مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الثلاثاء، 12 أبريل 2011

حُطام .

إنّهُ صفرةُ تلكَ الورقةِ التي تتقصّفُ تحتَ الأرجل , إنّهُ التقصّفُ ذاتُهُ الذي يملُّهُ مَنْ داسَهُ خطأً ,
إنهُ غيمةٌ ينتظرُها عَطِشٌ , وتظلُّ غيمةً : لا تُمطرُ و لا تزول .
إنّهُ الوجهُ الذي لا يغادرُهُ الشّحوبُ , الوجهُ الذي فرّ مِنَ المعركةِ , وراياتُ الهزيمةِ مغروسة في قلبهِ دونَ أنْ يُحسَّ .
إنّهُ الخائِنُ أوقفَهُ الضابطُ أمامَ الجنود ليضحكوا عليْهِ ,
إنّهُ انتظارُ المرأةِ الأبديُّ أمامَ البابِ . إنّهُ البابُ يصبحُ رَمَاداً لو مرّتْ بجانبهِ لمسة مريض .
إنّهُ العجوزُ يحملُ زوّادَتَهُ على كتفِهِ بطرفِ عصاهُ مُغادِرِاً حارتَهُ , ولعناتُ أحفادِهِ تُلاحِقُهُ .
إنّهُ السُّعالُ الحادُّ حتّى الصباح , السّعالُ حِينَ يُوقظُ جارا مريضا ,
إنّهُ الذاهبُ إلى المقبرةِ فلا يجدُ مكاناً ليدفنَ فيهِ ما لمْ يبقَ فيهِ مِنْ حياة .
إنّهُ كلُّ القبور حينَ تُداسُ أيامَ الأعياد .
إنّهُ العيدُ الذي ماتَ فيه كلُّ الأحبّة .

مستلّ عن كتابٍ قيد الطبع لصاحب المدوّنة .

الجمعة، 8 أبريل 2011

حوار مع الفنانة الكرديّة جنكيمان عمر .

قيل عنها انها جاءت” الى عالم الرسم من فضاءات حالمة محاولة أن تشق لنفسها طريقا ً أشبه بومضات تدونها منذ رسوماتها الأولى ،تتشبث بإرث عذابات الإنسان وسعيه الدائم للجمال..ترسم عوالمها بخصوصية لتقدم لنا فيما بعد عملا ً ناضجا ًقد ترضى عنه في نهاية المطاف أو تبقى وراء سعيها عن اللون والخط والتشكيل أياًً كانت مسمياته”.انها الفنانة التشكيلية جنكيمان عمر التي كان لنا معها هذا اللقاء:

* اضافة الى الرسم لديك ميول في الكتابة و الرقص  والرياضة؟
- نعم فكنت كالعصفورة أنتقل من غصن الى اخر، ولكن لم أجبر نفسي في يوم ما على شيء ،فكل شيء كان يأتيني دون اذن مني، ربما الطاقات الهائلة والمتنوعة التي كانت بداخلي، هي التي جعلتني أتنوع وما ان تعلمت الكتابة والقراءة بشكل جيد ،حتى بدأت كلماتي تكتب القضية وتعبر عن عشقي للوطن، أما الرقص أعيش فيه كل تفاصيل زوربا وأكون فيها الاورنينا نفسها .
* الغالب على لوحاتك  حضور التعبير الايهامي مع غياب الشخوص ؟
- صحيح ربما هو تمردا على الكلاسيكية أو الواقعية أوخروج عن النمطية التعبيرية المباشرة واللجوء الى حداثة التعبير والوصف المجرد للحالة، فعلى الفنان ان يدرب المتلقي على الاستمتاع بما يرى من عوالم مبهمة التعبير ،ولكنها في الاصل  مأخوذة من الواقع ،وهذا التعبير المبهم يحرض المشاهد الى المعرفة والبحث، فلا يكفي ان نصور له الواقع كما هو، فيجب أن ندربه على المساحات والأبعاد الواسعة  من الحرية وأن يستمتع بتلك الحرية .
* ما هي الفكرة التي تنطلقين منها في الرسم؟
- أنطلق من من أسئلتي وتأملاتي الروحية ...من الليل الذي يستضيفني ويستنطقني ....من نافذتي المطلة على صدى الجوامع وعلى رنين أجراس الكنائس.أنطلق من عتمة منازلنا وذلك الظلام الذي يحاصر قلوبنا ساعات طويلة ولا نفعل شيء، فنيئس من عودة النور فنغادر نحن منازلنا وتبق قلوبنا محاصرة بتلك العتمة....أنطلق من الأقنعة والأصبغة التي يتميز بها عالمنا الجديد ....أنطلق من يومياتنا..أنطلق من صور حلبجه وقلعة دزة وهولير وجثث اذار الى أزمات العالم كله ، فأرسم أحلامي وأحلامحهم وفرحهم وصخبهم، فأتشاجر بألواني لألون ملامحهم بريشتي التي تنفعل أكثر مني لتملئ صمت تلك المساحات بضجيج  تلك الانفعالات...أنطلق من أوراقي الشخصية ومن تفاصيل طفولتي الى الكون الى العالم الى الكل .فلوحتي هي انعكاس للواقع ولعوالمي ولذاكرتي ، وما أن أبدأ بها فتستيقظ كل التفاصيل في داخلي. ويدخل في لوحتي الشعور والمنطق معا، فالشعور يدفعني لأبدأ وعقلي يساعدني على أن أستمر، فأدخل المنطق في اخراج لوحتي، وأنتبه اليها بوعي لكي أحصل على نهاية متوازنة..
* أين أجد جنكيمان عمر في لوحاتها ؟
- تجدني في اللون الأحمر والرمادي والأسود ..تجدني في كل ضربة ريشة ...فلوحاتي هي أفكاري ووثيقة شخصيتي، ورحلتي من طفولتي البريئة الى الفتاة المتوهجة الى الأنثى الناضجة والغنية بتجارب  الحياة الى عاشقة الفن بكل أشكاله فوجودي كامن  في فني.
* كلمة أخيرة؟
- أتمنى في رسالتي الفنية ايجاد عالم نقي يسود فيه الحب الانساني المخلص الصادق البعيد عن الاجرام والاهات والتعذيب والتجريح، لأننا بشر نستحق حياة أفضل مما نحن فيه، فنحن بحاجة الى الهدوء  في حياتنا.
جاسم فيصل الزبيدي

