رغم أنّ أبا تمَّام بقي أسيرَ بناء القصيدة، فهو بذهابه إلى بنية اللغة، وإلى تراكيبها تحديداً، أي إلى العلاقات التي تجمع الكلمات فيما بينها، وفق تركيب مخصوص، قد عمل على فتح ثغرة في أساس ِ بناءٍ كانَ قد اكتمل، أو أشرف على اكتماله؛ حين اتّخذ من الاستعارة ذاتها، نظاماُ قائماً على المُقاربة، وليس على التَّبْعِيدِ.
[1]
تميّزَت تجربة أبي تمّام بـ"غموضِـ "ـها. اللغةُ عنده، لم تكن تسير في نفس خطّ التَّعْبيرَات التي كانت القصيدة تَطْمَئِنُّ لها، أو تعتبِرُها أحد مُكتَسَبات الشِّعر. اختار أبو تمَّام المُفَارِقَ ليضع نصّه في مُوَاجَهَةِ قَلَقِهِ. فالاستعارات نَقَلَتِ الصُّورَة من البساطة إلى التّركيب، ولم يعد المألوف يكفي لِفَكِّ أسرارها؛ بل سيجد القارئ نفسه أمام أفُق مُفارِق لِتَوَقُّعَاتِهِ. فجملة النُّصوص التي قرأها من قبل كانت تضعه أمام اختيارات مُحَدَّدَة، وتُهَيِّئُهُ لِتَلَقِّيَاتٍ، كانت النّصوص ذاتُها تُفضي إليها. إنّنا، بهذا المعنى، أمام شعرية كانت تُرْسِي نَمَطَـها وتَبنيه. ونموذج أبي تمّام جاء كاختراق، أو هو بالأحرى، كانَ مُقتَرَحَ شعرية، سَعَتْ في تصوُّر صاحبها إلى الخُروج من شعرية النّمط، إلى شعرية الأفق.
هذا، في تصوُّرِنا، ما يجعل نصّ هذا الشاعر قَلِقاً، فهو غير مُطْمَئِنٍّ للسَّائد والرَّائج، وهو نوع من التّركيب الذي كان يخرج باللغة من التّركيب الخطِّيّ المُتَواصِل، إلى التّركيب المُتَقَطِّع الناتئ، أو ذي الأضلاع المُتَعَدِّدَة التي تُفضي إلى المعنى الكثير، وتضع قارئها في مَهَبِّ انكسارَاتِها.(1)
[2]
رغم أنّ أبا تمَّام بقي أسيرَ بناء القصيدة، فهو بذهابه إلى بنية اللغة، وإلى تراكيبها تحديداً، أي إلى العلاقات التي تجمع الكلمات فيما بينها، وفق تركيب مخصوص، قد عمل على فتح ثغرة في أساس ِ بناءٍ كانَ قد اكتمل، أو أشرف على اكتماله؛ حين اتّخذ من الاستعارة ذاتها، نظاماُ قائماً على المُقاربة، وليس على التَّبْعِيدِ.
فما أرادته الذّائقة العامَّة اكتمالاً، عمل أبو تمّام على جعله نُقصاناً، وَوضَعَهُ في مَهَبِّ الرُّجْحَان ِ. هذا ما جاء جبران ليذهب به إلى أقصى التّجريب. نظريا، كان جبران واعيا بمشروعه، وأعلن عن بعض جُزئِياتِ برنامجه في بعض كتاباته، كما أعلن عنها، كذلك، في بعض رسائله إلى ماري هاسكل.
بعكس أبي تمَّام، عمل جبران على وضع نَصِّهِ في مُفـترَقِ الجُرحِ. ولعلّ في إقدامه على الكتابة خارج النّمط، وإبعاد مسبقات التَّجنيس،(2) ما جعل لغته تختار المُفارِقَ، وتُتيح للشّكل أن يكون مُتَصَيّراً. سائِلاً. أو دينامياً، بالمعنى الذي يعطيه تينيانوف لهذا المفهوم.(3)
فــي مفهـوم الدِّيناميّ، أو المُتَصَيِّر، ما يشي بقلـق الشّكل، وبقلـق لغته التـي لا تفتأ تحدث وتكون.
النصّ، في هذا الوضع، يصبح هو المحكّ، حيث لا معنى لأيّ شيء إلاّ من خلال وُجودِه نصِّـياً، أي بما هو مُمَارَسَة نصِّيَة. أو كما يقول ميشونيك؛ فـــ " في ما هو نص texte ، لا معنى لأيَّة كلمة، فالنَّصّ هو معنى الكلمة ".(4) أي هو حياة الكلمة، أو حياة اللغة بالأحرى.وهو ما يسير في سياق مفهوم الدينامية كما عند تينيانوف.
