع , فبتجاهله التامّ أو بانتقائِه جزءاً يعنيه و يخصُّه ويرمي أجزاءً تعني حلولاً مغرقةً في المجموع الخلّاق , قائلاً : (الآخر هو الجحيم ) .
أنْ تكونَ الآخرَ يعني أنْ تسمعَه وتستمتعَ به , لا بأُذنك بل ببصرك وبصيرتك بعدَ أنْ تغسلهما وتلفظ ما علِقَ بهما من أدران , بل عليك أنْ تسمعَ (بكُلّكَ) لترى الحياة بعينين مغسولتين .
........
من فضلك : افسحْ طريقاً للإنسان الجديد الصائِت كي يجمّل دنيانا , و إنْ لم تتمكّنْ من مجاراته فلا تتوقّفَ أمامَه صوتاً صامتاً .