الخميس، 7 أبريل 2011

صورةُ الفنّان موشوماً .

عبداللطيف الحسيني : صاحبُ آزاد.

الآنَ يا آزاد وَقد ارتحْتَ وأرحْتَ خَدّكَ الموشومَ على ترابٍ مُندّى , فهلْ شبعْتَ مَوتاً ؟, بعدَ أنْ خفّتِ الضّجّةُ التي كنتَ تثيرُها بهدوئِكَ الذي لم نعتدْه في شوارعِنا الكئيبة - المليئة بأصواتِ لعناتِ الموبايل ذات النغمات الكريهة وهي دليلُ ثقافةِ حامليه . ارتحْتَ منّا ومِنْ لعناتِنا التي لاحقْناها بكَ . أينما ولّيتَ وجهَكَ تابعناكَ في المدن القريبة و البعيدة ( وكأنّنا كثيرون – حاضرون في كلّ مكانٍ ), ولم تكنْ تُبالي بها ثانياً , لأنكَ لم تكن تبالي بنا أوّلاً : شتمناكَ بكلِّ اللغات وبكلّ الإشارات المقذعة, وابتكرْنا صفاتٍ غير موجودة في القواميس لنُطلقَها عليكَ وكنتَ تدري أنّها لنا دونكَ , حيثُ صفاءُ الفنَّ منعَكَ حتى لتردَّها إلينا ,حتى ولو...ولو بأقلَّ منها , هكذا عرفْتَنا كما عرّفكَ بنا نُكرُ صفاتِنا وسلوكِنا المُدّعَى بالطهارة والنقاء ختلاً و دَجَلا , لكنْ في العمق : ما أقربَنا إلى الوحشيّة التي ننبذُها عَلَناً , وفي السلوك نطبّقُها خيرَ تطبيقٍ موزون لا شذوذ فيه و لا ادعاء, إذنْ ما أقبحَ الإنسانَ الشيطانيّ – السلطويّ فينا دونَ أنْ نحسَّ بهِ لحظة ً, دونَ أنْ نحاسبَه لثانيةٍ , فسحقاً لهذهِ الحياةِ التي جعلتِ الشتمَ اللازمة الوحيدة في حياتِنا التي لم تعدْ تُطاقُ دونَ فنٍّ ومسرح وموسيقا, بعدَما تاهَ أصحابُها أو تُوّهوا.
فهل لي الآنَ أنْ أدّعيَ : يا آزاد - الفنُّ احتضرَ بموتِكَ في هذهِ المدينةِ التي لم أرَها إلا محتضرةً ... فميّتة.ً
"""
المرءُ السّويُّ سيُجَنُّ لو لحقتْه مفرداتُ العتهِ مرّةً .. مرتين .. ثلاثاً , فكيفَ بآزاد الذي شتمَه أيُّ شارع مرَّ فيه , فالتصقتْ به كلمةُ ( المجنون : دينو بالكرديّة ) في كلّ زقاق ٍ موحل ٍ أو مغبرّ ٍ في مدينةٍ موحلةٍ مغبرّةٍ .
كغيري ,سمعتُ أنّ (آزاد) رسمَ (اللهَ) , وليسَ كغيري اقتحمتُ غرفتَهُ التي "بملايين الجدران " لأرى ( اللهَ) لأوّل مرةٍ كما فهمَه ( آزاد) نوراً على نور من خلال اللون , لم أتفاجأْ بحسِّ وذوق (آزاد) , ولم أتفاجأْ بحسِّ وذوق مَنْ شتمَه وضربَه و طردَه من جنّتِهِ .
"""

في كلّ خميس نزورُ مقبرتَنا لِنَرَى موتانا ولِنشمَّ معَهم هواءً نقيّاً , وجدتُ قبرَ ( دينو) بعيداً ... ميّتاً وقد رُكِلَ و فُتِّتَ وهُشِّمَ : إنّهُ قبرُه, وقد دُفِنَ فيه حيّاً .
""""
فيا (دينو) : أمَا كانَ منكَ أنْ تؤجّلَ موتكَ سنواتٍ لنتعلمَ منكَ فيضاً من النور الذي أردتَهُ عميماً ؟.

الأربعاء، 6 أبريل 2011

إلى عبدالرّحمن دريعي , ولابدّ .