نص جبران مُفْعَمٌ بهذه الدّينامية. قَلِقٌ. لا ينتمي لإطار مسبق. فهو مفتوح. سائلٌ؛ فيما هو يُكْتَبُ ويَنْكَتِبُ، عابِثاً بالأشكال التّاريخية، ذات الاتجاه الخطِّيّ الواحد.أو ما سمّاه جبران نفسه بـ " الشّكل اللاّمحدود الخاصّ ".(5)
وحتى إذا نظــرنا إلى نصّ جبــران باعتباره " نظــاماً "، فهو نظــام يقبــل " جدلياً " وجود الشيء ونقيضه.(6) أي إنّه حمَّال أوجُهٍ، وليس سيراً في أرض منبسطة.
[3]
وفق هذا التّصوُّر، كانت الكتابة تُعْلِنُ عن نفسها. تُؤكِّدُ قلقها، وتُؤَجِّلُ المُطْمَئِنَّ. تخوض المجهول، وتَضَعُ التَّسْمِيَةَ أمامَ تَشَقُّقَاتِها. فهي ليست واحداً بل كثرة، كما أنّها ليست شكلاً، بل انسياب وسيلان. وهذا ما يدفع، في تصوُّرِنا، إلى إعادة قراءة مفهومنا للشّعر في ضوء مفهوم الكتابة، ومراجعة أو نقد المفاهيم السّابِقَة على وجود الكتابة؛ بما هي احتمال واقتداء بالشّعر، وليست شكلا آلياً، ناجِزاً وتامّاً.
يعود الشِّعْرِيُّ هنا، في وضعه المُتَكَثِّرِ، وينفض عنه واحدية الشّكل الذي اسْتبَدّتْ به " القصيدة " كتسمية، وكبنية افتراضية، تارِكاً خلفه نسيانَهُ، مُسْتَعِيداً ذلك الانشراح البعيد الذي جاء النّص الدينيّ لِيُعِيدَ تذكيره ولو في سياق نُبوئيّ عقائديّ.
حتى عندما نعود إلى الأناجيل الأولى، أعني إنجيلي "بابل " و" سومر"؛ فإنَّنَا سنعثر على الكتابة وهي تخوض مُغامَرَتَها دون أن تَسْتـَأذنَ شكلا أو نمطاً سابقاً. أي إنّها تُمارِسُ الكتابة، وهو ما يجعلها شعرية بشكل جوهريّ، لأنّها لم تكن محصورة في عمل مّا.(7) بل كانت تخلق أشكالها، باعتبارها " عملا قويا " أو مُؤَثِّراً وحَيّاًً، لأنّها لا تَكُفُّ عن مُسَاءَلَتِنا، أو لا نَكُفُّ نحن عن مساءلتها.(8) وهي بهذا المعنى، نصوص قَـلِقَة ٌ.
[4]
في الشعر المُعاصِر، وتحديداً في ما أسمِّيه " حداثـة الـكتابـة "، خرج النَّصّ عن نمطية القصيدة، وذهب إلى مدىً لم تعد معه المفاهيم المُرَافِقَةُ للقصيدة، أو التي هي أحد تبدِّياتِ بنياتها الذهنية، قادرة على استيعاب هذا الامتداد اللاّنهائي، أو مُواكَبَتِهُ، لأنّ القصيدة؛ بما هي شكل تاريخيّ، استنفذت إمكانات البناء، كما استنفذت إمكانات الرُّؤيا، وبَدَتْ، في معظم ممارساتها المُعاصِرَة، نوعـا من الاستعـادة وتذكيـر الماضي. وهـذا ما يجعلُها تكاد تخلو من المُفارَقات. لهذا، فمفهوم النّص القَلِقِ، هو أكثر المفاهيم تمثيلاً للكتابة، كما أنّه من المفاهيم التي تجعل النّص، في طَيَّاتِهِ، يحمل كلّ سمات مُفَارَقَاتِهِ وتشَظِّيهِ. نصّا يسير في اتجاهاتٍ شتَّى، لا يكتفي بآخِر، فهو لا آخِرَ له. كما أنّ أوَّله يبقى صدى لصوت غير معلوم.
ليست الشِّعرية، بهذا المعنى، مجرّد نظام " يُفَسِّرُ أدبية الأدب".(9) بل إنّها ذهاب إلى مجهولاتِ نصٍّ لا يسمح للمفهوم ذاته أن يستقِرَّ في وضع واحد، أو يُصبحَ أداة ناجِعَة ً في تحديد المفهوم وضبطه.
