مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الثلاثاء، 19 يوليو 2011

أنا المبعثرُ .

عبداللطيف الحسيني .








ل( جان دوست).
هذا الواقِفُ أمامَكم صنعَه الشارعُ الذي ألقى عليه ظِلالاً أو طبعاً ملائِكيّاً , تنفّسَ مِنَ الحياة أجملَها منذ أربعةِ أشهر, حتّى  ظنَّها ضرباً تخييليّاً هَدَرَ أمامَه ليودّعَه بعدَ برهةٍ , كان فيما سبقَ من عمره المقصوف ضائِعاً- طائِعاً (أكثرَ من أربعين عاماً عجافاً مرميّاً ) يصادقُ جارَه العربيّ ليكسوَه اللغةً هي الأفصحُ من بين الرطانة التي شابت الحديثَ . صادق المسيحيَّ مراحلَ شبابيّةً , و ارتاحَ معَه , وأراحَ كتفََه جنبَ كتفهِ الموشوم نقشاً أزرقَ :(أدرْ خدّكَ الأيمن إنْ صُفِعَ الأيسرُ), بل دخلَ معَه كنيسةً ليتعرّفَ العالمَ من الجديد أجدَّ , كان اليزيديُّ خليلَه في ليالٍ هي الأكثرُ ابتهاجاً في إحدى القرى مُصَاحِبَاً صديقاً (غائِباً الآنَ) يضربُ كأساً نبيذياً بكأس  مَرَح الحياة . هكذا لملمَ الواقفُ أمامَكم حياتَه , فلا تبعثروه مجدّداً , ففي تبعثره عمرٌ قد لا يجيءُ إلا ومعَه خرابٌ روحيٌّ . اتركوه يغنّي في الطرقات كما شاءَ له الغِنَاءُ شجيّاً , ومتى شاء له الطريقُ وأفاض .
الواقفُ أمامَكم تركَ شهقةً في كلّ مدينةٍ : لربّما سلّم على "المغنّي" دونَ أنْ يعرفَه , وبارك لحَنجرةٍ صدّاحةٍ تفورُ غناءً راقصاً في كلّ زاويةٍ أو منعطفٍ يضجُّ بظلالٍ متعطّشة .
الواقفُ ها هنا تعدّديٌّ , وزّعَ نَفَسَه في النفوس نابضةً, ووزّعت النفوسُ فيه تلك المَحبّةَ الشاسعة حين يتملّى وراءَه ليرى الدربَ شوكيّاً قابلاً للتخطّي مهما بدا ب(مسافاته الطويلة) .
الواقفُ لن يمَلّ , وإنْ لاحَ أمامَه كلُّ غدّارٍ أومكّارٍ أو خوّان .

الأربعاء، 13 يوليو 2011

وجوهٌ من فوق شرمولا .

 







عبداللطيف الحسيني فوق شرمولا .
إلى وجوهٍ عرفتُها .

إنّني هنا فوقَ التلّ , وقد وجّهتُ وجهي إليكَ متربّصاً - مدوّناً كلّ الأقنعة التي خُلِقتْ:
الوجه الأوّل : خلعََ قناعَه, وباتَ شأنُه مكشوفاً , يمرُّ في الشارع ولا يسلمُ عليه أيُّ مارّ , فيدّعي بسمةًً صفراءَ على وجهه  تدلُّ على حجم استهتاره بنفسه و بغيره .
الوجه الثاني : تمرُّ الصرخاتُ به فلا نراه إلا مختبِئَاً وراء نسوةٍ تباركُ لتلك الصرخات , ما أقلّ حجمَه ! ما أضعفه ! وقد باعَ راحة الضمير براحة البدن الذي باتَ هشّاً لا إحساسَ فيه . تصوّروا معي جسداً تتكلّمُ هشاشتُه؟ .

الوجهُ الثالث :وحده ألفٌ لا كمجازٍ , بل كمفهومٍ قابلٍ للتمكين والتعزيز حياتيّاً حين تضمحلُّ ذواتٌ اختفتْ من الحياةِ كتابيّاً و ذاتاً , و لم يعدْ لها وجودٌ إلا عندَ مَنْ أسّسَ لها وجوداً ميّتاً على نمط تفكير يكادُ ألّا يؤمنُ به هو نفسُهُ إذا اختلى به .
الوجهُ الرابع : وجهٌ متعدّدٌ , باعَ ماءَ الوجه في مكانٍ أو في أيّ مكان , يختارُ الوجه الذي يليقُ به أو بما يناسبُ مقام القوم .
وجوهٌ كثيرةٌ خلقَها الشارعُ : كلُّها قيحٌ وصديدٌ . ووجوهٌ خلقها الشارعُ نفسُه : كلُّها ابتهاجٌ و إشراقٌ . ابن الشرمولا يتساءلُ : أين كانت تختفي كلُّ الوجوه المعلنة والمختبئِة ؟ .

الجمعة، 1 يوليو 2011

القراءة العارفة

صلاح بوسريف
(المغرب)
1

الناقد قديماً، كان مُهتمّاً بالعمل، بما بين يديه، لا بغيره. كانتِ القيمة، هي ما يُحَدِّد اتِّجَاهَ القراءة. لا ننفي بعض حالات الشّطط التي حدثت، خصوصاً في وضع الموازنات، أو ما عُرِفَ بالخُصومات. لكن الأهم في هذه القراءات، أنّها كانت تُجابِهُ العمل، تقرأه، وتَتّخِذ الوضع الذي من خلاله تُحَدِّد قيمة العمل.
حتّى عندما اختارَ المرزباني في كتاب "الموشح" أن يكشف "عيوب الشعراء"، ويقف على ما يعتري كتاباتهم من لحظات وَهَنٍ في التعبير، أو في التركيب، وفي ما يطال نصوصهم من (أخطاء نحوية وغيرها)، وهي كلها " مآخذ " العلماء على الشعراء، فهو كان يعود إلى النص، رغم ما قد يتبدّى لنا، بين الفينة والأخرى، من ذهابٍ نحو الشّخص.
لم يكن النّقد مُحَابَاة، أو تَزَلُّفاً، بل كان مسؤولية. ما يعني أنّ الناقد كان نوعاً من الضمير المعرفي الذي يُراقِبُ ما يحدث في مجال اهتمامه، ويُبدي رأيه بشجاعة، مَعْرِفَته، وحدها، هي ما يحكم رأيه، وهي الأداة التي بها يحكم على قيمة العمل.
2
هذا النّوع من القراءة بالنص هو ما بدأت تفتقده رؤيتنا النقدية اليوم، وما أصبح عائقاً في الكشف عما يحدثُ حقيقةً، في وضعنا الثقافي، فالخريطة الشعرية، في العالم العربي اليوم، غير مُحَدَّدة بانتساباتها الإبداعية، وبشرطها النصِّيِّ.
جغرافيات عربية قليلة، من خلالها نحكم على الكُلّ، وعدد محدود من الشعراء، ينتسبون لغير الفترة الراهنة، هم من نتّخذهم، نماذج نُعَمِّمُ قوانينها، في الكتابة وفي الحياة، على مَنْ أتَوْا بعدهم، وكأنَّنا ما زلنا نَحِنُّ لرأي القديمين الذين اعتبروا " اللاحِقَ " لا يطالُ " السّابق "، وحكموا لرَجاحة " الأوّل " في مقابل " غيره.
يبقى النص مبتوراً، ناقِصاً، والمشهد غير مُكْتَمِلٍ، أو لا يُمَثّلُ النسبة الإبداعية المقبولة، علمياً، في تأكيد القوانين التي تحكم كتابة مرحلة دون أخرى.
فوضع الشجرة التي تُخفي الغابة، هو الوضع الذي يليق بما يصدر عنه النقد في واقعنا الثقافي. لن أنفي السياب مثلاً، باعتباره أحد الشعراء العرب المعاصِرين الذين كانت إضافتهم نوعية، وساهمت في حَلحَلة بعض الثوابت التي كانت تَحْجُبُ رؤيةَ ما كان الشعر في حاجة إليه من نظر إلى المُستقبل. لكن هذا لا يمنع من نقد تجربة السياب و زملائه، الذين ظلّت القصيدة، في جملة من قوانينها، تحكم رؤيتهم، وتجعل من أفق تجربتهم يبقى أسيرَ حداثة لم تُفارِق ماضيها، أو لم تتجاوز ثوابته التي هي انعكاس لتصور معرفي له شرطه التاريخي الذي ليس هو شرطنا التاريخي، ولا حتى المعرفي.
3
اليوم، عندما يتوجّه النقد إلى السياب، فهو يتوجّه إليه بنوع من الحنينن؛ حنين إلى ماض ٍ، ولو كان غير بعيد. كما أن هذا النوع من التوجّه، الذي ستعمل الجامعة، في ما تُسَمِّيه بالبحث العلمي، على تكريسه، هو أحد أشكال الاستعادة، والالتفات إلى الوراء.
الذين كانوا، في الأمس القريب، يُشهرون رفضهم في وجه " الشعر الحر " ويعتبرونه " مؤامرة " على تاريخنا ووِجدانِنا ربما، هم من أصبحوا اليوم، يقيسون شعرية النص بما كانوا يرفضونه، ويعتبرون هذا " الشعر الحر " أبغض الحلال.
العودة إلى الوراء، بهذا المعنى، هي رفض لكل طارئ، وهي رفض لمواجهة النصوص والحكم عليها من خلال مُقترحاتِها، وليس بما تُضيفه من قيمة للشعر، وبما قد تُمثِّلُهُ من اختراقات، أو ما تحمله من تَوَجُّه نحو المستقبل.
ألم نرفض جبران من قبل، واعتبرنا ما يكتبه لا يُمَثّل أية إضافة، وهو محض هُراء. نفس الأمر وُوجِهَ به أبوتمام من قبل، كما وُوجِهَ به التراث الصوفي كامِلاً... واللائحة طويلة.
4
الأمر إذن، لا يتعلّق بما يطالُ الكتابة من اختراقات، بل إنّ هذا الكسلَ الذي نطمئنّ له، والأنماط المُكَرّسة التي لا نرغب في قلبها، هي ما يحجب رؤيتنا، ويجعل من تصوُّراتنا تشرط وجودها بالمُتاح ليس أقل.
5
أعود أدراجي إلى الوراء لأقول، إنّ الحَجْبَ الذي يطال النص، ويجعله بعيداً عن نظرنا، هو أحد أعطاب هذا المأزق الذي يوجد عليه النقد اليوم. فهو نقد استرجاع. نقد تعميمي وتعتيميّ، لأنَه لا يمسُّ إلا الجزء الذي نحكم به على الكلّ؛ الشعر العربي هكذا، وكأن ما يُكتب في مصر وبيروت... هو الشعر العربي كاملاً، أو هو النموذج الذي به نكتفي في تشخيص واقع الحال، وما تبقّى هو مجرّد تنويع لا أكثر.
6
النّظر في النص، يبقى أحد أهم شروط القراءة العارِفَة. فهذه السّطحية، في النظر إلى الأشياء، لا يمكنها، بأي حال، أن تكون شرط معرفَةٍ، بقدر ما هي لحظة احتباس وتَعَثّرٍ في وجه أي خَطْوٍ، به نسعى لمُلامَسَة تُخوم عوالِم، ما زالت تُنَاهِزُ المَجهولَ، وتَتَمَنَّعُ باستمرار.
كما أنّ ما نُسَمِّيه بالمسؤولية، تفرض على كُلّ مَن يخوض في مجاهل المعرفة أن يتعامَل مع الظواهر من خلال ما تفرزه، لا من خلال ما هو مُعطىً بصورة قبلية وسابقة. كثيرة هي القراءات التي تكون سابقة للعمل، ومُهيَّاة، حتى قبل أن يكون العمل وُجِدَ أصلاً.
مَن يعود لقراءة ما يُكتب اليوم من نقود، أحصرها هنا في الشعر فقط، سيجد أن اللغة هي نفسها، وأنَّ كُلّ الشعراء رَاءُونَ، وأنّ الشعر هو نفسه، أينما حَلَلْتَ، والأدهى من هذا كُلِّه، أن الناقد الواحد حين تقرأ كتاباته، تجد الفرق بين نص وآخر، فرق في أسماء الأشخاص، وعناوين النصوص أو الدواوين فقط، في ما الكلام هو نفسه، لازِمَة واحدة تتكرّر، لا تنويع ولا اجتهاد، وكأن العالم كله سطح واحد لا شيء فيه يشي بالاختلاف أو التنوُّع.
7
في هذا، إذن، ما يُؤكِّد أنّ النقد، بهذه الصورة، هو نقد مُجامَلات وتَزَلُّف، وهو كتابة عن أشخاص. إطراء وتمجيد، كما هو شأن إعلامِنا الذي لا يُظهر من صور الواقع سوى ما يشير إلى الكمال.
الكتابة، في مختلف الأصعدة، لا يحكمها إلا ضمير الكتابة، وهي تَجَرُّد، وذهاب إلى قيمة العمل. وهذه هي الكتابات التي نقرأها اليوم، ونتّخذها كمرجع في بحثنا، وليس ما نُدرك بتجربتنا، وما تشي به صيغ الكتابة وتعبيراتُها، من حضور للشخص لا النص. كما أنّ عودتنا للمقارنة بين ما هو مكتوب عن العمل، وما هو عليه العمل، تكشف لنا فجاجة قراءة، لا شيء يؤهلها لتكون قراءة بالمعنى الذي تُكَرِّسُه كتابات لا تحتكم في تعامُلِها مع النص إلا بما يحمله من قيمة تؤهِّله ليكون شعراً بذاته لا بغيره.
8
إنّ ما نُسَمِّيه بالقراءة العارِفَة، هي تلك القراءة التي تكون ذات صلة بالنص، قراءة وتأمُّلاً، كما أنّها، في تَقَصِّيها، تكون محكومة بشرطها المعرفي، الذي
تّتّخذه وسيلة عمل، وبه، أو من خلاله تُبَرِّر ما تصل إليه من نتائج، لا بما تخوض فيه من نزواتِ ذاتٍ مَشغُولةٍ بالتمجيد فقط.
القراءة العارفة، بهذا المعنى، تخدم المعرفة، وتُساهِم في بناء التصوُّرات والمفاهيم، كما تقترح أفق التّحَوُّلات المُمْكِنَة، التي يكون النص ملاذها. ما دون هذا، من(قراءت)، هي تعطيل للمعرفة، وإتلاف لما يُمَيِّز التّجارِب، وما يمكن أن يكون لحظة تحَوُّل في أنماط الكتابة، وفي تشييدَاتِها التاريخية التي أصبحت مألوفاً، وماءً لا يبرحُ صَبِيبَه ُ.