مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الأحد، 30 أكتوبر 2011

الشاعر السوري عبد اللطيف الحسيني في ضيافة المقهى - فاطمة الزهراء المرابط

الشاعر السوري عبد اللطيف الحسيني… في ضيافة المقهى؟؟!
  فاطمة الزهراء المرابط 
- الحلقة 88-

 (  فاطمة الزهراء المرابط  )
من سوريا، مبدع يجمع بين الشعر والنقد، يتنقل بين الكلمات الدافئة لينسج لنا نصوصا إبداعية مثيرة للاهتمام والقراءة، له حضور جميل في بعض المنابر الورقية والالكترونية، من أجل التعرف على المبدع عبد اللطيف الحسيني وعلاقته بالمقهى كان الحوار التالي….
بعيدا عن الكتابة، من هو عبد اللطيف الحسيني؟
أنا هو نفسُه خارجَها أيضا، الداخلُ فيَّ هو نفسه الخارجُ : لا أستطيعُ الانفصال – مهما حاولت – في الكتابة عوالمُ من حروف وكلمات، وحين الخروج منها أشخاصٌ من حروف وكلمات أيضا، فأمّا أنْ أكتبَ عن العالم الشعري الذي لا ينتهي، وأمّا أنْ أتحدثَ مع أصدقائي الأدباء عن نفس العوالم ، ما أجمل أنْ تكون الحياة مليئة بالأدب، أسألُ، وأُسْألُ بنفس الوقت، يغضبني أنْ أكون السائل دائما، و بنفس الوقت أنْ أكون مسؤولاً أيضا، لو بقي المرءُ سائلا لَمَا استفادَ ، ولو بقي مسؤولاَ أيضا . مع إضافة معلومة : أنا طارئ على النت وأدغاله، هل تعلمين يا فاطمة : ما زلتُ أجهل جهلاً تامّاً ( المسنجر) و( الفايس بوك)؟ تركتُ هذا العلم لابني الذي يفقه في ( الحداثة ) أكثر مني .
متى وكيف جئت إلى عالم الإبداع؟
أمّا متى ؟ فأنا نفسي لا أعلم : وجدتُ مكتبة في كلّ غرفة من منزلنا : أخي الأكبر كانَ يملك مكتبة خاصة به، فلم أجدْ نفسي إلا قارئاً لها، أقرأُ دونَ أنْ أفقهَ شيئاً ممّا فيها لصغر سنّي، ولصعوبة الكتب تلك، وإنْ انتقلتُ إلى مكتبة والدي أجدُ مكتبة ضخمة، وحاشدة بكتب الأدب والفقه، والتراث خاصة : كتاب الأغاني – العقد الفريد – الفتوحات المكيّة – حلية الأولياء – والتفاسير الكثيرة للقرآن والحديث – ديوان الشاعر الكرديّ (ملاي جزيري )، إضافة إلى كتب طه حسين والعقاد، وتاليا درّبني والدي على : كيف أَقرأ ؟ وهو شيخ طريقة علمية أدبية – فقهيّة في كل منطقتنا . هذا الوالدُ علّمني أصول القراءة، واختيار نوعيّة الكتب التي ستخلق لديّ مَلَكة ( الكتابة ) لاحقا، الآنَ أفطنُ لتلك التدريبات التي لقنها لي والدي: كانَ يجبُ أنْ أقرأها كما طلبَ مني، وقد فعلت. نشرتُ نصوصي في الصحف والدوريات السوريّة والعربية، ولي من الكتب خمسة، وأشتغلُ على كتابين نثريين، أتمنى أنْ أُنهيهما في العام القادم ( 2010)، لكنْ – حقيقة – أُحسّ بأني مازلتُ في البدايات، و يجبُ أنْ أكونَ في البدايات، بدايات القراءة والكتابة . كي أكتبَ قليلاً، وأَقراَ كثيراً.
كيف تقيم وضعية الحركة الأدبية في سوريا؟
ضمن ما أقرأُ، وما أواكبُه، بإمكاني أنْ أُبدي رأيي في الحركة الأدبية التي تعاني ركوداً ملفتاً من حيث الإصدار الإبداعي، لا من حيث النشاطات التي تقيمها المراكز الثقافيّة، بإمكاني القول : في كلّ يوم ثمة نشاطٌ ( أمسية – حلقة كتاب – محاضرة …) في المراكز الثقافية في محافظتنا ( الحسكة ) وباقي المحافظات أيضا، أمّا الحركة الشعرية فتعاني ركودا أعظم، النتاج الشعري المطبوع فيه الكثير من الاستعجال الشعريّ الذي هو نفسه ما نُشر منذ عقود، قد أَستثني شاعرا أو اثنين : جولان حاجي – علي جازو …… إضافة لذلك عندنا دورياتٌ شهرية – أسبوعيّة – يوميّة لا يتابعُها إلا مَنْ يكتبُ فيها، أقصدُ هنا بعضا من أعضاء إتحاد كتاب العرب، وما أدراكِ ما هذا الإتحاد ؟ حتى أنّي أتعجّبُ ممّن يودّون الانضمام إليه، بشروط يمليها عليهم إتحادُهم .
ما هي طبيعة المقاهي في سوريا؟ وهل مازالت تحتفظ بدورها الإبداعي والثقافي؟
المقاهي مكانٌ لكل شيءٍ إلا الأدب، هذا الانطباع خلقته الظروفُ الحالية، أمّا فيما سبق من سنواتٍ، في حلب مثلا ، كان ثمة مقهى ( القصر ) يقصده ( كان يقصده ) الأدباء بجميع مشاربهم (الليبرالي – الشيوعي – البعثي … ) وبالنسبة لي على الأقل، التقيتُ بالناقد محمد جمال باروت في ذاك المقهى، وأعطيتُه مجموعتي الشعرية الأولى ( نحت المدن الصغيرة ) عام 1995- طالبا منه أنْ يكتب مقدمة لها، كان المناخُ آنذاك مناخ نقاش، وإبداع حقيقيّ ، أمّا الآن، فلا ، قد يكون السبب هجرة الكثير من المبدعين إلى خارج سوريا . وهم بالمئات . أمّا عن المقاهي في عموم سوريا ، فلا حرج أني لم أزرْ كلها لأكوّنَ رأياً .
“هناك علاقة وطيدة بين المقهى والمبدع” ما رأيك؟
لا أظنُّ أنّ ثمة علاقة وطيدة بين المقهى والمبدع، الإبداعُ يقولُ شيئا، والمقهى شيئا آخر مختلفا، للتوضيح : هذا تقوله المقاهي عندنا، أمّا في بقية المحافظات، قد يكون الوضعُ مختلفا، وليس لديّ انطباعٌ عنها. لكنْ : عموما باتت المقاهي للعب الورق والتدخين والصخب والضجة التي تنافي الإبداع قلبا وقالبا. هذا انطباعي قبل، وبعد التواصل الإلكترونيّ .
” المقهى فضاء ملائما للكتابة”؟
لو دخلتِ أيّ مقهى عندنا للحظةٍ، لوجدتِ وجهتكِ تُدار بعكسها تماما، الضجة لا تخلقُ إلا الضجة، ليس ثمة ما يُغري بالجلوس في المقهى، الجلوس للحظات بانتظار صديق لك، نعم، انتظار صديق للخروج من جوّ المقهى الخانق – الصاخب . فضاء المقهى فضاء ضبابي صخبيٌّ، وأظنُّ أنّ الصفتين لا تلاؤمَ بينهما وفضاء الأدب الهادئ الساكن.
ماذا تمثل لك: الكتابة، سوريا، الحرية؟
الكتابة: اليوم الذي يمرُّ دون أنْ أكتبَ فيه، لا أحسبه يوما من الأيام .
سوريا: الاسمُ جميلٌ حين ينطقُه المغتربُ . قال أدونيس عن دمشق مرة : بأنها الأُمّة والأَمَةُ و الأمُّ ، ذاك رأيه . أتفقُ معه في جزءٍ فقط .
الحريّةُ : نكرّرها باستمرار، لكننا لا نعيشها .
كيف تتصور مقهى ثقافيا نموذجيا؟
ما أتصوّرُه لن يتحققَ، أريدُ من المقاهي أنْ تكون صالةُ عرض للمسرح والسينما، وقاعة للمناقشة، لا ضجيجَ، ولا ادعاء . وما أكثرَ الضجيجَ، والإدعاءَ في حياتنا الثقافيّة والفكريّة.
*******
أشكر جهود الأُستاذة المجتهدة (فاطمة الزهراء المرابط) وحواراتها التي تمسكُ بالمشرق لتضعه في المغرب، وهذا دليلُ بتر الحدود بين الجميع
http://www.doroob.com/?p=10563

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

قراءةُ الوجوه .


إلى محمّد علي ابن ولي .
وجوهٌ تتغيّر, تبدّلُ ملامحَها ساعةَ تشاءُ بحسب الطلب حينَ تبتغيها مصلحةٌ شخصيّةٌ صرفةٌ تصلُ حدّاً يُقرأُ البغضُ فيها والحقدُ أحياناً , كأنّ الأشهرَ المعلومات خلقتْ وجوهاً ما كانتْ لها أنْ تنوجدَ لولاها , الوجوهُ التي عرفتُها مجدّداً ليستْ تلك التي عرفتُها منذ أكثر من أربعين عاماً قضيتُه فَرِحَاً من القليل أقلّ وشجيّاً ... شقيّاً .
يفرّحُني وجهٌ لم ألتقِ به سالفاً , ويغريني تحليلُه و نقاشُه في أيّ شأنٍ أريدُه أو يريدُه مستمعٌ لا على وجهٍ محدّد أو مشربٍ معيّن وأرى ذاك الوجهَ أقربَ مني إليّ , كأنّه أنا وقد نسيتُه أوضيّعتُ ملامحي فيه :  التجوالُ في متاهات الحياة وانتخاب الكلمة الأدقّ - الأصعب لتنافسَ وجوهاً لا تبتغي من الحياة غيرَ الثبات والنوم فيه وداخل نبرته التي تريدُ سَحْقَ أيّ صوتٍ مختلفٍ , فكيف بمخالفٍ أو مناهض له ؟. الوجهُ المقصود التقى بي وقابلني بطريق الصّدف القليلة التي عشتُها داخلَ الغليان , الوجهُ الشبابيّ أعطى لوجوم الملامح تربّصَها النفعيّ حين يحلّل القادمَ من الأيّام قبلَ حاضرها الذي يجلب الحَيرةَ التي تخافُها الملامحُ قبلَ أنْ تصرّحها الوجوهُ التي تقول نكتاً (أو شبهها) غير قابلة إلا للسخرية , وهي سخرية المواقف قبلَ أيّة سخريات يقولُها وصفُ حالتنا.
سأُحرقُ رجلي في وسط الطريق إنْ غادرَ بي إلى  تشابك طرقٍٍ فيها وجوهٌ متكلّسةٌ مخضرمةٌ بتمييع الأصوات وتبخيس ما كان حقّه التشرّب والتبنّي , ولا يمكن للتشتّت – الذي يعمل الكثيرون لأجله و رفع صوتِه - أنْ يكونَ بينَنا , مادامَ في المرء (أيّاً كانت خلافاتُنا معَه) طاقةُ غيرُ مرهونةٍ للانكسار أو التعب .
الخطابُ المراوِغُ باتَ يتقنُه القليلون منّا , وهم أنفسُهم أوقفوا حياتَهم عند خطابٍ رماديٍّ , هدفُه تحريكُ دميتِهم التي أوصلتهم إلى (المكانة العليا للمجتمع) , هذه المكانة التي لها (صفرٌ) في سلّم الأخلاق, فكيف ستكون عند وجهٍ شبابيّ راهن ؟
.....
وجوهٌ درّبتْ وجوهاً على التلصّص و بتر أيّ تكاتفٍ , وزرع كلّ خلافٍ (ما عَرَفَ طريقَه إلينا إلا الآن )
وجوهٌ تريدُ أشكالاً على مقاساتٍ خاصّةٍ بها , لا حياءَ فيها : لا في الوجوه البائدة ولا في ملامحها ولا في تعاملها , فكيف بمصيرٍ يتعلّقُ بشأنٍ عام ؟.
وجوهٌ لن تمرّ من هنا إلا بعدَ أنْ تدفعَ ضريبتَها : الاعتذار.
ووجوهٌ عاصفة مسحتْ غبارَ التعب لتكونَ هنا – الآن .

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

ضجيج في رأسي

 (سهيلة بو رزق)

عندما لا تجد ما تفعله اكتب عن الأغنية التي تحدث ضجيجا في رأسك ،  وتحوّلك اٍلى راقص محترف ، وعندما لا تجد ما تقوله اتصل من هاتفك باٍمرأة  تجيد قراءة ما يدور في جسدك ، أما اٍن كنت غير قادر على فعل شيء فنصيحتي لك  هي انتظار ما لا ينتظر وحينها فقط ستبدأ مشاعرك بالتحسن تجاه ما لم تكن  تكترث لوجوده في حياتك.
أعتقد أن الغباء حالة مستحبة لاٍنسان لا يجد ما يفعله في حياته حتى لا ينفجر عقله وتتحوّل ذاكرته اٍلى قطعة أثرية نادرة.
الحياة  ببساطة قلق دائم سريع التواصل ، و هي الغواية التي تدركنا ونحن على بعد  خطوة من الموت ، هي السؤال الذي يبعث فينا التأمل وهي المسألة التي تربك  خطواتنا باٍتجاه الذات ، هي الجريمة الوحيدة التي لا يعاقب عليها قانون  الأرض ولا قانون السماء اٍن لم تتورّط في غير المسموح به ، لكنّها من جهة  ثانية أجمل بكثير عندما تغازل المحرّم من الأمور ، بل ان المحرمات هي  اللّذة التي ترقص لها الحياة اختلافا.
لقد شعرت بطعم الاختلاف في  حياتي عندما قررت عدم الكف عن الكتابة بجرم وبعري وبوقاحة وبعهر وبكل ما لا  يسمح به ، وجدت نفسي أكثر انتظارا لأمر ما سيحدث في حياتي ولو متأخرا  ،ووجدتني أقف أمام مرآة ذاتي أبتسم بسخرية لي كما لو أني ألتقيني لأوّل  مرّة في شكلي الممسوخ ،فأحيانا يطلع صوتي من يدي ،وأقرأ الكتب بظهري وألمس  الأشياء بأذني.
التفاصيل تهرب مني دوما في الاٍتجاه الآخر وأنا أركض خلفها وألهث كمجنونة.
هناك  ما يعبث بنا ، هناك ما يمنحنا الثقة في جوهر العبور اٍلى لغة تكتبنا أكثر  مما نكتبها ، هناك خلطة سرّية تمدنا بأسئلة الليل الطويل الذي تتراجع  أوهامه أمام رشة ضوء من عيني الشمس ، هناك ما يعترض أحلامنا الصغيرة التي  بحجم القلب ، النابض دوما بحب .
أسوأ ما في الحياة أنها لا تنتظر  أحدا واٍن حاولت الرّكض فيها اختلت فيك موازينك ،لا عبث هنا ولا خيار لنا  اٍلا القليل من رتوشات الصمت.
سأحاول اليوم الغطس في قاع البحر  بمعدات جهزّتها من قبل لكي أتحرر من الطبيعة ، سأغوص عميقا ، سأحاول ترتيب  ما بداخلي من فوضى تحت الماء ، سألتقي بسمكة تشبهني ، واٍن اٍلتقيت بالسيّد  القرش سأقبله من شفتيه وسأتواعد معه ليلا في شقته لكي يفترس ما تبقى مني  من أفكار ، سأخبره بأن القروش البريّة لا تفهم في النساء غير ما يحتويه  جسدها من ثقوب تثير فيهم الغضب ، فينقضون عليها بجنون ،سأخبره انني أنثى  عطشى ومملوءة بالخيال ، سأمارس معه كلّ ما يخطر ببالكم ، سأجعله يتقلب فوق  أفكاري ، سأحبه وسأجعله يعشق مدّي وجزري فيه.
في اليوم الموالي سأسحب  خطواتي في زيارة اٍلى الأموات ،سأضع على جميع القبور وردة وأغنية ، سأقبّل  التراب ،أمسح وجهي به ،وأجلس بالقرب من قبر ما لا أعرف هويته أقص عليه  حكايتي.
ربّما لن يسمعني أحد ،لكن _على الأقل_ الأموات لا يكذبون في  صمتهم ،سأترك كتابي المفضل هناك وأغادر سيأتي آخر مثلي اٍلى المكان نفسه  ليحكي أوجاع الحياة فيه ، فنحن مصابون بالحيرة على الدوام ، لا نكترث  للأجوبة اٍلا اٍذا سألنا وعندما نفعل تكون الاٍجابات قد اختلفت وربّما  ازدادت حيرة هي أيضا.
عندما لا تجد ما تفعله اكتب عن الحلم الطفولي  الذي تناسيته فقد تتحقق تفاصيله على الورق ،أما أنا فلست أعرف كيف أملأ  فراغ يومي رغم أنّني قمت بكل ما نصحتكم به اٍلا الغباء.

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

«إسم الوردة» لأومبرتو إيكو: أرسطو والضحك ممنوعان



حدث قبل سنوات كثيرة من الآن أن ناشراً ايطالياً كان يحضر مؤتمراً فكرياً في إحدى مدن بلاده. وكان في المؤتمر عدد كبير من المفكرين المحليين والأوروبيين. وقد لاحظ الناشر يومذاك جدية المواضيع المطروحة وصعوبة الولوج في دهاليزها... ثم لاحظ كيف ان المفكرين الباحثين يبدون قادرين تماماً على إيجاد الحلول في نهاية الأمر. ولاحقاً، خلال عشاء أقامه وحضره عدد من الباحثين، راح الناشر يشبّه البحث العلمي الفكري من ذلك النوع بالرواية البوليسية التي يحكمها المنطق في نهاية الأمر. ثم بعد أن صمت لحظة قال ما يعني انه يحلم بأن يقوم مفكر جاد بكتابة رواية بوليسية حافلة بالمنطق والأحداث الغريبة، ثم سأل الحاضرين: لماذا لا تجرّبون حظكم؟ ابتسم الكل يومها باستثناء واحد منهم قال، في ما يشبه الرفض المهذب: «اذا ما وجدت أن عليّ كتابة رواية بوليسية ذات يوم، ستكون رواية تدور أحداثها في القرون الوسطى وشخصياتها رهبان في دير. وعدد صفحاتها لا يقل عن 700 صفحة...». على الفور قال له الناشر عند ذاك انه يوافق على نشرها وأن هذا تحديداً ما كان يفكر فيه. فوجئ الباحث أمام ذلك الاقتراح وقال لنفسه: «لم لا؟».


> كان اسم الباحث الشاب اومبرتو إيكو. وعلى يديه ستولد بعد ذلك بسنوات، واحدة من أغرب وأجمل روايات النصف الثاني من القرن العشرين: «اسم الوردة». طبعاً لا بد من ان نقول هنا ان ايكو هو نفسه من يروي هذه الحكاية... وقد لا تكون صحيحة كلياً... وبخاصة على لسان كاتب وباحث سيعرف لاحقاً بطرافته وغرابة طروحاته. لكنها، في هذا الاطار تحمل كل دلالاتها، خصوصاً أن «اسم الوردة» هي في نهاية الأمر رواية عن الفلسفة وعن الكتب... أو - كما قيل دائماً - رواية عن «جدّ» بعيد لشرلوك هولمز وجد نفسه فجأة وسط دوامة من الشكوك والتساؤلات والحيرة، أمام آباء الكنيسة وأمام أرسطو.


> من الناحية الزمنية تدور أحداث «اسم الوردة» خلال اسبوع من خريف عام 1327... ففي خلال ذلك الاسبوع يجتمع كبار مفكري الكنيسة من الرهبان الفرنسيسكان في دير آبينين الشهير، بأمر من البابا بقصد التصدي لهرطقة كانت بدأت تشقّ طريقها مهدّدة ما تبقى من وحدة الكنيسة وسيطرتها المطلقة... غير ان رجال الدين نفسهم الذين أقاموا ذلك المجمع بدوا منذ البداية غير متفقين في ما بينهم لاهوتياً وسياسياً. ثم يحدث أن يقع عدد من الرهبان الموقّرين ضحية لقاتل غامض راح شرّه يستشري من دون أن يعرف أحد عنه شيئاً. ولا يعود ثمة - والحال هذه - مفر من ارسال الأخ غيوم دي باسكرفيل، ذي المزاج الغريب، الى المكان ليحقق في ما يحدث، يصحبه سكرتيره الشاب آدسو دي ملك... وآدسو هذا هو الذي تروى لنا الرواية على لسانه، إذ يكتبها بعد سنوات طويلة، من وقوع الأحداث.


> ان هذه الرواية التي تتخذ هنا هذه السمات البوليسية التحقيقية المشوّقة، لا تنسينا أبداً ان الكاتب (اومبرتو ايكو) فيلسوف في الأصل ومؤرخ للفلسفة. وهو يذكّرنا بهذا في كل صفحة من صفحات الكتاب، حيث إن مقدمة الصورة البوليسية، تشكل اطاراً لرسم صورة عميقة وجذابة للمناخات الفكرية السائدة هناك في ذلك العصر... ولا سيما في اجواء الطوائف الهرطوقية... وهذا ما يجعل ايكو يغوص في تفاصيل مدهشة حول الأفكار ولغة الحوار بين مختلف الأقوام وعاداتهم وحياتهم اليومية... ثم بخاصة حول فضاء الصراع على السلطة داخل الكنيسة نفسها... والمذهل هنا هو انه كلما غاص ايكو أكثر في حمأة الأفكار العميقة، وجد لذة قبل أن يثقل على القارئ، في القفز مباشرة الى الأحداث البوليسية وحكايات الجرائم، ما يعطي هذه الرواية فرادة فكرية.


> ولعل أجمل ما في الأمر ان الأحداث كلها تدور في ذلك العالم السحري الغامض... عالم الدير المغلق على نفسه والذي تدور الأحداث في داخله مع عين مفتوحة على العالم كله، حيث يدرك القارئ بداهة ان كل ما يحدث هنا، بما في ذلك الجرائم البوليسية نفسها، انما هو على علاقة مباشرة مع العالم الخارجي: مع النتائج التي ستتمخض عن ذلك الصراع الخفي بين المنطق والنقل... بين العقل والخرافة... ثم بالتحديد بين نظرة الى الدين منفتحة على العالم تقبل الحوار مع ما هو مختلف، وبين نظرة أخرى يرعبها كل منطق وانفتاح. وطبعاً سنفاجأ، في نهاية الأمر، بأن حل ألغاز الجرائم انما هو مرتبط كلياً بذلك الصراع اللاهوتي - الفكري.


> ذلك ان هنا بالذات، يدخل أرسطو ومنطقه، من طريق الترجمات العربية، وتحديداً من طريق تفسيرات ابن رشد الأندلسي له. ابن رشد هو المحرك هنا، والموضوع هو أرسطو... أما النقطة الأساسية لكل الأحداث فهي مكتبة الدير، التي تبدو كالمتاهة. والمكتبة داخل الدير هي، كما يقول الباحثون صورة حقيقية لغموضه، لكنها في الوقت نفسه - كما يشير ايكو وكما يقول مؤرخ العصور الوسطى الفرنسي جاك ليغوف - المكان الذي يولد منه العصر الحديث، هذا العصر الطالع من رحم فكر أرسطو وجهود ابن رشد.


> أما الجرائم التي تحدث، فإنها تحدث، بالتحديد، لمنع تلك الولادة. و «الولادة» هذه، على ارتباط مع الضحك كوسيلة لانبعاث حرية الفكر لدى الانسان. والضحك موجود في بعده الانساني داخل كتاب لأرسطو، يحاول رجعيو الدير اخفاءه، فيما يسعى رجال دين آخرون الى قراءته، وسط ظلام المكتبة. وهذا الكتاب الذي هو في الأصل وسيلة تنوير لا بد من أن تصل الى الناس جميعاً، يكون هو تحديداً الأداة التي يستخدمها الرجعيون لقتل دعاة التنوير. وهذا ما سيكتشفه دي باسكرفيل... رجل التنوير والعقل الحقيقي الذي إذ يصل الى الدير مكلفاً بالتحقيق، يأتي حاملاً معه أفكار معلميه الانكليز التنويريين من أمثال فرانسيس بيكون والاوكامي. (والاثنان كانا من كبار أهل الرشدية في الفكر الأوروبي)... وهذا ما يمكّنه، وسط سجالاته التنويرية والانسانية، من حل الألغاز وكشف الجرائم ومدبّريها. غير ان هذا سيؤدي الى احتراق المكتبة. وهنا يقول لنا دي باسكرفيل: لم نحزن... طالما ان المكتبة ليست في ماهيتها، بل في من يهيمن عليها. والمهم ان ما يحدث لها وفي الدير، انما يكون اشارة حقيقية الى انبعاث عصر الانسان... أي الى بدء النهضة. وهكذا - عبر هذا الربط بالجرائم وبالفكر الكنسي والصراعات التي عرفها هذا الفكر في ذلك الزمن - قدم لنا اومبرتو ايكو صورة مشرقة لانبعاث عصر الانسان... لكنه في طريقه حدّد ايضاً تلك السمة الأساسية التي لا يفتأ قراء الرواية البوليسية يتعاطون معها من دون القدرة على إضفاء طابع نظري عليها: سمتها كمكان يتجلى العقل فيه أكثر ما يتجلى، طالما ان حل كل لغز بوليسي في أية رواية جديرة بأن تعتبر رواية بوليسية حقيقية، انما يقوم على مبدأ العقل والاستنباط المنطقي، ما يعني ان كل رواية بوليسية هي قبل أي شيء آخر درس في المنطق، أي عودة الى أرسطو. وفي هذا المعنى تمكن امبرتو ايكو، بعد ولادة الرواية البوليسية الحديثة بأكثر من قرن، من إعادتها الى رحمها الشرعي: المنطق... كما تمكن من أن يسهل وصول فكر المنطق هذا، الى الناس.


> ويقيناً ان هذه السمة هي التي أنجحت هذا العمل الصعب والمكثف الذي كتبه مثقف ايطالي كبير. وإيكو المولود عام 1932، لم يكن معروفاً قبل «اسم الوردة» ككاتب روائي، بل كفيلسوف ومفكر وباحث في علم المعاني. وهو كان أصدر الكثير من الكتب مثل «العمل المفتوح» و «البنية الغائبة»... ثم، بعد النجاح الكبير الذي حققته رواية «اسم الوردة» كتب روايات كبيرة أخرى من أشهرها: «بندول فوكو» و «جزيرة بوديرلو» وفي الفترة الأخيرة «مقبرة براغ» (الرواية التي اثارت ضحة كبيرة واحتجاجات حتى من قبل صدورها والسبب واضح: انها تدور من حول نصّ «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي لطالما اثار الاحتجاج والسجالات جرى العرف والمنطق على اعتباره كتاباً مزيفاً)، من دون أن يتوقف عن اصدار الكتب العلمية والتدريس الجامعي وخوض المعارك الفكرية من أجل التقدم والانسان.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة

الجمعة، 14 أكتوبر 2011

كيفَ أحمِلُ الأرضَ؟ . كيفَ تحملُني؟. (1)

 (أستاذي في الجنون عبداللطيف الحسيني , نعم ...هو: دينوكا)


إلى عبداللطيف الحسيني : إنهُ الترابُ حين يتفتّت .
هكذا تحبّ لهذا…
وكذا يخونُ لماذا…
وأنا أحبكَ آنذاك…
ذات جدا غريدة…
موتها ودج صغير…
مجمرة مهجتي، فكيف لا أحترق؟
أتسطر ما تبقى منك فيّ
أستنهضُ دفءَ الكلمات في موتي
استقرئ ذاك الجليد الدامي….أنا الأرضُ فكيف لا أثور؟
بين السرّ ورائحته أحيك تفتت ظلي.
فوق أوراق الخرافة تعلو بنفسجة اليقين،
بين رماد ونثار، يلهثني العطش
بين رتق ونزيف، تعلكني الذروة
تحملني ممراتُ القيامة
يتلوى أنينك المغروس في جسد الكمان
يتقصّف الموت حقيقة
صفصافة تعتقل في رحم التيه موتها الشهي
تعتصر لهاثا يتعرّق وينفث نفسه ليضيء وجه الكون.
فكنتُ العبور…
وكنتَ الثبات…
وكان فعل أمر متوهجا كوردة
تقشر الروح في كف الجسد، فيكَ
حقول عباد الشمس
حمامة فكتوريا المتوجة.
هشاشة التلاشي المثقلة بآخر أيام ديسمبر…..
.شهية رائحة القبلات وهي تحترق….
لذيذة كالموت، كالوهم……………..وأحلم:
لا أحبّ الرخامَ الأملس، عذارى الفراشات خاصرتي… وتوهج حبة رمل واحدة هي الشمس. جمرة واحدة تتقصف في صوتك، تشتعل صراخات، تتفسخ خيبات، ووجوه ضائعة.
هي أدمغتنا العذراء، هي كل تفاصيلنا الصغيرة من الفقدان.
هي ترنحاتنا الوعرة، شطط فوضانا، تدحرجُنا المبللُ المبلبل. غيوم دنيانا.
عيناها المنكسرتان.
هي نكات الآخرين المتبقية. خيوط العابرين.
هي الرقص تحت أضواء الهسيس الخافتة، أو ربما _ بعض الكلام ….
في الصباح: هي وجه قلبك القرمزي المتأجج. مسلك الهواء الوحيد العائد من الجنة..
في الظهيرة: شعاع ساقط رجعي يرشق الفقراء بحصيات أنفاسهم.
في المساء: هي شواطئنا المنحسرة في حفنة من سكون……….
هي لغة كل ما ينمو….
هي مزاج وهكذا …………………..أحلم
كأنها تقاسمني شيئا ما ….حين تغيب , فتعانق فرسانها وخيولَها.
كل مَن أتعبهم الشباب وسد نوافذ أحلامهم.
تغيب لتحملني عبئا روحيا مهوّلا من فرط صدقها في ممارسة الغياب!
اذ تتفرخ في مستنقع عميق ثم تنتهي كنداء خفيف متتالٍ .
يسحبني من مناقيري المرقطة تلك الرملية الباهتة،
بكل ما تتكبده.
هي كرواني الجبلي. هي صيحته الشجية الباكية…
هي قطقاطي الأغبر، نداؤه الدمشقي العذب.
عوّدتنا أنْ نكونْ أقوياءَ: بهاءً وسطوعا.
ضياؤها المنشورُ في جوار الأرض، في كلِّ ركن من السّماء، يغادرنا فيتركنا متفسّخين، ظلاميين بأسمائنا، بنفوسنا، بفوضانا. بدوراننا الأعمى.
كأنَّ حقبة الإرادة والقوة قد تبدّدتْ؟ كأنَّ الأمنَ قد امتلكة اللصوصُ؟
كأن الانسانية تصرخ: لا وجود لي في ذاكرتي……وأحلم
بجسدها المنحوت بدقة. عملاق كونيٍّ رقيق يرضعني الأمان.
كيف لهذا البؤبؤ الناصع البياض أن يمتلكني؟ كيف لهذا الجرح الغائر فوقَ الكلّ أن يقذف بي لمغاور الفناء؟
كم أشتهي أن أضع على قبرها حزمة ورد.
الشمسُ حقيقتنا اذن، بصفائها، بطهرها، باصفرارها، شئنا أم أبينا.
حرارتها العظيمة هي أمواجنا القاتلة، زحفها الطويل هو سفرنا الغريب نحو الأبد.
تعاليها فوق انفعالات أمواجنا المتلاطمة هو سلام الأرض.
أنين تربتها الخاوي _ مخلفاتنا من الانكسار.
سراب ألقها الصقيل _ تنفسنا اللاهوائي.
صوت الكمان البعيد……………….. في ذاكرتي.
الآن أنا حاضرة، لم يفاجئْني أنَّ الشمسَ تعرفني بتأثري.
أحملُ شعلتي الحرّة، أرفع قهر الدنيا، مفاعلها وألوانها الفاقعة، لأستقرئ الظلال.
لأغربل رمادي المتبقي. زيتي المعاد امراره…….
كلما انتصبت أمامي لتطفيء حريقها الأعظم تشبهني لحدٍّ ما.
كأنها تطفئه في جوفي.
هي تصدعي النجمي _ زاحفيته..
هي سحبه الليلية المضيئة. مصباحك التوهجي.
هي زيته اللاجفوف،
زجاجه الذي لا يتناثر عند الانكسار.
كيف أصبح مجرد خيط محروق إذن؟
من حوله لعنق بركاني،
لخرسانة مسلحة،
لكئيب جليدي،
لغيمة سديمية محددة المدار؟…….. وأحلم:
أنا صندوق أذرع متأرجحة،
أنت تشققي الحلقي،
أنا دقيق صخري حزين…….
وأنت توهجي الضوئي
الجزء الأوّل من كتاب الكاتبة الفلسطينيّة نائلة الخطيب بعنوان : كيفَ أحمِلُ الأرضَ؟ . كيفَ تحملُني؟.

السبت، 8 أكتوبر 2011

حجرة عبد اللطيف . للكاتبة و الباحثة المغربيّة لطيفة لبصير .

للكاتبة والباحثة المغربيّة لطيفة لبصير .

(لطيفة لبصير )
حجرة عبد اللطيف .
حجرة عبد اللطيف وهو يجلس فوق السرير، كان جسده قد أصبح مثلث الزاويا، وكانت الزاوية الرابعة قد غادرت جسده، وكان يزداد انكماشا. تقوس ظهره حتى سقط رأسه في وسط جسده ثم غاب فجأة ليحضر كأس قهوة سوداء، ويبدأ في الصراخ مع كل رشفة وكأنه يرتشف جسده قطعة قطعة، ثم نظر... إلى السرير، وأحس بكره شديد لهذا السرير الذي يبعده عن الأرض والذي يفقده التوازن، قام واقتعد الفراش اليتيم في الحجرة، ثم أحس بأنه لا يشعر بالراحة أيضا، غادر باب الحجرة إلى جوار المنزل وتساقط على الأرض، كانت الأرض تشعر به وتمنحه شيئا من الاحساس. كانت تشعره بأنه يوجد بينه وبينها علاقة قرابة حقيقية، ثم شرع يشرب الفنجان تلو الآخر، القهوة السوداء وفناجين تنتظر وقلق متربص به يتوثب للانقضاض على جسده النحيل. وهو يحدق جيدا، كانت عينا دارين قد اتسعتا بخوف رهيب، نظر إليها وهي ترتدي ألوان الفرح، قبل جبينها وطلب منها أن تغادر المكان فورا، وأخرج سجائره وشرع يلتهم السيجارة تلو الأخرى، كان يقبل الورق الشفاف، وكأنه يشعر بالذبول أمام السيجارة، وكان الورق كلما تبلل برذاذ فمه، يشعر هو بالاحتراق، لكنه لم يتوقف. عاد إلى الحجرة، كانت تئن بالذكريات، هنا كان ياسين يضحك وهو يقلب صفحات الجرائد والمجلات ويحمل القصائد الجديدة، وبالخارج كان يقف محمد متأبطا أوراقه الكثيرة المرتبكة وكأنه بعد قليل كان سينشر الخلاص من الموت. كان يأتي محملا بالرغبة والجنون والكلام الكثير، وكان الدخان ينبعث من الغرفة مع أكل لذيذ ولغو كثير، يتذكر ذلك وهو ينظر إلى كتبه الكثيرة التي صارت منزعجة لأنها لم يمسسها أحد منذ زمن، ولم تغازلها يد أو عين. ينظر إليها: هل كانت هذه الكتب بقادرة على محو العبث الذي يوجد بالخارج؟ هل كانت تستطيع إيقاف زحف الدم؟ هل كانت بقادرة على الصراخ في وجه القاتل؟ ليس يدري... قام إليها، كان أبو العلاء المعري يعانق الجاحظ، ليس يدري لماذا يلثم الكتابان بعضهما وكأنهما يعلنان حلف المضي قدما جنبا إلى جنب. كان الجاحظ يتجلى بسخريته اللاذعة وهو يردد:"متع الدنيا ثلاث...أكل اللحم، والجلوس إلى اللحم ودخول اللحم في اللحم"، وكان أبو العلاء يقول: "تعب كلها الحياة...فما أعجب إلا لراغب في ازدياد". كانت الحياة تجاور الموت، وكأنهما يتعانقان عناقا أبديا، قام عبد اللطيف وأبعد الكتابين عن بعضهما البعض، الجاحظ يعانق المعري هكذا ويلثم جبينه ...الآن هو لا يريد ذلك، هو يكره حتى الأوراق المتناثرة بداخل الحجرة، لكنني قدمت إلى هناك، نظر إلي نظرة باردة، كان جريحا جدا، قال لي: أتشربين قهوة سوداء؟ نظرت إليه وقلت: أليس عندك غير القهوة؟ هذه القهوة هي حادة...لونها أسود، وهي تشرب في الحداد، وعند الرغبة في اليقظة، وأنا لا أريد صحوا الآن، أريد أن أتهادى قليلا...وأن أتحدث إليك... - وماذا تشربين يا عزيزتي؟ نظرت إليه بهدوء تام، وقلت: أريد شايا، فالشاي مخادع له لون النبيذ وطعم الرغبة في الحياة، أريد شايا، لأنني أشعر بأنه يمنحني جزءا من الأنس... كان عبد اللطيف قد أخرج هذه الكلمة من قاموسه السري، فلم يعد يشعر بالكائنات منذ زمن، صار الأنس بعيدا، وصار للألفة منظر الدم في كل يوم، والألم عم المكان والأشخاص والأدمغة... نظرت إليه ثم قلت وأنا أتأمل عينيه الحزينتين جدا: - أتدري يا عبد اللطيف أن للشاي أنس غريب، فحينما أضع هذا الإبريق أمامي، فأنا أضع كؤوسا كثيرة حتى لو كنت وحيدة، وأفترض دوما أن أناسا آخرين سيحضرون، حتى لو غابوا، سيأتون ليجتمعوا حول الصينية الدائرية، لأنها تعشق الدائرة، ويتخلق السمر والكلام، لذا اعتدت أن أشرب الشاي بكؤوس كثيرة حتى في أحلك لحظات عزلتي...أما القهوة فهي فردية لأنها تكره الأنس، وهي سليلة العزلة ولا تريد آخرين، إنها تريد الانزواء والتأمل، أما الشاي فهو يقدم لك أشخاصا آخرين...حتى لو لم يحضروا، صدقني عبد اللطيف، سيأتون إننا بانتظارهم... كان عبد اللطيف قد التوى في مكانه الخاص، وانزوى ليحكي ألمه بكل الألوان والأشكال، مرة ينط من فوق البئر مع طفله، ومرة يجلس منكمشا فوق أمكنة بئيسة، ومرة يمسك برأسه بألم قوي، ويصرخ، ومرة يسابق طفله ويبدو له القادم بعيدا بعيدا جدا... كان عبد اللطيف يتحدث عن ابن الفارض وعشقه الصوفي، حتى دخلت كل الوجوه إلى حجرته، كان قد ملأ الحجرة بكل الآخرين، صاروا أمامنا، ومعنا وفينا، وبدؤوا ينشرون رسائلهم على أرض حجرته: نائلة...سعيد...ياسين...سلوى...الكل ينشر رسائله على الأرض، وعبد اللطيف يغرق في الزحام والأصوات واللغة والكلام من كل بقاع الدنيا وبكل اللهجات، وبدأ يشعر بالآخرين...وكأنه يقتات منهم ويقتاتون منه...وضعوا الرسائل وانصرفوا... كنت ما أزال أرتشف الشاي بهدوء، وقلت له: ألم أقل لك إن الكؤوس الفارغة تستحضر الأرواح الغائبة، إنهم حضروا هنا لأنهم شعروا بأننا ننتظرهم. كان عبد اللطيف ينظر إلي، ملأ كأس الشاي وبدأ يشرب بنفس الهدوء، وتصلب ظهره، وقال لي: وأين رسالتك أنت؟ قلت له: أما زالت لم تصلك رسالتي...لقد جئت من هناك لأحضر معي كل الضجيج، وشربت كأسا مليئة بالحياة، والآن سأنصرف وأترك رسالتي الأخيرة معك... كان عبد اللطيف ينتظر شيئا ما، فتش عن الرسالة، هربت إلى الخارج، دار في الحجرة متوعدا، متربصا، محدقا، تائها، ثم عاد إلى الكأس، فوجد فوق الصينية رسالة صغيرة فتحها وقرأ كلمات صغيرة أيضا: " في قلبي جرح قديم...عبد الهادي بلخياط" طوى عبد اللطيف الرسالة، وبدأ يتساءل....

الاثنين، 3 أكتوبر 2011

أنا لستُ لي .

 أنا لستُ لي .
( أنا لستُ لي .)

إلى غسان جانكير وفرحان سيدو .

كأنّ ما قلناه وقالَه الحِراكُ الوجوديُّ منذ أشهرٍ معلومات يُريدُه أشباهُ رجالٍ كانوا أقربَ إلى الاختفاء أوالاختباء (بالمعنى التحقيريّ) , باتَ ظلًّ أؤلئك الأشباه يُبانُ على سطح مَنْ يجاريه في جلساتٍ أقربَ إلى "القال والقيل" منها إلى هدير سمعته كلُّ جهات الأرض : سمعه الشمالُ قبلَ أنْ يُلقيه إلى جنوب الأرض المسحوق .
لا شكَّ في راديكاليّة بعض مثقفينا الذين كانوا قد ركبوها (على ما يبدو) في وقتٍ لم تكن الحياةُ بأمسّ الحاجة إليها , و حين طلبتها الحياةُ وتطلّبت تحديثَ تلك الراديكاليّة التي اختفتْ في غبّ الحدث , فكيف بمعتركه ؟ الوجود الصقيعيّ لهم , المتحرّك ضمن أُطر أشبه بصرخةٍ لا تخرج من (زنزانة أفواههم ) لن ينطلي صقعُ وجودهم إلا على أشباههم , فكيف بِمَنْ جارى صوت الحراك و صداه , وما بينهما من عتابٍ ونقد لم يكنْ يُرتجَى من أيٍّ كان حتّى من أقرب المقرّبين – البعيدين عن صدى ما قاله نبضُ الأطهار , حتّى باتَ جزءاً حقيقيّاً منه , وجودُه في وجودِه , إنْ غابَ , فسيغيب (وذاك لن يكون) .
و في الطرف الآخر من شأننا الداخليّ الصرف ثمّة حديثٌ خجول يُعجب الكثيرين ممّنْ (نمّروا و ذأّبوا جهاتٍ بعينها و ألّبوها على مساكين الأرض و بُسطائِها) . الحديث الخجول الأقرب إلى السَفَهِ العارم و الركيك الذي فحواه : السكوت أيّها السادة – عودوا إلى أماكنكم سالمين , بعدَما كنتم غانمين . أؤلئك كانوا غائبين عن أقرب جار سُحِقَ بفضلهم سنواتٍ .
 - تجاه حالتين تجاريّتين تأسّس عقلٌ يقرأُ الواقعَ بأبهى صوره , وصلَ إلى حدّ التماهي معَه . الواجبُ الأخلاقيّ يقول قبلَ أيّ زيف رخيص , وقد كَثُر في الأيام الأخيرة : لا أحدَ يأمر ولا أحدَ ينهي عقلاً جديداً خَلَقَه الحسّ الحادّ بما حولَه نقاشاً وإعادة الإحساس إلى الكائنات وإلى وجودها الصارخ المنقّب. و لن أزجي أيَّ امتنان إلا لِمَنْ يستحقّ .
أتذكّر محمود درويش الذي احتجّ يوماً :
أنا لستُ لي
أنا لستُ لي.