لعلّ في أحد تعريفات النص، كما تقترحها " ميثولوجيا الواقع "، ما يكشف عن هذا النّمط من النّصوص ذات الفُروج والفَجَوَات والشُّقوق أو التّصَدُّعات التي تجعل من القلق أحد مُصَاحِباتِ الكتابة، أو شعرياتِها بالأحرى.
يقول ع. بنعبدالعالي " فالنّص لا يدخل ضمن تراتُباتٍ، ولا ينقسم إلى أجناس. ما يُحَدِّدُهُ أساساً هو قدرته على خلخلة التّصنيفات المعهودة. على هذا النحو فالنص دوماً بِدعة وخروج عن الدُّوكسا. إنّه قدرة على خلق المُفارَقات para-doxes .لذلك فما يميزه هو انفلاته من كل تأويل نهائي. إنّه لا يقبل الانغلاق.. النص.. لا نهائي ورمزيته لا حدود لها. وهو نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء".(10)
[5]
أستحضر في هذا السياق، شاعِراً مغربياً، نقل تجربته كُلّياً، من وضع القصيدة إلى وضع الكتابــة، أي حــوَّل النص من " حداثــة القصيدة " إلى " حداثة الكتابة "؛ حيث النّص أصبح شبكة علاقات مُرَكّبَة، تتدخّل في بنائه جملة عناصر تجعل قارئه غير مُطْمَئِنّ، يَخُوضُ النَّصَّ، بما هو طبقات ومضايق، وليس أرضا منبَسِطَة، سهلة، أو مخارج، بعضُها يُفْضِي إلى بعض ٍ بلا حَرَج ٍ.
أعني هنا الشّاعر محمد بنطلحة، في ديوانه "ليتني أعمى"، وفي ديوانه الأخير " قليلاً أكثرَ "، بشكل خاص.
تتبدّى ملامِح القلق في كتابته، في اللغة. لم تعد الاستعارة، باعتبارها قلبا للوظائف والعلاقات، تكفي لقراءة نصّه. النصّ في " ليتني أعمى " يُجَازِفُ بالمعقول، ويعصف بكلّ القرائن، التي عادة ما تكون في الاستعارة، هي نقطة الضّوء التي تُفضي إلى آخر النّفَقِ. يُبَدِّدُ صلة الوصل، ويختار المُتَشَظِّي والمُتَقَطِّع، كصيغة جمع بين المُتَفَرِّقاتِ، وبالمُتَقَطِّعِ ذاته، يصل النَص بِكُــلِّهِ.
الصُّورَة التي كانت في حداثة القصيدة، تقوم بوظيفة الوصل، أصبحت في هذا النص، فصلا واحتِمالاً. هذا ما دفَعَنا في قراءة سابقة لهذا العمل œuvre، نذهب إلى اعتبار المُفارِقِ والشّاذ، هما جوهر هذه التّجربة. إنّ الكتابة، بما هي ممارسة، لم تعد تشرط وُجودَها بالقائم، فهي بَدْءٌ.(11) أي أنّها انحياز فاضح للشعر وليس إلى القصيدة. إنّها عودة إلى أوَّل الماء.
لن نُجازِفَ إذا اعتبرنا اللغة، في تجربة محمد بنطلحة، شارَفَتْ ذاتَها، وأنجزت كفايتها باستنفاذ مُمكِنَاتها دون حاجة إلى الرّمز الذي كان، دائما، وسيطاً في تقريب المسافة بين النص وقارئه. اللغة، هنا، بما هي كُلّ، أو سياق، كما أشار ميشونيك من قبل، اختارَت التَّبْعيدَ Distanciation كمُقتَرَح قراءة ، وهو ما دَأبَ قارِئ القصيدة على وصفه بالغموض.
أليسَ النص، بهذا المعنى، كما يقول غاستون بييل " فَخّـــاً ". فهو بقدر ما يتبدّى يخْتَفِي،(12) أو يجُرُّ قارئه إلى مُفارقاتِه، مُضَاعِفاً قَلَقَهُ.
[6]
لن أعودَ إلى التّوزيع الخطّي، الذي هو أحد مُقتَرَحات الكتابة، وسأكتفي بالحديث عن الشكل في النّص، أو النصوص القَلِقَة.
الشّكل في هذا المُقتَرَح النَّصِّيّ، وَهْــــمٌ، أو هو ضرب ٌ من الأسر الذي تسعى قراءات القصيدة إلى افتراضه ووضعه كإطارٍ بهِ تضمن سلامَةَ قوانينِها.
فحين لا ننظر، كما يُشير إيكو، إلى الكتابة كتجربة شخصية،(13) وهو ما يُؤَكِّدُهُ ميشونيك أو يُضَاعِفُهُ، حين يتحدّث عن " الشعر كمُختبر "،(14) فإنّنا سنبقى أسيري وضع سابق على وجود النّص. وهذا ما لم تعد " القراءة المُعاصِرَة "(15) تقبله، أو ينسجم مع تصوُّرَاتِها.