عندَما كانت الدُّنيا تفاحةً قبلَ عشراتِ السنين وقبلَ أنْ نتعرّفَ على اللون "رماديّاً " الذي يغزو أرواحَنَا ليجعلَه مرتعاً للفوضى أو الثأر, ولطالما كنّا في عِراكٍ معَهما, وحيثُ كانَ الصفاءُ سيّداً والنقاءُ شعاراً وحيداً تكفّلَ بتجميل الأشياء حولَنا : طفولتنا وحبّنا وكلامنا الأنيق الذي لم نعرفْ غيرَه ,لأنّه خُلِقَ معنَا , بل خلقْناه ليكونَ رفيقَ دربٍ طويلٍ , وإنْ كانَ الدربُ ذاك بعيداً أو زادُهُ نادراً ومسموماً – كَمَا الآنَ – في المدينة التي أعيشُها أو تعيشُني .
هي حجرةُ الشيخ عفيف التي تضجُّ نِقاشاً ونَبضاً عن كلّ شيءٍ , هي حجرةٌ وأعني بها مدينةً مزدحمةً , كما هي "وحيدةٌ لكنّها بلدٌ مزدحمٌ ".
هل كانَ الشيخُ يصنعُ ثورةً ؟, بالضبط هذا ما أقصدُهُ .
في تلك الحجرة عرفتُ صوتَ الناي شجيّاً :صوت عبدالرحمن دريعي الذي اتّخذَ "عودَ قصب" ناياً يسوقُه دريعي جنوباً وشمالاً بحسب لحنهِ . أينَ خبّأَ دريعي هذا الحزنَ والشجوَ كلَّه ؟ و كيفَ استطاعَ أنْ يفجّرَه في لحظةٍ ما , في ساعةٍ ما ؟ .
الرجلُ لم يكنْ موسيقيّاً فحسبُ , بل ألمّ بتاريخ هذه المنطقة ,وأخذَه إلى حلب ليستفيدَ منه الشبابُ هناك ,وكانَ جلُّ وقتِه متفاعِلاً معهم فنّاً تشكيليّاً وشعراً وموسيقا , ومن هنا أردتُّه أنْ يكتبَ مقدّمَةَ (كتاب عامودا) الذي أدخلَ سروراً ما إلى نفسه , مضيفاً لي : " هل سيتحدّثُ الكتابُ عن الموسيقا ؟". بل سأحاورُكَ لتتحدّثَ أنتَ عنها : أُجيبُهُ .
لم يكتبْ دريعي مقدّمة(كتاب عامودا), ولم أُحاورْهُ , بل تركتُ الأمرَ لشقيقي الملعون(ياسين حسين)الذي كتبَ بالكرديّة عن دريعي نصّاً في غاية النقاء له وعنه , وتمّ ترجمةُ نصّه ليُرفَقَ بالكتاب شهادةً نابضةً , وياسين حسين نفسُه أعلمني بموت عبدالرحمن دريعي قبلَ أنْ أُسافرَ إليه في حلب لنتناقشَ حول الكتاب ومقدّمته .
قبلَ عشرسنواتٍ جاءَني صوتُ ياسين حسين منكسِراً : عبدالرحمن دريعي توفيَ ! .
حامل الأمانة : عبداللطيف الحسيني .
ملاحظة : في الإرفاق صورةُ غلاف الكتاب وخطّ عبدالرحمن دريعي في رسالةٍ له لي .

الثلاثاء، 5 أبريل 2011

فاطمة بن محمود/ تونس.- الشاعرة الكردية فينوس فائق .


فاطمة بن محمود/ تونس.
قطرات ضوء / الشاعرة الكوردية فينوس فائق.. و القصائد الجريحة فاطمة بن محمود
الإهداء : إلى عبد اللطيف الحسيني.. دمت مضيئا .

كنت - و لازلت- و لا أدري لماذا أشعر أني مسؤولة عن العالم، تعذبني نشرة الأخبار و تجلدني الأنباء التي ترد عن الحروب و الاغتيالات و التفجيرات و حملات الإبادة و غيرها في أي ركن من العالم.. كنت- و لازلت- و أدري لماذا أتعاطف مع المقهورين في الأرض.. و لعلني أشعر و كأن روحي كانت فيما مضى متقمّصة في طفلة صغيرة فرحة بدميتها فصادفتها رصاصة ثقبت قلبها و سالت براءتها على قارعة الشارع و العالم يتفرّج.. لذلك كنت - و لازلت - أخاتل البرنامج الدراسي في القسم و أفتعل ثغرة ما أثناء الدرس لأحدّث تلامذتي عما حدث في البوسنة أو في حلبجة.. يحدث أن نسمع في الفضائيات المشهورة برامج توثيقية عن البوسنة أما عن حلبجة لازالت تلك الفضائيات بعيدة عن الموضوعية العلمية من جهة و بمنأى عن وخز الضمير من جهة أخرى.. كان لي صديق عراقي ( مسيحي ) يقول لي النساء الكرديات.. جميلات و يتنهّد.. مرّة .. كنت تائهة في الشبكة العنكبوتية و إذا بي أعثر صدفة على علامات خطّّها الكاتب عبد اللطيف الحسيني فتتبعتها و إذا بي في موقع افتراضي لشاعرة كردية هي فينوس فائق و صرخت في صمت : هاهي امرأة كردية.. جميلة و أتذكر صديقي العراقي.. ثم انها شاعرة تكتب قصائد رهيفة و حادّة ، قلمها يقطر إحساسا و إحباطا, و روحها شفافة و غائمة, و أعيد قراءة قصائدها.. كم عذبتّني قصائدها... في قصائدها رأيت طفلة تلعب بدميتها و فاجأتها رصاصة ثقبت قلبها و سالت براءتها على قارعة الطريق.. و أنا أتفرّج. في قصائدها رأيت صبيّة مزهوّة بجسدها المكتنز , بأحلامها الطريّة تذهب للقاء حبيبها بغبطة لا توصف..و لا تصل إلى موعد اللقاء.. و أنا أتألم.. في قصائدها رأيت شعبا عصفت به حملات الابادة.. و أشمّ رائحة السيانيد تعبق المكان ( غاز سام استخدم في الابادة في مدينة حلبجة).. و أنا أبكي.. فينوس فائق.. فينوس، اسم قادم من الأساطير.. من الزمن القديم، من الزمن البعيد جدا.. يقول فراس السواح أن أبطال الأساطير أنصافهم آلهة و أنصافهم الأخرى بشرا, و كأن عائلتها وهي تختار الاسم تهرب الى الزمن المقدس و يقول فرويد في معرض تحليله أن كل هروب للماضي هو تعبيرا عن رفض للحاضر.. ترفض عائلتها هذا الحاضر الذي لم تجد فيه مساحة للكبرياء، موقع قدم لتفاصيلها الصغيرة, لتقاليدها الجميلة لذلك تعود الى الزمن القديم.. فينوس اسم آلهة للجمال و ليكن.. ما دامت الرداءة طاغية و الفضاعة منتشرة و القبح سائدا و رائحة السيانيد تعمّ المكان و تعطّّّل كل الحواس. فينوس فائق تقول في قصيد ( الليلة ينام القمر على عيوني) : أنا كوردية أقولها بالعربية تتساقط دموعي كحبات اللؤلؤ لعلّ الدموع تتساقط من الظلم, من القهر و لكن الصورة لا تخلو من وقع جمالي مؤثر.. الدموع تتساقط حبّات لؤلؤ.. و أتذكّر أزهار الشّر لبودلير.. رهافة الشاعر و شفافيته تجعله يرى الجمال في ذروة الألم، و ينتبه للأزهار أو اللؤلؤ في عمق الفجيعة.. فينوس فائق كوردية و من فرط انسحاقها تعلو بكبرياء متصاعد.. بعزّة متنامية, بثقة لا تحدّ..لذلك نجد فينوس فائق تحتفل بأشيائها النسائية, تنتبه لنبضات قلبها تتسارع اذا ما رأت الحبيب، تنتظر بقلب واجف لمسات يديه و رائحة قهوته و أجدها في غاية الفرح فقد جاءها حبيبها و قال لها : ( في قصيد : قال لي..) أتعلمين يا مولاتي أنني اليوم سلطانا أمشي على أرصفة المدينة مزهوا بحبّك أنثر غروري بك و ضيائي أنا لا أعرف الشاعرة ، أنظر الى صورتها على شاشة الكمبيوتر ( في موقعها الافتراضي) و أقول في نفسي.. ان ملامحها قريبة مني، كان يمكن أن تكون جارتي أو أختي أو أكثر.. كان يمكن أن تكون صديقتي. و أجدني و اياها في احدىالمقاهي على ضفاف البحيرة ( في العاصمة تونس) نرتشف فنجاني قهوة، نتفرّج على أفواج العشاق تذهب و تجيء، نختلس النظر الى رجل أنيق يجلس وحيدا بالقرب منّا.. ستقول فينوس : يروقني صمته و سأقول أنا : تروقني الفكرة التي تدور الآن في رأسه و ننفجر ضحكا... يلذّ لي أن أفترض أني أرتشف القهوة معها.. و يبدو أنها مثلي لها فلتات" جنونية تقول ( في قصيد العام الجديد ): تعالى نشرب معا من تلك الكؤوس الرشيقة من تلك الكؤوس الحبلى بالعشق و نتمشّى بين أزقة العمر لذلك أجدني أحبّ الشاعرة.. و أستمتع بقصائدها.. يروقني أن تقول ( في قصيد الليلة ينام القمر على عيوني) : هل تعرف أن الانسان هو النبي الوحيد على الأرض. نعم ، كل انسان هو نبيا مفترضا.. كل انسان يجب أن يدافع عن رسالة الاله الخالدة، عن القيم النبيلة، عن المعاني السامية.. و أتذكّر نيتشة كم كان حادا عندما هتف.. ان الانسان هو الاله نفسه". لكن يبدو أن فينوس تفضّل أن لا يموت الاله حتى تجد لمن ترفع شكواها.. لذلك تقول ( في قصيد العام الجديد ) : أقول ربي تقبل مني صلواتي و خطيئاتي التي ارتكبتها و التي لم أرتكبها يبدو أن الشاعرة مثلي لها أخطاء و ذنوب سرّية" و لكنها تختلف عني هي ترجو من الاله أن يتقبل أخطائها و يغفر لها و أنا لازلت ( أقول ): " كلما يتقدم بي العمر أحنّ الى الذنوب التي ارتكبت و أعضّ على القلب ويحي.. كيف فاتتني ذنوبا أخرى ( قصيد لي من الديوان القادم ) لعلّ الجغرافيا هي التي تؤثّر في قصائدنا بشكل أو بآخر.. لذلك أفترض ( و نحن لازلنا في المقهى) أنها ستكفّ عن استراق النظر للرجل الأنيق الذي يجلس وحيدا بجوارنا و تهمس " يكفي يا فاطمة .. عيب" في حين أني سألتفت اليه و أقول له من فضلك هل تسمح بالولاّعة ( رغم أني لا أدخن ). اذن فينوس تختلف عني في الجغرافيا و لذلك تمتاز عني بأحزانها.. أنا من بلاد مغاربية تمدّ رجليها في القارة الافريقية و تمدّ ذراعها الى الغرب ( أنظر خريطة تونس) و نعيش نوعا من الاستقرار، و تتمتع المرأة في بلادي بحقوق لا يستهان بها ( أنظر مجلة الأحوال الشخصية ) أما فينوس فهي في وطن بلا وطن، تقول ( في قصيد نقش على الماء ) : هذا وطن بلا وطن، وطن طار ابنائه كالطائرات الورقية في السماء و اختفت بناته وهن يلعبن لعبة الاختباء. لذلك قد تكون معاناتي وجودية أو لعلها تضرب أبوابا أخرى , أما فينوس فائق تلك التي أتأمل صورتها الآن، تلك التي تبدو كأنها جارتي أو أختي أو أقرب...كأنها صديقتي.. فينوس تلك معاناتها واقعية و حقيقة تاريخية.. لذلك أحتاج أنا أن أنظر الى صور حلبجة و أتأمل المجازر الرهيبة التي حصلت لأبكي و تحتاج هي فقط ذاكرتها لتنوح بمرارة.. تقول ( في قصيد وطننانمة) : أعطني أنفك لأملؤه برائحة الأتوم و النياسيد و الأجسام العفنة برائحة أطفال تسممّوا و رائحة طيور قتلى و أشجار محترقة (....) و تبلغ التراجيديا أقصاها عندما تقول : هل رأيت مرة أمّا وهي تبحث عن يد واحدة من بين خمسة ألاف من الأيادي لذلك تختلف عني فينوس فائق.. أنا لي وطنا يأتيه الناس سياحا من كل حدب و ذوق ليتشمّموا رائحة الياسمين و يلتذوا هواءه الرطب وشواطئه الرائعة و اجواءه البديعة وهي لها وطنا تحتاج أن تبتعد عنه لتهرب من رائحة الغازات الكيميائية السّامة التي نثرها ديناصورا و مضى.. ( تعيش الشاعرة في هولندا ) تحتاج هي أن تأتي بوطنها من ذاكرتها ، لذلك تقول ( في قصيد أقداح الشاي ) : تحملين رائحة مدينة، بين ضلوعك تنام قدّيسة و تطوين كتاب الوجع و تقول ( في قصيد أشتهي البكاء ) : هذا بيتي وهو لم يعد بيتي فلم يسجل باسمي احتله أبناء الديناصور و صادروا قلادتي و حمرة الشفاه و قارورة عطري هل يختلف هذا كثيرا عن معاناة شاعر فلسطيني لنفترض أنه عزالدين المناصرة مثلا عندما ينادي جفرا : جفرا كانت خلف الشباك تنوح جفرا.. كانت تنشد أشعارا .. و تبوح بالسرّ المدفون في شاطيء عكّا.. و تغني و أنا لعيونك يا جفرا سأغني. قد يختلف الشعراء و لكن الألم واحدا.. قد تختلف الأصوات و لكن صداها واحدا.. لذلك مثلما يعود الطائر - غريزيا - الى وكره، يتمنى المنفيّ أن يعود الى وطنه.. كذلك تتوق الشاعرة العودة الى وطنها تقول فينوس فائق( في قصيد العام الجديد) : الهي خلّصني من مأزق العمر و حولّني الى حجر على سفح جبل في كوردستان. لذلك أعتقد أن جلستنا في مقهى ما على ضفاف البحيرة قد خبى وهجها قليلا خفتت قهقهاتنا ورنا الصمت على قهوتينا.. أنا سأشرد بعيدا تتقاذفني هواجس وجودية مربكة، أنا أريد الرحيل عن وطن أحبه و لا يسع أحلامي أقول( في قصيد أجمل حب ) : هذه البلاد.. لي و لا تسع حلمي هذه البلاد .. لي و لا تشبه .. رسمي هذه البلاد.. لي نجمة تتفتّح و هلالها يسبح .. في دمي هذه البلاد.. لي. وهي ستشرد بعيدا تتقاذفها انفعالات شتّى.. هي تريد أن تستعيد وطنا تحبه و تشتهي أن تحلم على أرضه .. و لا تزال رائحة الأسيد تطارد انفها ، تقول ( في قصيد لا اله الا الله ) : فارغة مزهريتي من الزهور مليء قلبي بالألم لكن هل يمكن أن نثق في الغد ؟ يبدو أن هذا السؤال عبثيا بالنسبة لفينوس فائق لذلك لا يمكن أن تخدع نفسها بأمل / سراب لذلك تقول ( في قصيد في حشاشتي ) : ثمة نبي في حشاشتي لم يوقد سراج الرحمة لهذه المملكة بعد لم يبح أسرار الاله لأحد بعد (...) ليغرب في أحشاء قصائدي الجريحة.. اذن يبدو أن الشاعرة تخاتلنا و لعلها تخاتل نفسها فالأمل كفرضية ممكنة و الأمل يسكن قصائدها، يبدو أن الشاعرة تؤمن بدور الشاعر فهو على حدّ أندريه جيد يقدر على التشوّف , يمكنه استباق الآتي .. ربما لأن هذا يعود الى وظيفة الكتابة عموما من حيث هي نحت معاني في الحياة.. و هل تحتمل الحياة دون معنى/ معاني هي التي تجعلها مبررة و بالتالي ممكنة.. لذلك تقول الشاعرة فينوس فائق ( في قصيد نصوص خارج القانون ) : أكتب كي لا أتحول الى حجر.. تبرد قهوتي تماما ، و لازلت أمام شاشة الحاسوب أتملّى قصائد الشاعرة فينوس فائق.. و أخطّ ملاحظات ممكنة لمقاربة نقدية تستحقها , فأسلوبها في الكتابة رهيفا، حادا، عميقا، بسيطا، جارحا، حالما.. انها امرأة تتقن التفاصيل الانسانية الصغيرة لذلك تنأى بنفسها عن الطلاسم و الغموض المعقّد و تسمح لكلماتها أن تتطاير بيسر لتخترق المتلقي و تحطّ في وجدانه، لذلك هي تحسن شدّ القاريء و التواصل معه, انها امرأة شاعرة تنسج من ألمها صورا شفافة و أسلوبا مخمليا.. انها عندما تكتب ذاتها تتحدث عن نحن و عندما تكتب الغيرية الأخرون تتحدث عن انيتها الأنا .. هذا التمازج الرهيف و الرائع هو الذي يجعل منها شاعرة لها خصوصية... ينقبض قلبي مثلا وأنا أقرأ ( من قصيد تعالوا نسأل الله ): لنردّد 182 ألف مرّة و مرّة سورةالأنفال" و أبحث معي بين حروفها ان كان الله أجاز قتل أمي وهي تصلي له فينوس فائق لا تعرفني بل لم تسمع عني اطلاقا قد تبحث عني في الشبكة العنكبوتية و لن تجد لي موقعا افتراضيا خاصا بي.. جمّعت مرة ثمن تصميم و انجاز موقع ثم فضلّّّت أن أسدد دينا عليّ.. يبدو ذلك أفضل. و جمّعت مرة ثانية ثمنه أو كدت ثم اشتريت به بلاي ستايشون لولدي.. يبدو ذلك أفضل أيضا. سأطفيء الحاسوب الآن .. هي قد تكون نائمة أو لعلها تعانق حلما ما.. و أنا سأتمددّ في فراشي و أحملق في سقف غرفتي و أفكر كيف أكتب عن فينوس فائق شاعرة كردية ، قصائدها جميلة و ملامحها قريبة مني قد تكون جارتي أو أختي أو أكثر.. قد تكون صديقتي.. و أطفىء الحاسوب الآن

الاثنين، 4 أبريل 2011

الجمال بين الفتنة والصناعة

                                     هل هناك معايير كونية للجمال؟ ألا يختلف الجمال عبر العصور والثقافات؟ وهل يمكن أن نحدد مفهوما ثابتا للجمال؟  كيف ينظر الفن والثقافة والمجتمع إلى الجمال؟ ألا يخلق الجمال نوعا من اللامساواة بين ا...لعلاقات الإنسانية والعلاقات العاطفية؟ الجمال الجائر يفترض الجمال ميزة خاصة للأشخاص الذي يستحوذون على هذه الملكة، فهو بمثابة صك العبور للعديد من المجالات، ويبدأ التفريق من المدرسة، فالأشخاص القبيحون يصنفون في درجة أسفل ويتم نبذهم من الأمكنة الأولى التي تميزهم، ويمر ذلك إلى سوق الشغل، فالجمال يصبح معيارا أساسيا للعديد من الوظائف التي تفترض الجمال مثل مضيفة طيران، سكرتيرة، بائعة مواد تجميل، أو حتى بالنسبة للشركات، فالأولوية غالبا ما تعطى للجميل أولا، وقد جسدت الأمثال الشعبية في ثقافتنا هذا الهاجس، بحيث يتم استثناء الجميل وجعله في مرتبة أعلى من غير الجميل، ولذا يقال"الزين حبوا مولانا حتى لو كان في دربالة"، ثم يقال"لا زين لا مجي بكري"، فهذا المثل الأخير يحدد أن الجميل يمكن أن يصفح عن التأخير، وغير الجميل لا يحق له التأخر، لأنه لا يمتلك وساطة الجمال، ولذا يعد الجمال منذ البداية نوعا من التفرقة بين الأشخاص، فهو ينبذ الأشخاص الذين لا يتوفرون على الجمال اجتماعيا، وقد يصل الجميل إلى أن يكون قاسيا في العشق، فهو يميز في المدح  ويوضع في مرتبة تخول له الظلم أحيانا، وقد نجد هذا التعبير في إحدى قصائد إبراهيم ناجي، التي غنتها أم كلثوم، يقول: "واثق الخطوة يمشي ملكا، ظالم الحسن، شهي الكبرياء"، فالجميل يصبح معيارا للظلم والقسوة، لأنه يمتلك عالمه الذي يميزه عن الآخرين. ولكن هل للجمال معايير ثابثة عبر العصور؟ هل ينظر إليه بنفس الصورة، بنفس التشكيل؟ الجمال غير ثابت يتغير الجمال من فترة لأخرى، ولكن الثابت هو أن الإنسان كان على الدوام مهووسا بالجمال، رغم أنه في العصر الوسيط تم التفكير في الجمال على أنه نتاج إلهي، إذ أن كل الكائنات مخلوقات إلهية، إلا أنه على الدوام كانت هناك رغبة في الجمال، خاصة الجمال الجسدي للمرأة وذلك لكونه يثير الغرائز الجسدية، حتى لو طرح إشكالا على الأخلاق، وبالرغم من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي سيمر منها العالم والتي ستجعل التفكير في الجمال في مرتبة أقل، نجد في المقابل بحثا عن الجمال من منظور آخر، كأن يتم البحث عن الجمال في قلب الرعب من خلال الفنانين والنحاتين، ويتم تجسيده بأشكال مختلفة، ويمكن القول إن القرن التاسع عشر عرف يقظة الوعي العمالي والصراع الطبقي مما جعل التفكير في الجمال يتم بشكل آخر، إذ أصبح مداهما من أشكال أخرى تهدد وجوده داخل الأفراد مثل المرض والموت والشيخوخة. الجسد المستقيم يرى الباحث جورج فيكاغيلو أن تمظهرات الجسد تطورت عبر التاريخ، فالطريقة التي أعيد بها تشكيله، أو الاعتناء به، إو إظهاره أو السعادة من خلاله، قد تغيرت حسب السياق الاجتماعي والثقافي، فالجسد المستقيم كان مدار اهتمام العصر الوسيط، إذ يعمل المربون والمدرسون على تعليم الجسد المستقيم، وذلك لأنه معيار للجمال، ويمكن أن نجد لذلك وجودا في الكثير من الثقافات، ففي ثقافتنا الشعبية يتم التغني "بقطيب الخيزران"، دلالة على استقامة الجسد وعدم ترهله، كما نجد عند محمود درويش هذا التصور حين يصف المرأة بأن لها "وقفة شمعدان"، أي أن الأجساد الأخرى لا تحتل نفس المكانة، ونجد هذا النوع من القسوة على الجسد الأنثوي بشكل خاص في الأوساط البورجوازية حيث يتم حصر جسد الفتاة حتى يظهر في تجلياته المستقيمة، إلا أنه في عصر النهضة تغيرت هذه المفاهيم إذ بدأ الحديث عن أوضاع الجسد الذي ينبغي للفتاة أن تتخذه كشكل يعبر عن الأخلاق، ويمكن أن نجد في ثقافتنا المحلية نفس التصور في نوعية جلوس الفتاة، ونوعية ضم الركبتين، إلى غيرها من الأوضاع التي تحددها المنظومة الثقافية للجسد وأوضاعه، غير أن تحرر الجسد من هذه الأشكال سرعان ما غير من هذه النظرة. الجمال والأخلاق تبدو الثقافة الشعبية غنية بالعديد من التصورات حول الجمال، فهي من ناحية أولى تقدس الجمال وتعتبره الواسطة الوحيدة للزواج وللوضع الاجتماعي، مثل: "ولد بنتك زوينة، أما الحداكة تتعلمها تتعلمها"، وهي من ناحية أخرى تقصي هذا الجمال حين يتعارض مع الأخلاق، ولذا نجد عبد الرحمن المجذوب يقول: لا يعجبك نوار الدفلى        في الواد داير ضلايل لا يعجبك زين طفلة          حتى تشوف الفعايل ويروى عن النبي(ص) قال:" إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء".   الجمال والبشاعة يتموضع الجمال كنقيض للبشاعة أو القبح، ويتجلى ذلك من خلال المظهر الفيزيائي، وقد لا نجد الأدب يمجد البشاعة في كثير من الأحيان إلا نادرا، مثل قول الشاعر: عشقتها شمطاء شاب قرينها    والناس فيما يعشقون مذاهب فغالبا ما يتم وصف المرأة لجمالها، مثل قول الشاعر و هو يصور بكاء امرأة فأمطرت لؤلؤا من نرجس     فسقت وردا وعضت على العناب بالبرد فالجمال هو الصورة التي يستفيض الشاعر في تمجيدها، إذ لا نجد شاعرا يصف لنا بشاعة المعشوقة، فهي "بيضة الخدر" عند امرؤ القيس، وهي "بهكنة" أي امرأة بضة ومكتنزة عند طرفة بن العبد، وهي ذات فم "مرسوم كالعنقود" عند نزار قباني، أما البشاعة، فإنه في الحكايات الشعبية غالبا ما يتم تقديم الساحرة بأبشع الصور، فهي  امرأة ذميمة، شريرة، مسنة، بشعة، ولذا فإننا في المخيال الشعبي نسهم في تكوين هذه الصورة الجاهزة عن القبح، فالساحرة لا يمكن أن تكون امرأة جميلة. ويصبح هذا المفهوم معرقلا للعديد من التصورات عن القبح، فهو يرتبط بالشر والبشاعة، ولذا فغالبا ما يتم اختيار البطلة الجميلة التي تحقق نوعا من الجاذبية والغواية. إن البشاعة الفيزيائية معرقل كبير، ولكن الفن كما يقول إمبرطو إيكو له القدرة على تلطيف البشاعة، فهو يمكن أن يغير نظرة المجتمع عن البشاعة من خلال العديد من التصورات المغايرة، فالبشاعة الشكلية هي بشاعة لا تثير التقزز، لأنها تبقى على مستوى الشكل، ولذا قد نجد جسدا مقززا، ولكن له نظرة جميلة، وحانية وتعكس الداخل الإنساني، لأن البشاعة الخارجية يمكن أن تخفي جمالا أخلاقيا، ولذا فإن الأشباح والجن الذين قدمهم الفن بأبشع الصور، غير هذه النظرة إليهم من خلال تقديم أفلام مثل"فاوست" الذي قدم من خلاله جمال الجن، ولذا فإن الفن لم يعد يهتم بالجميل فقط، بل في أكثر الأحيان يقدم البشع في أجمل الصور، وذلك كما يقول إمبرطو إيكو، لأنه ليس هناك إمكانية محدودة للبشاعة، فهي لا نهائية فيما يخص الفن، أما بالنسبة للجمال فهو محدود ونهائي، ولذا فإن البشاعة تمنح إمكانيات أكبر بالنسبة للفن، وقد طور الفلاسفة هذه ا لفكرة حين اعتبروا أن الجمال هو الخير لأنه باق على الدوام، في حين يتعرض الجمال للمرض والسن والموت، فهو مهدد على الدوام بالانقراض. غير أن هناك عالم آخر يضاف إلى هذا التحديد وهو عالم السحر والفتنة وهو ما لا يحدده الجمال ولا البشاعة. الجمال والفتنة إن المنظور الشعبي المحلي يعكس أيضا هذا المفهوم، فهو يتصور الجمال شيئا ساحرا، وهو ما يتم تسميته بالدارجة المغربية "المسرار"، يقال:"نوض آلزين، فين نجلس أنا المسرار"، وهي دلالة على أن السحر والفتنة هي شيء آخر، غير التفاصيل الدقيقة للوجه، لأن الجمال لا يمكن حصره بمعايير حسابية مضبوطة، ولذا فإن العديد من الأشخاص غالبا ما يتم تذوقهم لأشخاص يبدون عاديين تماما، ولكنهم يرونهم غير ذلك، ويمكن أن نعطي مثالا بتمثال "موسى" لمايكل أنج، الذي أنتجت فيه التآويل العديدة والتي تعكس أن الجمال هو ذوق ذاتي قبل كل شيء، فالبعض يرى فيه لغزا سحريا غامضا، والبعض يرى فيه عذوبة والبعض آخر يرى فيه قسوة، وهذا يدل على أن معايير الجمال تحددها الأذواق الفردية، وهذا ما يفسر مثلا وجود عارضة الأزياء ناعومي كامبل التي تظهر كعارضة يراها الكثيرون على أنها امرأة جميلة في حين يراها آخرون على أنها امرأة سوداء، أو ما يفسر مثلا إعجاب الناس مثلا بممثل مثل جيرار دو بارديو والذي لا يتوفر على تقاطيع دقيقة أو محسوبة، ولكنه بنظر العديدين له فتنة خاصة، ونجد ذلك أيضا في الأغنية الشهيرة "يا المسرارة"، وهي دلالة على شيء أعمق من الجمال. ولكن هل هناك مقاييس كونية يلتقي فيها العديد من الأفراد ويجمعون على كونيتها في تحديد الجمال؟ الجمال والمقاييس الكونية ليس هناك معايير كونية لتحديد الجمال، ولكن من المتداول أن الأنف الصغير والعيون الكبيرة هي خصائص مرغوب فيها، كما أن الملامح الطفولية هي أجمل من التقاطيع التي يبدو عليها السن أو التجاعيد، كما أن تقدير الجمال عبر العصور والثقافات لم يقدم الأسنان المعوجة، ولا الوجه الذي يحمل بثورا، أو تجاعيد كأشكال جمالية، وقد عكس الفن الجمال عبر العصور من خلال تقديمه للسيدات السمينات والصغيرات في السن. غير أن الجمال يختلف حسب الثقافات أيضا، فالصينيات يتم الضغط على أقدامهن حتى تكون صغيرة الشكل، وفي المنطقة الصحراوية مثلا، تنتشر ظاهرة "التبلاح"، كجزء من التقاليد والعادات الموروثة، بحيث تحرص الجدات والأمهات بشكل خاص على تسمين الفتيات الصغيرات بمجرد بلوغهن سن ست سنوات، ويجبرن على تناول كميات كبيرة من المواد الغنية بالسكريات والذهنيات ذات السعرات الحرارية العالية. وهي أشكال وثقافات تتغير من بلد إلى آخر. ولكن ماذا عن الجمال والصناعة الاستهلاكية؟ الجمال والصناعة الجمال هو رأسمال الغواية، ولكن اليوم يتغير مفهوم الجمال ليصبح جمعا بين أذواق متعددة، فعشقي مثلا لأم كلثوم لا يلغي عشقي لمايكل جاكسون مثلا. فلم تعد هناك آلهة محددة، بل عوالم لانهائية. وبما أن العالم الاقتصادي قد نشر قوانينه الخاصة، فإن هناك صراعا من أجل الوصول إلى الجمال، فالجمال يمكن أن يصنع ويروج لأنه لم يعد ملك الفرد، بل ملك المجتمع، وبما أن الجمال يحمل الإثارة، فهو في حاجة إلى تصنيع وتلميع، لأنه أصبح استهلاكا، لأن جزءا من الابداع الفني أصبح سجين وسائل الإعلام، وفي العصر الذي تهيمن فيه الصورة والتغيرات التكنولوجية، فإن كل شيء يعاد تعديله، مثل الصورة الجميلة، التي يمكن أن تعدلها التقنيات الكثيرة المتاحة لتجملها للعين، ولذا فلا عجب أن نجد العديد من الأشخاص وخاصة النساء يلجأن إلى الجراحة التجميلية، وإلى البوتوكس، وإلى مستحضرات التجميل لمقاومة التجاعيد والسن، إلى غيرها، وتعد العديد من الأشكال الجمالية مثل الوشم، وثقب الأنف أو الأذن مرات عديدة، وهي كلها أشكال للتجميل الجسدي. وبالرغم من اهتمام النساء في العصور الماضية بأجسادهن فإن العصر الحديث خلق العديد من المواد المصنعة، للتجميل، حتى أنواع الرياضات التي تخفف من وزن الجسد، وتصوغ أجسادا جميلة للعين الرائية. نحن في حاجة للجمال، ولصناعته أيضا، ولكننا في حاجة إلى جمال آخر لا يموت مع الزمن، وهو الجمال الداخلي وهو ما لا تجسده الصورة. إنه الداخل بامتياز، وهو ما لا تلغيه حتى البشاعة الظاهرية التي يمكن أن تعكس جمالا لا يموت  
- لطيفة لبصير - كاتبة وباحثة مغربيّة .