في تجربة محمد بنطلحة، الشّكل إفْضَـــــاءٌ، وليس حَدّاً. فهو يُفْضِي إلى مُحْتَمَلاتِهِ، إلى الذّاتي في الكتابة، وإلى المُفرد الذي يُبَدِّدُ جَمْعَهُ مُكتَفِياً بتوقيعه الخاصّ.
أليس الــذّاتي والمُفرد والخاصّ، أفُقَ شكلٍ جــامِع، أو كُلِّيّ، تتأسّسُ ملامِحُهُ بالعودة إلى التّجربة، بما هي كُلّ، وليس من خلال نصّ أو قراءات تختار من التّجربة بعضها، وتتجاهَلُ الباقِيَ منها.
إنّ الشّكل هنا، بِلَّوْر مُتَعَدِّد الأضلاع، إنّه شكل شعريّ بامتياز، وليس شكلا بالمُفرَدِ، كما كَرَّسَهُ فهمنا للقصيدة، باعتبارها جمعاً، أي شعراً، وليست مُقتَرَح نصٍّ، الشعر جمعُهُ.
[7]
يعود بي هذا، إلى شاعر آخر، وهو سليم بركات. تجربة أخرى قَلِقَة ٌ، تُبَدِّدُ شكلَها، وتضع قارئها في حَرَج ٍ.
الصَّفْحَة ُ التي كانت تحتفي بالبياض، ضاعَفَتْ من حضور المكتوب l’écrit، وأزَاحَتْ عن النّص شُبْهَةَ القصيدة، باتِّخاذ العين وسيلة حَسْــم ٍ.
نَصٌّ يُضَاعِفُ لَيْلَهُ.
هذا ما ضاعَفَ أيضاً، من بلبلة الشّكل، وأحْرَجَ قراءاتٍ قارَبَتِ النص، أو باعَدَتْه ُ بالأحرى، باعتمادِها على أداة لا تـُعيرُ اهتِمَاماًً للذاتي والمُفرَد.(16)
[8]
تشويش الشكل وطمسُهُ. هذه إحدى المَهام التي تَتَّخذها الكتابة شرطاً لوُجودِها. لأنّها ببساطة ليست كتابة شكل، أو كتابة بشكل، بل هي كتابة تَتشَكَّل؛
تَصّـيُّرٌ وانكتابٌ لا يفتأ يحدث.
ليست خِتاماً إنّها بَدْء ٌ. سَيْرٌ لا ينقطع. لأنّها تَوَتُّرٌ وقلَــق ٌ دائِمٌ ِ…
هوامش:
1. وهذا ما ينسجم مع طبيعة " البنية التّعبيرية المُرَكَّبة "، التي هي " خُلاصَة فكر مُرَكّب ". انظر Gallimard,1970,p56 Henri Meschonnic , Pour la poétique1
2. فهو لم يتّخذ الجنس أو النوع كـ " نموذج فني للعالم " أو نوع من تذكُّر الأصل " Pour la poétique2, Epistémologie de l’écriture poétique de la traduction, Gallimard, 1973, p.p. 201-202 ويمكن العودة أيضا إلى كتاب، Umberto Eco, De la littérature, Ed, Grasset et Fasquelle, 2003, p. 299
3. Iouri Tynianov, Le vers lui-même, Les problèmes du vers, collection 10-18, 1977
4. ويرى في نفس السياق، أن " الكلمة ليست كلمة، بل سياق ". كما لا يُمكن مواجهة الكلمة إلاّ من خلال الكُلّ .
5. Pour la poétique1, p.p.20, 38. et, Pour la poétique2, p.162 وتوفيق صايغ، أضواء جديدة على جبران، دار رياض الريس للكتب والنشر، 1990- ص 231.
6. Pour la poétique 2, op.cit, p. 139
7. وهو ما يعبـر عنه إيكو بـ "التجربة الشخصية ". م.س. ص.305 أو كما يرى ياكبسون، فـ " الشّعر يحمينا من الآلية " Pour la poétique , 218
8. ن.م. ص. 150-154
9. بفسه.ص. 26 و 45
10. De la littérature, op, cit, p.304
11. عبد السلام بنعبدالعالي، ميثولوجيا الواقع، دار توبقال 1999.ص. 59
12. Cahier de l’Herne, René Char, Ed de l’Herne.1971.P.76
13. Ibid, p.227
14. De la littérature, op, cit, p.303
15. Pour la poétique1, op, cit.p.93
16. Ibid, p.103
17. H. Meschonnic, politique du rythme, politique du sujet, ed, Verdier, Lagrasse1995.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق