مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

الأربعاء، 30 مارس 2011

أبي .(عبداللطيف الحسيني).

طلبَ بعضُ أصدقائي نشرَ هذا النصّ لي من كتابي(مسوّدات مدينة) لقراءَته كاملاً .
- أتلصّصُ عليه من درفة الباب أو ثقب المفتاح أو تشقّقات الباب الخشبيّ القديم .
- وضعية مقدّسة بالنسبة لي أن أرى امرءاً نائماً  والكتابُ بينَ يديه أو على ركبتيه.
إنه لا ينتهي .

إنّه ليسَ كتاباً صعباً حتى لا ينتهي : تفكّكُ رموزَه و دلالات معانيه ,إنْ رأيته مرّة في الحياة - صدفةً - فسوف يرافقكَ طويلاً في الحياة .إنه كما الكثير : أسماؤهم تدلّ عليهم : أخلاقاً وسلوكاً ,فاسمُه علامة عليه وقد تبرّك باسمه كثيرون ، حين أسموا أبناءَهم باسمه   محبّة به وبمصادقته   وبسلوكه ,وقد ردّ عليهم الشيخُ جميلهم : أعطاهم أعزّ وأبهى ما يملكه : أعطاهم عمرَه .
كأنّه كتابٌ بمقدورك أنْ تؤجّله يوماً -ثلاثة - شهراً . لكن ليس بمقدورك أنْ تهمله .الحياة وحدها كفيلة لتكون قيّماً ولتجعله روحَها المتوثبة الخلاقة ولتؤكد أن الحياة ما كانت تسمّى لولا وجودُه العنيف فيها
ما أجمل الحياة!
و لأجل هذا فإحساسُه بالأشياء والقراءة والكلام و الألوان و الأشخاص  و الأماكن "الأماكن القريبة بمتناول البصر واليد " مختلفٌ إلى درجة أنك تحسّ بهذه العلامات للمرّة الأولى , وكأنك تراها للمرة الأولى حين يتحدّث عنها هذا الشيخ أوحين يدلّك عليها , فعنده  ليس لهذه العلامات بعدٌ  أحاديّ  بليد ,بل فيها أثنية قابلة للقراءة و الكلام عنها من جديد , وكلّ هامشي في الكلام و الأمكنة يحتاج إلى عوالمَ و قراءةٍ مناهضة لم نحسّ بها نحن , لم نعاينْها . مَن عاشرَه فترةً زمنية قصيرةً  سوف لن يرى إلا و نظرتُه و كلامُه عن كل شيءٍ تفضي به إلى مسار أكثرَ عمقاً وبعداً .
من أين له هذا البعد الاجتماعي و الثقافي و النفسي ؟ وبما حوله ؟
لِمَ يُستشارُ به بهذه الكثافة ؟ يستشيره لا الأقربون منه وكفى ,بل الأبعدون عنه . ولِمَ يُؤخذ برأيه هو فقط ؟.
ألمْ يطرحْ أحدُهم على نفسه هذا السؤالَ ؟ وليكن هذا السائلُ صديقاً له أو غريباً عن المدينة  دلّه البعضُ على الشيخ . وسوف لن يكونَ لأيٍّ كان ,ومَن كان جوابٌ وافٍ عن هذا الموضوع . ربما يكون عندي بعضُ جواب أو خيالُه : هو أنّ الشيخ -الآن-لا يرى أي شيء ٍ إلا إذا قرّب المنظورَ إلى عينيه ,إلا إذا اقتربَ هو منه اقتراباً شديداً حتى  يرى ما لا يُرى ولو من بعيد , ما هو أمرّ : أنّ الشيخ مازال يقرأ , لكن   بطريقةٍ غريبة : يضعُ مجهراً على الصفحة المقروءة حتى ترى عيناه ما هو مدوّن فيها .
أتذكره :
سوف أتذكّرُه الآن : قبل عشرين سنة كنتُ أفيقُ ليلاً أوبعدَ منتصف الليل فأرى ضوءَغرفته مشتعلاً ...شحيحاً.أقتربُ من غرفته ,
وأقول "غرفته "جدلاً   ليس إلا ,لأنها ليستْ غرفة ولو بالمعنى الضيّق أيضاً . أتلصّصُ عليه من درفة الباب أو ثقب المفتاح أو تشقّقات الباب الخشبيّ القديم , أتفاجَأُ بالكتاب بين يديه ، وعيناه لا تفارق سطور الكتاب ,وأحياناً كنتُ أراه بهذه الوضعية ، وهو نائم " وضعية مقدّسة بالنسبة لي أن أرى امرءاً نائماً  والكتابُ بينَ يديه أو على ركبتيه "وبعدَ أنْ وعيتُ  وأدركتُ ، سألتُ عنه مستفسراً - مستوضحاً عن حالته القرائِيّة هذه , فوجِئتُ بالجواب : أمضى حياتَه كلها هكذا .فليكن للشيخ أعداء . أتخيّلُ الشيخَ وقد أباح العلم - النحو والصرف و العروض والفقه - ليكون بمتناول الجميع . وسوف لن يعرف حقّه الحقيقي  إلا إذا غاب . لم أعرف حياةً جبارةً وقاتلة كمثل هذه الحياة التي تُلقي بقساوتها وقصديتها لا مرارتها وبؤسها فقط على مثل هذا الجليل الذي تُسوّى بينَ يديه أدهى المشاكل و أعقدها , وهو الذي يعاني منها : أهلاً وأبناءً ورؤيةً وقراءة وكتابة . لم أعرف إنساناً تحمّل كلّ ذاك . حُمّلَ عليه ما يُطيقُ وما لا يطيق  إلا إذا وُجدَ إنسانٌ يملك خمسين رجلاً بداخله , ولو أني أدرك أن هذا الرجل الكثير... الخمسين لا يحتمل
ولهذا حين ترى الشيخ – وهو ثمانينيٌّ – تُعطيه عمراً أضعافَ ما هو عليه . فلتحّملْ أعباءُ الحياة والناس عليه ,ولتكن الحياةُ مشعّة - باهرةً ,وليكن الناسُ مترفين .. ضاحكين "وكان عليهم أن يبكوا " .
إنه كتابٌ تنتهي من قراءته لتبدأ بقراءته من جديد . هكذا أتخيّل الشيخ ,ولو أني أؤكّدُ ولا أتخيّلُ أو أحس ّ.
هل في الحياة مثله ؟.

الثلاثاء، 29 مارس 2011

أبي .(فريدة العاطفي)


فريدة العاطفي
(فريدة العاطفي)
الحافلة تتجه بنا، أنا وأبي..إلى مسقط رأسه بإقليم الناظور. قبل أيام من سفرنا أبلغني والدي أنه بلغ السبعين من عمره، فنزلت من عيني دمعة.. ظلت على مدار الساعات.. تعبر خدي مرتجفة باتجاه الروح.. وقد هيمن الليل على قلبي وانطفأت نجومه الطائرة. فجأة انتبهت أن أبي أصبح كهلا ولم يعد شابا.أصبحت له السند ولم يعد هو السند. كانت كفاه وجناحاه تحضناني من البرق والرعود. فأصبحت مطالبة بجناحين يرفعانه إلى الأعلى.. كي لا يسقط وحيدا في فنائه. تمنيت لو كان بإمكاني أن أنقص من عمري. وأزيد في عمره. كي أظل أصغر.. ويظل أبي الأقوى. تمنيت لو كان بإمكاني أن أقتسم معه شبابي.. كي يظل وسيما.. تماما كما كنت أراه في طفولتي.
حين كنت طفلة، ورغم قصر قامته.. كان أبي يبدو لي شاهقا وهو يطل علي من أعلى.. وسيما، بشعر أسود كثيف، وأسنان مرصعة،ناصعة في بياضها. أما ابتسامته وغمازة ذقنه.. فكانتا فتنتي وغبطتي قي منتهاها. مازالت الطفولة تسكنني.. وتحملني إلى أسرارها الملونة، حيث يبدو لي خلف زجاج القلب وحبات المطر البعيدة: أن أقوى تجربة حب في حياة المرأة هي حبها الطفو لي لأبيها.. وهي لا تفعل بعد ذلك سوى أن تحمل أباها في قلبها باحثة عن رجال يشبهونه، وتجارب تشبه تجربتها معه، لذلك ربما مازلت كلما التقيت رجلا يطل علي من فوق.. بأسنان ناصعة البياض وغمازة في الذقن.. تهوي بي جبال وكثبان وشطان وأنهار.. فأصبح في ثانية طفلة.. وتشرق شموس قلبي دفعة واحدة. وما زلت لا أستطيع منع نفسي من الافتتان بذقن رجل تتوسطه غمازة، فأتمنى لو أقترب منه بخفر مجنون، وأقبل الغمازة حتى أعضها.. تماما  كما كنت أريد أن أفعل مع أبي  في طفولتي.. حين تصورت يوما أن شخصا عض ذقنه..فترك فيه غمازة، فأردت أن أفعل مثله وأترك لأبي غمازة أخرى.. ليمتلأ ذقنه بالغمازات.أما م  افتتان كهذا أحس أن الطبيعة فقيرة جدا.. فيما خلفته لنا من أساليب التواصل للتعبير عن إحساسنا بالجمال في عفويته الطفولية،وإلا ماذا يمكن لامرأة مثلي أن تفعل أمام غمازة في ذقن رجل تحبه ؟ هل تقبلها ؟ هل تعضها ؟ هل تغازلها وتقول فيها الأشهى من الكلام؟ أم الأفضل أن تغمض عينيها وترحل إلى طفولات بعيدة حيث تكون/ أكون هناك إلى جانب القمر. لكن القمر انطفأ فجأة.. دون أن يمهلني مساحة من الحلم، كي أفهم على الأقل كيف تسرب منا أنا وأبي كل هذا الزمن الهارب ؟ كيف لم أنتبه لسنواته السبعين ؟ . كيف أعكس سهوي ومرايا روحي المضببة ؟ فهل  أرفض أن يكبر أبي، لأنني أرفض أن أكبر أنا ؟ هل اخفي و راء حبي نرجسية وخوفا من المسؤولية؟ وهي  جبل شاهق يخيفني وكنت أريده أن يحملها عني للأبد ؟ كيف لم أنتبه إلى كون أبي إنسان ومن حقه أن يتعب فنحمل عنه الصخر كي يرتاح ؟ بل من حق أبي أن يعود طفلا ونصبح نحن أبنائه / الآباء ؟
أما تلك الدمعة التي مازالت تعبر خدي مرتجفة.. باتجاه الروح، فقد خلفت ورائها تجاعيد خفيفة تحت العينين.. على الجبين .. وزوايا الشفتين. تجاعيد أصبحت تكبر وتكبر.. وتحفر بشراسة على وجهي ألاما وتجارب لا تنتمي لي ولا تعبر عني. فأستيقظ كل صباح مشوشة، مضطربة البال.. أسرع إلى
المرآة، فأرى وجهي يضيع مني يوما بعد يوما دون أن أفهم لماذا ؟؟؟..
إلى أن فهمت..
 لم أفهم في الحافلة وأنا متجهة مع أبي إلى مسقط رأسه. بالعكس في الحافلة ازدادت تجاعيد وجهي.. وخيل لي أني أرى ظلالها على زجاج النوافذ، ولم  يشغلني عنها سوى استغراق أبي في ذكرياته..عن المجاعة وشبحها المرعب كما عاشها الريف المغربي في سنوات الأربعينات من القرن الماضي.
كان أبي يتحدث كعادته بكبرياء فريد.. وتلك قوته  وما يثير إعجاب الآخرين به ..  وهي خصلة ككل  ماهو أصيل تظل أقوى من استبداد الزمن،ولا يزيد ها العمر كلما تقدم  إلا مرونة ووهجا وعمقا . لذلك فقد ظل كبرياء أبي في جبروته أقوى من جبروت الزمن، حتى وهو يتحدث عن الجوع الذي أذل أجيالا..  وشرخ أرواحا .. ظل يتحدث بشموخ عال.. ولا يرى من التجارب سوى أقواها ضوءا بالنسبة إليه.نساء باهرات الجمال ودعن الحياة على عتبات المنازل جوعا، ورفضن أن يبعن أجسادهن. رجال أغلقوا عليهم وعلى أبنائهم الأبواب لكي لا يرى انهيارهم أحد. ترى ماذا كان يفعل أبي في زمن الجمر هذا ؟ كيف  واجه هو وعائلته شبح الجوع ؟ من الصعب لرجل مثله أن يحكي عن ما ظل يسميه باستمرار "بالأوقات الصعبة" كي لا يقول أيام الجوع. كي لا يقول أيام الحرمان. أي كبرياء هذا الذي يعرف كيف يروض الكلمات حتى لا تكشف ضعفا مضى.. ولو في زمن بعيد. التجاعيد ذاتها مازالت تحفر خطوطها على وجهي، وقد وصلنا إلى القرية التي و لد فيها أبي،بل ازدادت تشابكا مع بعضها فيما يشبه القناع.. وأنا أستمع إليه يتحدث سعيدا مع عائلته بأمازيغية  لا أتكلمها، رغم كونها ظلت تناديني لسنوات طويلة. أحسست أني أهوي في مجهول بعيد. أبي شاخ ولغته وهي ذاكرة هويته و كاشفة أسرارها.لا تكشف لي من تواريخها ولسانها إلا ضوءا شحيحا، لا يكفي لرؤية زوايا القلب كلها.فكيف لي أن أحيك وسادة صوفية وأنام داخل ثقافة هي في شراييني ولست في شرايينها ؟ ثقافة تحتاج أن نحملها لا أن تحملنا وقد أنهكها الغياب. ولو غاب أبي كيف أحافظ عليه بداخلي إن لم أحمل لغته وتاريخه وحضارته البعيدة، ومن دونها سأبتعد أكثر فأكثر عن نفسي.تلك أسئلة حاصرتني في قرية أبي، أجهل أجوبتها فتزداد التجاعيد في وجهي..  ويزداد قلقي والسؤال.
أثناء عودتنا ونحن ننزل من الحافلة، التفت إلى أبي بشكل مفاجئ وقد خطرت لي فكرة، فتسمرت بعيني في وجهه وتجاعيده.كانت هي ذاتها التجاعيد الموجودة في وجهي، نفس الخطوط الدقيقة ونفس المنعرجات وفي نفس الأمكنة. كدت أصرخ من الدهشة والذهول والاستغراب، و أنا أتحسس وجهي مرة أخرى أمام المرآة في المنزل. إن التجاعيد في وجهي لم تكن تجاعيدي كانت تجاعيد أبي.اختارت أن تستقر في وجهي، حين فهمت في نقطة غامضة من الروح أني لا أستطيع اقتسام شبابي مع أبي،  فقررت أن نشيخ معا.
يبدو أن التجاعيد لا تحب أن نكتشف أسرارها، لذلك بعد أيام قليلة فقط من فهمي لأسباب تربصها بوجهي .. اختفت تماما وعادت لوجهي نضارته وبهائه. أما هي.. فربما اندفعت  باتجاه وجوه لم تكتشف بعد أسرارها.

الاثنين، 28 مارس 2011

نبضُ اللون في لوحات عمران شيخموس .

نشرتُ سابقاً عدّةَ لوحات لفنانات كرديّات (سمر دريعي و جنكيمان عمر و زاريا زردشت) وكي أُكمل نبضَ اللون أُدرجُ بعضاً من لوحات الفنّان عمران شيخموس من باب التحيّة لفنّه المريح لونأً وموضوعاً.






السبت، 26 مارس 2011

مبغى .

مبغى .
عبداللطيف الحسيني .
(ساعاتُه الأيامُ, أيامُه الأعوامُ ,والعام نير.) السيّاب .
إنْ حاولَ واحدٌ من الذين أدمنوه أن يتفوّه به ، يضعُ الآخرُ يدَه على فمه ليمنعَه من التحدّث ,ولو أنه  منقرضٌ ومغلقٌ منذ أكثر من ستين عاماً من قبل شيخ عُرف بتقواه ، لأنه كان للدرك الفرنسي ، وربما حين يتلقى المبغى الشتائمَ الحالية ، وكأنّ الشتائمَ ضده لا للمبغى وكفى ، بل لِمَنْ  بنوه : "الاحتلال الفرنسي "الذي لم ينعم وحده بالمبغى ، حيث كان الجنودُ يقيمون في طريق قريب منه "القشلة "المنقرضة الآن أيضا . 
الأهمُّ في سيرة المبغى أنّ البعضَ يتشنّجُ من الحديث عنه ويرفض سيرته ويفنّد و يصغر وجوده بل يحقره ، ويرفض أن يكون له وجود أصلا ، وهو نفسُه الذي رآه و ربّما دخله و تعرّف على عالم المبغى والبغايا .
فكان المبغى الطريق المباح لِمَنْ أرادَ دخوله ولمن يقصد الجهة التي يرتاح فيها - و طالما تمناها -,  فإنْ لم يدخل المبغى ذاك فسيخلق في داخله مبغى وهميّاً و بغايا أوهام ويستدرجهن إلى أحلامه و أحلام يقظته . فكأنّ وجودَ المبغى يتناسب ووجود شباب تستفزهم دواخلُهم لمعرفة عالم غريب بحاجة إلى كشف , وهم الغريبون عنه , فكانَ لا بدّ أن يقتحموه و يتنفسوه بأية طرق كانت , و مهما كانت صعبة و ملتوية , وما أن يُنهي (شغله) عليه أن يغتسلَ - أنْ يُبعدَ النجاسة عنه , فيغطس مجرد غطس فحسب في النهر القريب الذي كان كفيلا أنْ يبعد عنه آثام الدنيا . لم يكن على زبون المبغى أن يختار الطريق الأقرب ليوصله إليه خوفَ أن تراه عينٌ متلصصة تبيح فضيحته , عليه أنْ يختار طريقا ليظن به أنّ له عملا  ما في ذاك الطريق , و كأن الطريق ذاك ممنوع , و كأنه ملغوم برقابة داخلية ,وإن كان سالكه لا بدّ مار فيه لعمل هام يقضيه . حتى ذاك المار الإجباري كان يحسُّ أنّهُ ذاهبٌ إلى المبغى لحرب العيون التي تترصّد الطريق وتحسسه  أنّ العيون تلك تراقبه هو و تتربص به لا بالطريق . 

للمزيد : http://httpblogspotcom-alhusseini.blogspot.com/2011/03/blog-post_8218.html

الأربعاء، 23 مارس 2011

أريدُ أنْ أحب هذا المساء .

لطيفة لبصير .رابط النصّ المترجَم إلى الكرديّة بتوقيع الشاعروالمترجم الكرديّ المعروف (ياسين حسين):
علي أن لا أفتح النافذة... أجلس قريبة جدا منها، وأختبيء في معطفي البني، على الرغم من أن ارتداءه يؤلمني، لكنني لا أريد أن أنسى ارتداءه، كلما انتابتني الوحدة، وأتذكر أنامل العجوز وهي تنسجه ببطء غريب، وكأنها كانت تطيل عهد لقاءاتي المتكررة للسؤال عنه. لكنها ربما لم تكن تعرف أنني كنت أيضا أتذرع بالرغبة في استبطاء صنعه، كي أزورها مساءات متكررة وأرتشف الشاي الثقيل الذي يهيئه زوجها، وهو يستمع إلى الأغاني القديمة الجميلة، محدثا دندنة خاصة في قلبي. لم يكن العجوزان يتحدثان عن أزمنة البرد التي أستشعرها بداخلي، كنت أشعر بأنني باردة الأطراف والضلوع، رغم أنني لم أتجاوز الثلاثين إلا قليلا. وكانا يبدوان دافئين جدا، رغم الشيخوخة التي أحنت بعض أطرافهما. وكنت كلما قررت أن أرتشف الحب، أبحث عن الشرفة المطلة على بيتهما المجاور وفي المساء الحاني الرتيب، أنتعش معهما بضوضائهما الصغيرة التي يحدثها المسجل القديم وهو يكرر أغاني قديمة جدا، تحدث لديهما ولدي أنسا خاصا. أجلس بالقرب منهما وأحلم بالأيام القادمة... كان زمنهما غريبا عن الزمن الذي أعيشه، فقد أمضيت سنوات وأنا أغير جلد العشاق بنفس السرعة التي أتناول بها وجباتي السريعة،  والتي تحدث لي سوء هضم احتياطي متكرر، لن يزول إلا بالأسباب المختلقة للذهاب إلى العجوزين أو للإنصات إليهما من نافذتي الخاصة. كنت كمن يجالسهما كل مساء، كي يرتشف الحب في تثاقله العذب الذي يبدأ كل يوم ويتكرر دون إشباع.
قبل أشهر قليلة، دعاني العجوز إلى عيد ميلاد زوجته، وأخبرني أنني الجارة الوحيدة التي سترافق لحظتهما العمرية الخاصة، لأن الجميع لا يفهمون زمنهم الخاص. أخذت معي شالا برتقاليا دافئا وحلوى مهيأة تماما لظروف أسنانهما الاصطناعية. كان العجوز قد استنبت في المنزل ورودا مختلفة، ونفخ بالونات صغيرة، ولطف الطقس بروائح من العود والعنبر. وحين دخلت، قال لي على الفور إنها ذهبت إلى الحلاق لإجراء تسريحة جميلة، وأكد لي بثقة بالغة:
سترين، ستكون فاتنة، صدقيني...
أجبت وأنا أفكر في كلامه:
أصدقك تماما... أعرف ذلك.
بدت العجوز جميلة جدا، وهو يحدق في عينيها. كانت تشع ببريق غريب جعلني أشعر بأن ما يبعثه لها من دفء عينيه، هو ما يتجلى على وجهها الطفولي، فقد جعلها طفلة بنظراته العاشقة.
وضعت الشال البرتقالي على كتفيها، وجلست تداعب بعينيها، وكأنها تكتشف المنزل من خلال لمسات زوجها الذي نثر الورد الأحمر في كل مكان وأشعل شموعا صغيرة. 
كان العجوز قد هيأ كعكة تقليدية للاحتفاء بحبيبته، ووضع شموعا قليلة جدا للعجوز ذات السبعين ربيعا. هذا ما أسر لي به وهو يناولها القطعة الصغيرة، قال لي :
- لقد أمضينا نصف قرن معا، لكنها مازالت تبدو لي كما لو كانت شابة في العشرين أو الثلاثين، لا أستطيع أن أراها غير ذلك...
  - نعم، هي كذلك.
 قهقه قليلا، وقال:
أنا أراها كذلك... ما زالت يانعة جدا في عيني.
أتذكر ذلك المساء لحد الآن، كنت قد عدت وأنا أحمل في داخلي الكثير من الرغبة. كنت أرغب في أن أفعل شيئا ما. لقد هزمني حب العجوزين، وجعلني أصرخ بأعلى قوتي: إنني أرغب أن أحب هذا المساء.
شيء غريب كان يربطني بالمكان. الصور والذكريات التي تزين جدارات الغرف. لكن صور ابنهما الوحيد عمر لم أكن أراها هناك. أخبراني أن كل شيء يوجد في غرفته المغلقة. كانا يحدثاني عنه كل حين ويتمنون عودته من البلد البعيد، هذا ما كان يجعل العجوزين ينخرطان في حزن غريب، لا يرحل إلا بإضرامهما الحب كل مساء.
أغرق الآن في حزن غريب جدا. أريد أن أحب هذا المساء، ليتني أستطيع. أمتلك من العجوزين أحلامهما الصغيرة ورغبتهما في تغيير اللحظة التي كانا يصنعانها معا.
 الحب صنع. هكذا تعلمت.
 الحب رغبة تخلقها الثواني وترتبها الذكريات الصغيرة التي تتآلف في كل دقيقة.
 الحب فراشة حائرة لا تدري من أي الزهور الغريبة ستلتهم رحيقها الحالم.
 الحب مساء حان بين روحين التحفا جسديهما المليئين بكل الطقوس والذكريات...
الحب انتظار...
لكن هذا الحب لم يشتعل في أي مساء لي، كنت أهيئه، وأبدأ بالبطء الشديد لتهييء مراسيمه. أعد المكان، وآخذ حماما ساخنا وأنتعش بالعطر، وأهيء الرقعة الصغيرة، أضع عليها براد الشاي، وبعض الحلوى الصغيرة، وأنصت إلى الموسيقى التي أحبها. لم أعد أستطيع أن أستمع إلى كلاسيكيات العجوزين، كانا قد دأبا بانتظام وطيلة الأعوام العشر التي سكنت فيها هذا المنزل على طقوسهما الاعتيادية. كانا يهيئان لي طقسهما الخاص، من خلال النافذة المفتوحة... أعرف أنهما كانا يدركان تماما أنني أرقبهما من النافذة كي أنتعش بالعشق الذي حملاه كل هذه السنين. لذلك، كانا يبقيان الأثر الصغير لعشقهما أمام نافذتي حتى أحب أنا الأخرى مساء ما...
أنصت لصوت  بافاروتي، وهو يمنحني الحياة، يصدح بذلك الصوت الذي يجعلني أستيقظ قليلا من النوم الصغير، وأدرك أن بافاروتي ودعنا قبل أشهر قليلة. لم أكن أعتقد أنه سيفعلها وهو يغني للحياة. أجعله ينساب في كل أرجاء المنزل، وأذهب إلى المطبخ لأبحث عن قنينة ماء، لأتذكر أنني ودعت العجوزين أيضا في الأشهر القليلة الماضية. كانا قد انسحبا من النافذة، دون إذن ودون سابق إنذار. كان انسحابا غريبا. فجأة، صرخ العجوز ذات صباح جميل، جعلني أعدو مثل المجنونة إلى مخدعهما الأبدي. كانت العجوز قد غادرت دون مقدمات صغيرة، وبقي العجوز أمامي. عرفت بعدها أنه انتهى في تلك اللحظة، فلم يمر شهران على غيابها حتى انسحب، هو الآخر مثقلا عاتقي بوصية قاتلة. أسلمني مفاتيح مخبئهم المليء بالطقوس والأيام والذكريات والأحلام، وأوصاني بانتظار ابنهم الذي قد يعود وقد لا يعود يوما ما...
صوت بافاروتي يغرد في كل مكان. أعرف أنني لا أستطيع أن أفتح النافذة، لأنني حتما لا أريد أن أرى نافذتهما الموصدة التي اعتلاها الغبار قليلا، ونسج العنكبوت خيوطه حول بابها .
ذات مساء، قررت أن أدخل المكان. من الصعب جدا استلام بيت كان مليئا بالحب، من الصعب جدا استلام وصية انتظار رجل قد لا يأتي. نفضت كل الغبار، وهيأت شايا وجلست في منزل العجوزين، وبدأت أنتظر، وصرت أذهب كل مساء وأستمع إلى عالمهما  السري، وأتفحص ألبوماتهما الكثيرة والمتعددة... كل ذلك يجعلني أسأل نفسي هل يكون الحب أبديا؟ هل يمكن أن نحب نفس الشخص عمرا كاملا؟ لماذا يعيش الحب بهذا الشكل؟ لماذا لا أشعر به ؟ لماذا لا يحتويني شخص ما كل مراحل العمر، وأغرد أو أطير فوق السحاب؟ وهل كان العجوزان يقظين حتى يجعلا من بعضهما اشتعالا مستمرا لكل أحاسيس الانجذاب؟
كنت أتردد كثيرا قبل أن أقرر دخول الغرفة السرية، كشأن قصور الأفلام التي اعتدت على مشاهدتها، أتخيل ربيكا المجنونة... غرف كثيرة مازالت يقظة في ذاكرتي تبعث فيَ كل الوساوس. لكنني كنت أرغب في أن أعرف ما يوجد داخل هذه الغرفة.
 كانت في يدي مفاتيح كثيرة بدأت أجربها الواحد تلو الآخر، إلى أن دار المفتاح في القفل، وانفتح الباب المغلق. رأيت أمامي صورة كبيرة للعجوزين في وسط الغرفة، أخافتني قليلا. أحسست بنظرات اللوم في عينيهما وكأنهما لا يرغبان في أن أطلع على حديقة ابنهم السرية. كنت أشعر بالرهبة أمام ذلك المكان. الغرفة غريبة جدا، رائحة الجلد القديم، والأحذية المترامية في كل مكان والكتب الكثيرة، التي أكلت الرطوبة بعضها... كل ذلك كان يمنح المكان شكله المهجور. لماذا أهمل العجوزان هذه الغرفة؟
أحضرت منديلا من المطبخ، وبدأت بتنظيف المكتب الحديدي، وأنا أبحث بين الأوراق الكثيرة عن شكل هذا الغائب، ووجدته أخيرا... كان يحدق بعينين سوداوين وابتسامة حالمة. كان ينظر مباشرة إلي. انشغلت بالبحث عن صور أخرى. وجدت ألبومات متعددة تعود إلى زمن قديم، ترسم أشكال الطفولة وملامحها التي تنسحب رويدا رويدا، كلما تقدم السن. وفجأة، وجدتني أبحث في كل الأمكنة عن الصور أولا، وأترك المكتوب. لا أريد أن أقرأ أية مخطوطات الآن. أريد فقط أن أتشبع بالصور الكثيرة الموجودة في هذه الغرفة. سأترك المخطوطات لاحقا، حتى أكتشف إثمها في ما بعد. سأعشقها على مهلي. وضعت أمامي صورا كثيرة، كلها  توقفت في سن الثلاثين أو تعدتها بقليل. بدأت أبحث عن شكله الآن، ألم يبعث صورا في هذه المرحلة من العمر؟ لماذا توقفت الصور؟ سيكون في العقد الأربعيني، كما أخبرني العجوزان. لا شك أنه سيكون وسيما في هذا العمر. في هذه الصور، كان يبدو جذابا، أخاذا. شيء ما يجعلني أسقط في غرامه، شيء ما من سحره. خمنت كثيرا في هذه الجاذبية، هل تكون نابعة من غيابه؟ من صوره القديمة، من زمن آخر، ربما نسجته الأعوام العشر التي حكى فيها العجوزان عنه؟ لكن لماذا كانا يتحفظان على صوره؟ هل كانا يخشيان أن أعشقه، أن أشاركهما عشقه؟ ولماذا سلمني العجوز أوراق الانتظار؟ هل كان يراني قريبة منه؟
سأترك كل شيء جانبا، وأحمل الصور معي إلى الخارج، هناك وضعتها على المكان الذي ضم والديه سنوات طويلة جدا، وهيأت لها شايا معتقا، وجلست أرتشفه وأنا أستمع إلى الأسطوانات العتيقة. كان ينقص جلساتي هذه الصور القديمة. بدأت أقبلها طويلا، وأصرخ: أريد أن أحب هذا المساء. أريد أن أحب هذا المساء...
 لقد سقطت في عشق الصور. وقبلها، سقطت في عشق الذكريات العتيقة التي حكاها العجوزان. الآن، أتمم الحكاية. أحمل معي الصور في كل مكان، الصور تخبرني بأنني أرغب في هذا الشخص. شيء ما لا أدري ما هو يجعلني أتشبث به. شيء ما يجعل للصور العتيقة والذكريات طعمها الخاص. شيء ما يجعلني أعشق كل شيء مضى. غرقت في بحار غريبة، لماذا بدأت أحلم أحلام يقظة خاصة أرسمها كما أريد؟ هل الحب صنع؟
لا أدري لماذا تذكرت في تلك اللحظة  قصة "غراديفا"، حين هام نوربير هانولد عشقا بغراديفا التي لم تكن سوى ثمثال... سقط في غرام مشيتها الراقصة، أية غرابة؟ هل صرت أشبهه؟ 
كان نوربير يقضي أيامه في علم الآثار، لكنني أمضيت أيامي في الجريدة والعشاق. في لائحتي العديد من المقالات والكثير من الهزائم في العشق. هل صرت أشبهه في البحث عن الحب؟   
 أدور في الغرفة، وأنا أرى عمر، يرقص معي برفق، رأيت عينيه الجميلتين الحالمتين، ورأيت تفاصيل جسده، ومررت بيدي على صدره وأنا أصرخ من النشوة: أنا أنتظرك... لن أرحل عن هذا المكان. 
صحوت على سواد الليل، شعرت بالخوف لأنني أجالس الأموات والغائبين. وخفت أكثر حين بدأت أسأل نفسي، هل هذا المكان حقيقي ؟ هل هذا المكان من صنعي؟ هل خلقت هؤلاء الناس؟ لكن المكان موجود والصور والأشياء والجيران يعرفون العجوزين... هربت باتجاه بيتي، التقيت بالجارة، تعمدت أن أحييها وأن أتحدث عن العجوزين وعن غيابهما، وتأكدت أنها على علم بهما... دخلت بيتي وأنا في غياب تام، وجلست لأجد أنني حملت معي صورا كثيرة لعمر، وضعتها أمامي، وقلت له بأعلى صوتي: سأحبك هذا المساء. كم كنت في حاجة إلى عالمك .
كان علي أن أعود في اليوم الموالي، لأشرع في قراءة المخطوطات الكثيرة... دخلت حديقتي السرية، وبدأت أقرأ ما لذ وطاب من الرسائل الموجهة إلى العجوزين، وهو يحكي عن غربته هناك ورغبته في العودة يوما ما إليهما. عثرت على مخطوطات ملفوفة... برديات عتيقة، فتحتها وقرأت: رسائل إلى علياء.
شعرت بالخوف والغيرة. من ستكون هذه المرأة ؟
لكنني غرقت في الحروف والكلمات والألوان الغريبة، التي يشبه بها هذه المرأة المتحولة على الدوام، غير الثابتة، التي تحتمل كل الأحلام والرغبات. كانت رسائل موجهة إلى امرأة مصنوعة، أو مرغوب فيها، هل رأى تلك المرأة أم رغب في رؤيتها ؟ لست أدري، ولكنني وجدتني أفترض افتراضا قاتلا لي: أأكون أنا المرأة التي كان يبحث عنها؟ وجدتني أتلقى الرسائل وألتهم المخطوطات العنيفة بحب. كم أهداني من الصور والرغبات، كم جعلني أهيم بين الكلمات، كم قبلته... ألف مرة، كم رأيته ينظر إلي وكأنه يراني، ويرغب في... كان يبحث عن الحب الحقيقي. كان يتحدث عن العشيقات المزيفات اللواتي عرفهن واللواتي لا يمتلكن أي حس، كان يبحث عني بكل تأكيد...أنا... علياء...
نهضت من مكاني، واتجهت إلى النافذة. بدا لي العجوز وقد سلمني مفاتيحه السرية، وكأنه سلمني عشقا وانتظارا قاتلا. صرت أنتظره، مثل العجوزين تماما. وبدأت أعشق مخدعه السري. كل مساء أذهب إلى البيت وأفتح الأسرار... عشت شهورا متعددة أنتظر، وصرت أعشق هذا الرجل وأعشق انتظاره. بدأت أعتاد الجلوس معه، لم أكن أعرف أنني كنت ألهث خلف شيء ما... لست أدري ما هو، ولم أحصل عليه طيلة هذه السنوات التي مرت. أدرت أسطوانة فيروز، وأنا أتجول في المنزل الحبيب، تنطلق فيروز في أغنيتها التي حدثني عنها العجوز طويلا، وكانت مدار حديثنا ذات مساء، كانت الأغنية" نسمت" لسعيد عقل. وكان المقطع الذي تكرره فيروز يضغط على قلبي الآن أكثر من أي وقت مضى، وكأنني أسمعها لأول مرة.
" ويحه ذات تلاقينا على
 سندس الغوطة والدنيا غروب
قال لي أشياء لا أعرفها
 كالعصافير تنائي وتؤوب"
كنت أنتظر هذه الأشياء التي لا أعرفها...
ولأول مرة، منذ بدأت أدخل هذا البيت، أسمع طرقا على الباب، شعرت بنوع من الوجل الخفيف، وأنا أفتح. وجدت رجلا أربعينيا قبالتي. حياني ودخل. سلمت عليه بحرارة شعرت أنه استغربها، وطلبت منه أن يجلس. تغير كثيرا عن الصور. هذا ما قلت لنفسي وأنا أنظر إليه. وقبل أن ينطق، قلت له بحرارة بالغة:
أنت عمر، لقد انتظرتك طويلا...
بذهول غريب، قال لي:
لست عمر، أنا كريم صديق عمره، جئت لزيارة العجوزين.
شعرت بخيبة عميقة، وجلست بالقرب منه:
لقد توفي العجوزان منذ شهور.
بدت ملامح الأسى على وجهه:
للأسف، تمنيت لو رأيتهما قبل مماتهما، أو لو حضرت الجنازة. ولكن من أنت؟
أنا جارتهما وصديقتهما الوحيدة في هذا الحي. كانا قد كلفاني بالمنزل وبانتظار عمر. أين هو الآن؟
نظر إلي بدهشة غريبة، ثم قال لي:
ظننتك تعرفين كل شيء يا سيدتي، عمر مات منذ ما يقرب من عشرين عاما...
صرخت دون أن أدري، ثم قلت:
لا يمكن، لو عرفا بموته قبل موتهما لهزهما حزن بالغ...
العجوزان يعرفان بموت ابنهما الوحيد، وهما من قام بدفنه...
ولكنهما كانا ينتظرانه...
سيدتي، عمر مات ضحية عنف في أمريكا، وقد عدت بتابوته، ودفناه هنا. لكن العجوزين أصرا على أنه ما يزال على قيد الحياة... ومنذ ذلك التاريخ، وهما ينتظرانه، بل إنهما ابتعدا عن العائلة وعن كل الأصدقاء الذين يتحدثون عن موته، وبقيت الوحيد الذي يستضيفونه، لأنني أتحدث عنه وكأنه ما يزال على قيد الحياة... صدقيني لولا هذا الاعتقاد لمات العجوزان منذ سنوات. لقد قررا أن يعيشا الحياة كما يرغبان، وأن يحبا بعضهما أكثر وأكثر. وأنا أزورهما كلما جئت إلى هنا...
أحسست بأنني سأتهاوى على الأرض... ماذا كنت أنتظر، صورا وذكريات وأحلاما وهواجس ورغبة. نظر إلي الرجل وقال:
يبدو أنك صدمت بذلك...
نعم...
أنا أيضا صدمت، حين انقلب العجوزان إلى ذلك الحال. لكنني وجدت أن ابنهما كان الأمل الوحيد لهما في الحياة، وكان عليهما أن يجعلاه على قيد الحياة كي يستطيعا الحياة، الحياة دون انتظار موت يا سيدتي...
نعم... كما يحدث لي الآن.
عمر كان مختلفا جدا، عاش مسالما إلى حد كبير ومات ضحية عنف أحمق...
استأذنت من الرجل في أن أعود إلى بيتي قليلا، قال لي :
ما رأيك أن نتعشى هنا معا، في هذا البيت؟
ذهلت من غرابة الطلب، لكنني مثل الذي لم يعد يعرف شيئا، أجبت:
نعم...
سأهيء العشاء... اسمعي أنا أحب المساء كثيرا وأحب هذا البيت، فلي فيه ذكريات كثيرة...
وأنا أيضا أحب المساء وأحب هذا البيت...
عدت إلى بيتي، وأنا أشعر بهبوط ما ، لقد سلماني مفاتيح انتظار ذكريات ماضية، وكنت مهيئة تماما لأن أجعل الماضي حاضرا. كنت في حاجة لشيء ما... ولكنني تعلمت الانتظار والجلوس والإنصات العذب والأمل، لماذا لا أعيش هذا الانتظار؟ لماذا لا أكون مثل العجوزين وأقرر الحياة والأمل والحب حتى لو لم يكن هناك شخص ما.
الأشياء كلها تستحق الحب، الارتشافات الصغيرة للشاي، الكتابة من زمن لآخر لشخص ما، الهواء الذي أستنشقه في فصل الخريف المرتبك، الجارة التي أحييها وأنا ذاهبة للعمل، الأسطوانات المسروقة التي استمعت إليها في بيت العجوزين، الحب الذي منحتني رسائل عمر، الإيمان العميق بأنني علياء التي كان يصنعها عمر، الصور الكثيرة والعوالم الماضية، كل شيء يستحق الحب...
هيأت نفسي، أخذت دشا ساخنا، وأحسست أنني أريد أن أحب هذا المساء. لبست فستانا أبيض، ووضعت أقراطا سوداء، واستحممت بالعطر، حملت حقيبة اليد المطرزة، ولبست حذاء أبيض ذو كعب عال حتى أتراقص في مشيتي، ووضعت مساحيق صارخة لتبرز خطوط ملامحي التي نسيتها تماما، وقصدت المنزل... ورغم أن المفاتيح كانت معي، ضغطت على الزر، وانتظرت قليلا حتى انفتح الباب. كان أمامي كريم، وبنبرة هادئة ونظرة الإعجاب أفسح لي المجال لكي أدخل، وقال لي:
أنت جميلة هذا المساء...
تقولها وكأنك تعرفني قبل هذا المساء...
نعم، أشعر بأنني أعرفك قبل هذا المساء .
قلت بداخلي:
...أنا أريد أن أحب هذا المساء.
لطيفة لبصير: قاصة وباحثة من المغرب .

جولان حاجي .

حوار مع الشاعر السوري جولان حاجي .
«ثمة من يراك وحشا»، عنوان المجموعة الثانية، الصادرة حديثا، للشاعر السوري جولان حاجي الذي يأتي إلى القصيدة بثقة كبيرة، بمعنى أن الشعر هنا، لا يبدو أبدا وكأنه محاولات أولى لبلورة مشروع أو كتابة. الكتابة هنا حاضرة بكامل بهائها وبكامل عدتها، لنفسح لها مكانا بيننا.
حول المجموعة، كما حول الكتابة وعدد من الموضوعات الأخرى، كان هذا اللقاء.
مجموعتك الأولى فازت بالجائزة الأولى لمسابقة »محمد الماغوط« الشعرية، واليوم تصدر الثانية ـ »ثمة من يراك وحشا« ـ بعد أن فازت، مع غيرها من المجموعات لشعراء آخرين، بمسابقة »الكتابة للشباب« التي نظمتها احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية. ماذا تعني لك هاتان الجائزتان؟ ما التأثير الذي ستتركه؟
﴾ بعد تردد لن أشفى منه، دفعتني المصادفات للمجازفة بالتقدم لهاتين الجائزتين، وأسعدني إني تقاسمتهما مع أصدقائي. كانت فرصة للتعرف إلى أناس جميلين: بهجة أن يقرأني شاعر أحبه مثل نزيه أبو عفش.
لا أعتقد أن الحفاوة تعني الشاعر كثيراً أو قليلاً، فالاستحسان كالسخرية عابران. الشاعر، بغروره الخفي المحزن، تنقصه وتنتظره أشياء كثيرة، الحضور هو آخرها. إنه يكتب لأن الكتابة ضرورة، وربما لأنه لا يتقن شيئاً يجد نفسه فيه، يبهجه ويبهج أصدقاءه، سوى الكلمات. لحسن الحظ، لا أحد يعول على الشعر، وجمهوره على الأقل في انحسار. في ضوضاء الاستهلاك وطوفان الإنترنت ورداءة الإعلام التي استحوذت على عيوننا في ما نراه ونقرأه، هذه فسحة للحرية وتفهم الصمت والانفتاح على الإنسان في عزلته، ولا شيء يلزمها بفروضٍ لا تريدها. ولكن (سأستخدم هنا تعبيراً قد يبدو غامضاً وتقليدياً مضحكاً) يبقى الشرط الجمالي الفني أساسياً، وكذلك حس المسؤولية، بعيداً عن القيود الأخلاقية المعهودة.
يتعزى الشاعر أحياناً بمجهولين لا يعرف مكانهم، يقرأونه ويتأثرون بما يكتب. غير أن هذا الوهم كسواه لا يدوم طويلاً، ولا أراه ضرورياً لاستمرار الكتابة. يحضرني الآن قولٌ رددته مراراً على مسامع أصدقائي، وهو مطلع قصيدة لتشارلز سميتيث، سأرتجل ترجمته: »زمن الشعراء الصغار قادم. وداعاً ويتمان، دكنسون، فروست. مرحباً بك، يا مَنْ لن تتخطّى شهرتهُ محيطَ عائلته«.
تأتي من »الطب« إلى الكتابة، وليس ذلك مستغربا، إذ ثمة الكثير من الأطباء الذين كتبوا وخطّوا حضورا. ماذا قدمت هذه »الدراسة العلمية« إلى القصيدة عندك؟
﴾ استوقفتني القصائد التي تناولت الجسد. لم يتورع رونالد جونسون عن إيراد صور الانقسام الخيطي للخلية في إحدى قصائده، و كتب عن التشريح المجهري للعين والأذن. غوتفريد بن في قصائد المشرحة، أو كولمان باركس في قصائد الجسد، أو برنار نويل. لكن كتابتي بعيدة عن هذا المنحى. ولم أتطرق إلى هذه المواضيع بتاتاً. أحسبُ أن بعض زملائي في المخبر العلمي لا يعرفون إني أكتب الشعر.
أكره، في الحقيقة، الجمع بين صفتي الطبيب والشاعر. ممارسة الطب، مثل الكتابة، معايشة للموت. الجسد، مملوء بالكثير من الأصوات القديمة والحديثة، حيث العقلُ والجنون والموت والألم؛ وهي بالطبع ليست ألفاظاً أو مجازات أو صوراً نشاهدها على شاشات التلفزيون. المستشفيات كالمعابد أماكن آمنة نسبياً، تلطّفُ طباعَ نزلائها وروادها أو، على العكس من ذلك، تزيدهم ترويعاً وفظاعة. بعيداً عن طبيعة اختصاصي، أقمتُ مع أخي وصديقي شهوراً في مستشفى عسكري، كنتُ أشاهد معهما عشرات المرضى النفسيين أحياناً في اليوم الواحد: جنود متمارضون أو فرائس الهوس والكآبة والفصام. كانت تجربة لا تُنسى. أتذكر جندياً مغتصَباً، وآخر يفزعه اسم تدمر والوشاة الذين تسللوا إلى الوجوه كلها، نوبات الهلع لدى المذعور كلما سمع تلقيم البارودة الروسية... لاحقاً، بعد سنوات، كتبتُ عن ذلك. كتبتُ عن كابوس لا ينتهي يتآخى فيه الجميع، عن العار المسمَّى مجداً: الحرب؛ فظاعة أن تتوقعها، بشاعة كل جيش وبشاعة كل عدو.
في الواقع، أنا أتأرجح بين الطب الذي لا أزاوله كما ينبغي وبين الأدب الذي لا أستطيع أن أتفرّغ له، ولا أجد من الثقة والصبر ما يكفيني للاستمرار في كليهما. لا أدري عن أيهما سأتخلى، أو كيف سأحيا. لدى دخول الجامعة، فكرت، مثل طائش حالم، بدراسة الرياضيات البحتة. كان خيراً لي لو كنتُ خطّاطاً.
خيار الكتابة
كان بإمكانك أن تكــتب الشعر بلغة غير العربية، لِمَ اخترت هذه اللغة؟ هل كتبت بالكردية؟ ماذا يعني لك هذا الخيار؟
﴾ لعلك تعلم أن الدراسة المنهجية للغة الكردية غير ممكنة هنا. ربما لا تزال كلمة الكردي في الإعلام مقلقة أو محظورة. أحزاب كردية في الظل تتمزق أو تتناحر وتلتئم، بينما المكتبة الكردية السورية تخلو من قاموس واحد يمكن الاعتماد عليه.
إنها لغة أتكلمها، ولا أفقه من قراءتها أو كتابتها إلا القليل القليل. لكنها جزء مني، ذاكرتي الأولى.
أكتب بلغةٍ أخرى جذوري فيها جذورُ الغريب. وربما استمتع الغريب باللغة أكثر من ناطقيها وأصحابها. لم أختر اللغة العربية، لأنها كانت الخيار الوحيد الممكن. عشقتها. جعلني الشيخ الجليل عفيف الحسيني أعشقها، ثم سعيتُ كي أتقنها ما استطعتُ، دون أن أفكر في قواعد النحو. تعلمتُ الأوزان الموسيقية وجهدتُ كي أنساها.
أبدو أحياناً كأنني أنقل الكلمات من لغة إلى أخرى داخل رأسي، كلّ كتابة هي في النهاية ترجمة بشكل من الأشكال.
تحاول قصيدتك، مثلما يتبدى في »ثمة من يراك وحشا«، أن تنحو إلى مستوى آخر للقول، أن تبتعد عن قصيدة التفاصيل التي تبدو وكأنها تغلف اليوم، غالبية التجارب الشابة. بمعنى آخر، ثمة نشيد، وإن كان لا يرغب أن يكون عالي النبرة. ما معنى هذا الانحياز؟ أي ماذا تريد من الشعر؟
﴾ ما وصفته بالتفاصيل يحتمل أوجهاً لا تحصى. أحسب أن طرائق الملاحظة تتماثل وكذلك القراءات وأنماط الحياة؛ وهذا يفضي بصورة طبيعية إلى تشابه لا مناص منه وتكرار لا تنويع فيه. جذابةٌ هي مناخات ما سُمّي بالقصيدة اليومية، وبعض ما أنجزته ساحرٌ حقاً، لكنها لا تستهويني ولم أفكر بارتيادها. إذ بوسع أي شاعر أن يخترع قصيدة من لا شيء تقريباً.
لا أزال أحاول أن أضع ما أكتبه، وهو حوارٌ في العزلة غالباً، إزاء ما يُكتب في العالم، الشعر الذي يكتب في أي مكان على هذه الأرض. إنها محاولات صامتة ويائسة لا طائل منها غالباً، مشتتة ومتقطعة، فما نختبره أو نراه لا يرحمنا إلا نادراً. يشغلني الآن ما تجاهلتهُ وتحاشيته، العنف الذي بات طقساً يومياً استطال عقوداً، القسوة واللامبالاة التي تقود البشر في معظم الأحيان.
المكان
÷ ثمة مكان يحضر في القصيدة، بدون أن تسميه، هل لعبت »عامودا« دورا في تشكيل هذا المناخ؟
﴾ الشاعر يخترع المكان. مكانه الحقيقي هو المكان الخيالي، لأن الذاكرة كالمخيلة تحوّر كل شيء.
عامودا، حيث وُلدتُ، بلدة صغيرة لا تتغير، ممزَّقة ولا تتغير كسائر البلدات الحدودية الأخرى شمال شرقي سوريا، وعليك أن تحيا وأنت تتوقع كل شيء. كل شيء ممكن، عبارة مأثورة هناك. ما أبشع الحدود! لا نرى إلا أكياس القمامة تتشبث بأسلاكها المكهربة. سمعتُ عن مجنون حمل خبزاّ ساخناً من عامودا، ثم قطع النهر الجاف سائراً على قدميه ليتناول إفطاره في ماردين. اعتقله حرس الحدود الأتراك بالطبع. المؤسف أن الجنون الحقيقي هو جنون الجماعات والدول، وليس جنون الأفراد.
لا بدّ من وقت طويل كي تثبت أمراً مفــروغاً منــه، أمراً منتهياً لم يُحسَمْ بعد: »أنت كردي«. عبث لا ينتهي، ومصائر غريبة. بشر مخذولون ومهانون لا أدري كيف صارت خصالهم العناد والجسارة والزهو، ضيوف محرومون وطارئون: مهاجرون ولاجئون وأجانب في مكانٍ ولدوا فيه. ربما عوملوا كغرباء مشبوهين إذا قصدوا كردستان العراق أيضاً. من يدري! إذ كل تعصب قبيح ومهدِّد، أياً كان صاحبه. لا أستوعب جيداً بل أستغربُ أفكاراً مستبدة مثل الأصــالة والدفاع عن نقاء الهوية، إنها تحمّلُ الشعرَ أعباء سياسية الطابع ليست منه.
لا أزال أقيم في دمشق إقامة مؤقتة وقلقة دامت أكثر من عشر سنين. تبدد إحساسي بالمكان لفرط ما تنقلت، وقد يحضرني كذكرى: حياة لا تطاق أحياناً في تلك البقعة المسماة بالجزيرة السورية، المهملة والمجهولة كبقاع كثيرة في العالم، حيث تختلط اللهجات والأعراق والأديان، حياة مهدورة داخل تنوع حذر يراقب فيه البعض أشباههم في الضعف، ويحتفظ الذين فيه بانعزالهم. لكنها على الأقل بلاد موتانا. هناك ذكريات قريبة عن شؤم الربيع، آذار على الأخص، فوضى دامية في ملاعب كرة القدم وحرائق السجون ودور السينما. كانت هناك دائماً ميتات بلا سبب.
÷ وحدة ورحيل وغياب وجدران خانقة... هذه بعض العوالم التي تكتبها، هل القصيدة هي »وجهة للغياب«؟
﴾ أمام كلٍّ من الخــوف والمــوت والألم، الإنسـان وحـيد دائماً.
عوضاً عن الفقدان، لم لا نتــحدث عن فداحة الشــعور بالذنب أحياناً لدى العاجزين عن القيام بأي شيء؟ ما لا نفع فيه أو ما لا يمكن تعويضه؟ مخاوف العاشق أو الخجل من الحنين؟
أتمنى أن أكــتب شيئاً يبــعدني عن نفسي، محتفظاً بالهدوء ما استطــعت. لو أخرج من نفــسي كي أعــود إليها و قد غدوتُ شخصاً آخر! أمنية مســتحيلة وحلم يثير السخرية.
لا يعرف الشاعر دائماً دقائق ما يصنعه. لكني أرى الغياب متجذراً في جوهر الحياة، وجهها الآخر، توأمها السيامي؛ الشعر لا يتجه إليه بل ينطلق منه في دائرة لا تكتمل. من منا لم يتخيل غيابه مثلاً؟ الفراغ الذي يتركه وراءه، حتى لو كان وحده؟ هناك ما يتوقع الكثيرون فقدانه دون تمهيد، ثم يعود المرء مرة أخرى إلى وحدته التي يلعنها.


اسكندر حبش
المصدر: السفير
  

الخميس، 17 مارس 2011

مغاربة .

لطيفة لبصير : إليها .
ما كانَ لي أنْ أعرفََهم لولا سطوةُ نبضِهم الكتابيّ من شعروقصّ ونقدٍ ونصّ:هذا الرباعيّ جعلني أتتبّعُ أثرَهم ضمنَ مجالٍ أتحرّكُ فيه وهو الأدبُ الحاضر في نصوصهم , الأدبُ الحاضرُ هو ما أبتغيه أثناءَوبعدَ القراءَة خلافاً لسطوة الممجوج الذي لم أجدْهُ عندَهم . ليس مستغرباً أنْ أتعرّفَ على الأدب المغاربيّ من خلال محمد بنيس والخطيبيّ .. وآخرين كثيرين ,ومن خلال مجلّة كرمل الفلسطينيّة حيث نصوصُ المغاربة تبحثُ عن صفوة القرّاء, لأنّ كتابتهم (ترمي) بقارئِهم حيثُ الضفّةُ الحادّةُ من الكتابة أو تلك الضفة التي لم يتعوّدْ حسُّ القراءَة لديّ إلا بعدَأنْأتسلّح بالمختلف حين متابعتهم . ولأنّ حديث الكتابة المغاربيّة أطلّ عما سبقه بسنوات , فلا شكّ أن هذهالكتابة الجديدة (على المستوى الشخصيّ) تتحرّكُ ضمن ذاك المناخ الكتابيّ , ومن الضروريّ تخطّيه .
+++++
تحية لهم : تحضرُني أسماءُ بعضهم : لطيفة لبصير – سعيد بودبوز- فريدة العاطفي – عادل حدجامي – سوسن حميدي – حنان درقاوي – مصطفى النفيسي – سعاد درير – عبد الجبّار خمران - فاطمة بوهراكة .....

الأربعاء، 16 مارس 2011

يأس .

أنا السطرُ الغامضُ في الكتاب الواضح والممتع , في الأفلام الهندية أنا البطلُ المهزومُ والسلبيّ . أنا المصباحُ ينكسرُ في ليلٍ مُعتم , ذاك العصفورُ الذي يُصادُ بسهولةٍ أنا , والدمعة الحارة والسهلة التي تسقطُ بألمٍ , وأنا الميّتٌ الذي لا يبكي عليه أحدٌ , أنا القبرُ الذي يمرُّ به الكثيرون و يركلونه دونَ ندم ٍ. في العرض المسرحيّ أنا المهرّجُ طوالَ العرض . وأنا المقتولُ في بدايته . الطريقُ الذي لا نهاية له , الطريقُ الذي لا يسلكه أحدٌ : وحدي أمشي فيه . الرجلُ الذي لا تحبُّه النساءُ , النبتة الضارةُ في الحقل , الرجلُ الذي يطرقُ كلّ الأبواب , ولا يسمعُ طرقه أحدٌ , الرجلُ الذي يدخلُ المجالسَ , فيتشتتُ كلُّ مَنْ كان فيها .

الرجلُ

الذي

تَ
مَ
دّ
دَ
فوق
سكة
القطار
ولم
يمنعه
أحدٌ .

الثلاثاء، 8 مارس 2011

شرفات الشاعر الكردي السوري عبد اللطيف الحسيني .

(  نائلة خطيب).







نحن نتنحّى جانبا حين تمرُّ من هنا أيها الشاعر.
إنّه الشاعرُ الذي يتنفسُ نهرًا !
الدفءُ الذي يؤلمُ !يهديك اسمك كقشعريرة تصطدمُ بالفراغ وتسحقك .حين تقرأُهُ المرأةُ تبدو كآدمية تحترقُ بهدوءٍ وتثيرُ معها مشهدَ الهائم, لأنه يقنعُها تماما أنها أجملُ نساء الكون.
واقرأه كأنني صفصافةٌ عالية تهلوسُ: أين جذوري؟كأنني بعيدة المدى? أنغرزُ في ساقِ الزمان
ويجرّني اللاشعورُ إلى اللامكان؟
يا آلهي
كلنا غرقى............والبحرُ قبيحٌ دائما؟ وأنا المتعبة بالخط العريض تحت شعار- غريبة تطلُّ من نوافذ الزمان
هل المرأةُ آدمية؟ جدا .وهو الهادئُ كالرعد, يقول لك: سأصعدُ قليلا إلى السماء وأعودُ, ابقَ مكانك !!
قصائدُه تبقيكِ مكانكِ عزيزتي بلا حراك؟ مليئة خدرا أم أنها تبقى الحواس؟
بل هي شرابُ المرأة المفضل, الذي يروي الحواسَّ, ليزحف إلى مواجعها ويطفأ الألم: هو ممزوجٌ بغير مزج, بل هو كالكونياك الفاخر الذي نراه فقط, بالنسبة لي يكفي أن أراه فقط, فالجرعاتُ الحقيقية يعقبها روضٌ عاطرٌ جميل يدخلك إلى ليل لا يسهر فيه أحدٌ وحياة خالية؟ سأتركها في مكانها تلك الكلمات في الجوار, وأحتفظ بمفاتيحها في البحر كي لا تجرح أحدا, برقت في خواطري كعينين صريحتين اخترقت ظلامي الدامس , وتبقيني وراء الباب, وأنا أدري أية مغامرة طائشة أمارسُها تنخر عظامي كالزمهرير, حين اقرأ هذا الشاعر, بل أنا التي صرتُ طقسا من طقوس تلك المغامرة, والموتُ أهونُ بكثير, قد أغفى الآن.
وهو يتنفسُ قلقاً وعصبية, لا نعرفُ كيف ؟ ومتى ؟ ولماذا تستولي عليه حالاتُه : قد يجنُّ في أيَّ وقت لا تشاء، ولا يجنُّ في أيِّ وقت تشاء. يصادقك حين تكرهُهُ. ويكرهُكَ حين تصادقه, لا : هو ليس كالنهر الذي يتحدث عنه , وليس ثمة مَنْ يعاديه، ومن يناصره سدى. لن تستطيع أن تمرَّ بجانبه كمن مرَّ بجانب جدار، أو حجر. من يجلس بجانبه على العشب الملائكي فتفوحُ من خضرتِه اللباقةُ والجمالُ الذي يبدو على ملامح وجهه , وأعذبها ابتسامته, من الصعب أنْ يتركه: فهو الشاعر المعلم – الحرية - الحب -الجمال.
حين تقرأه سوف يجرّك لتتعرّف على أخاديده وتعرجاته ، وعيونه المتدفقة . سوف يأخذك إلى أنْ تستقبلك حدودٌ يصعبُ عليك تخطيها، وربما التحديقُ إليها, أو التوقف عندها, وحتى ربما مجرد الوقوفُ البعيد عنها.
عبد اللطيف الحسيني وشرفات المرأة:
يا الهـ ...............ي .
هو نفسُ الكاتب الذي يوثق حضارة عامودا المدينة الكردية العميقة الجذور ولا أجزمُ لو قلتُ: إنه يكتبُ عنها كرجل يتغزل بكلّ تضاريس حبيبته وجغرافيتها , بل أكثر من ذلك: هو يشتهيها, يشتاقها وينفعل لأجلها ويحزن جدا حين تهولها الأيامُ والناس. هو مَنْ كتب عن تلة شرمولا برقةٍ متناهية ثم تابع قائلا:
أنا الذي لعبْتُ فوقه( شرمولا) . تمددتُ على عشبه ، وربما غفوتُ فوق نقاوة ترابه . ولو أني كنتُ أحسّ بدفق الماء تحتي , وقلق الموتى .
يا.......الهـ..........ي:. فكيف أبعدُ نظري وأمرُّ عابرةً أمام شاعر كعبد اللطيف الحسيني؟
وأنا التي عبرتني قصائدُه كسحابة اشتياق ذات مزاج جميل.
لم تأخذْ مكانا لها هنا ولم ينجُ حظي الكبير منها هنا.
لملمتُ أسراري وبعثرتُها هناك
حيث الهاربُ السرمدي يلاطف ثقلَ عينيه كتابٌ يصلح لقراءة واحدة فقط, يسرقه من نفسه
ويرميه لتلتهمه الحياةُ على مهلها
تأملني برهة ثم غفى.
تحدّثُ المرأةُ الرجلَ, فتقول : أيها الربيع الخريفي
يا مغامري الجميل
هي هواجسي التي تشبه بقايا صور
كيف حملتَ القلم فوق جبال الجليد , وكتبتَ لي أيها البحار الشجاع؟
وأراك تطلُّ من شرفتي التي تتكأ عليها الحماماتُ الزرقاء ناظمة أيام الربيع الأولى,
لتلقيني ما وراء الغروب في قاع الخلاص.
فلا تجد مَنْ يخاطبها برقة تخترقُ المسام سوى الشاعر الذي حين يمرُّ تتنحّى الأيامُ والأسماءُ جانبا لتقول تفضل أيها الشاعر الحسيني:
أسحبُ الأرضَ مِنْ تحتِ قدميكِ
لتسقطي
كقنديلٍ متوهّجٍٍ
لتمتلئ عيني بكِ .
كم من النساء تركعُ تكفيرا أمام هذا الغزل الجميل؟
إنه العاطفة التي تسكن جفون النساء , وهي تغادر صوتها الأنثوي فلا تجده.
فتخاطب نفسها:
لم تلتصق بي هكذا؟
وأمنعك من مغادرة كهفي ضاحكة لأخفي في قلبي ذلك المخلوق الذي يشبه المرأة لحد كبير.
أأروق لك؟
فيردُّ الشاعر:
(أرجوكِ لا تضحكي أمامي بكثرة . أنا لا أُمسكُ نفسي أمامَ النساء ).
يرضيني ثوبٌ من السّاتان البنفسجيِّ, لأننا سنتواجه. و ستمانعينَ بدلعٍ - أو بخفرٍ - ومع ذلك سأطلبُ منكِ.
ولكنَّ المرأة الجميلة كركوة قهوة مُرّةٍ ترويك , وتفرغك من نزواتك كلها فتضطرب في مهاوي الردى تبحث عن شرف اللقاء, ولو أردت لتركتك وشأنك, لكنك رغم ذلك ستبقى عزيزأً عليها.
هل يعرف الرجل العربي هذا الكلام؟ طبعا.....!
هي تتنهّدُ وتصمت, ملوثة من الداخل بكلِّ جمالك وبهاك الذي تخفيه لتشبه أسطورة, وأنت مثلها, هي حظك من النشوة التي تكفي لتنام قريرة العين, لكن شماتتك لن تطول, ستطول بأكثر مما تظنّ....ربّما؟
حين تقرأ المرأةُ لشاعر مثل عبد اللطيف الحسيني فأنها تقبضُ على غصتها لا لتتذكر الألم القاسي , بل لأنها تشتاق لهذا النوع من الكلام , بل لأنه ما تبقى لها غير الموت غير المحدد ليحلّي أياما لا تموت, المرأة التي اعتادتْ أنْ تكون من المنسيات, وتشرب الكثير من القهوة ثم تنام, وتتعذب حين تقول الحقيقة, لا تلف ولا تدور, وليست من المناضلين الذين كانوا سجناء, الدوران هو سجنها, والعدم وأشياء كثيرة, بل اعتبارات كثيرة مدموغة تتنفس معها أنفاسها الأخيرة التي تكاد لا تنتهي. بعد كلِّ شيء ليست في سذج في خاطرها, تحاول فقط أنْ تكونْ سعيدة إلى الغد وما بعده, تتحول إلى النافذة إياها, تتبعثر فيها إلى الأبد. تقبل إعدامها بجرأة وطمأنينة:
شرفات عبد اللطيف الحسيني:
(مسحْتُ كلَّ الرّجالِ كي لا يحبَّكِ أحدٌ سواي . لكنّ شرفاتِك تُغري رجالاً من بلادٍ بعيدة) .
شرفتُكِ التي في المساء تضيءُ شجرة الورد والليمون تقولُ أكثرَ ممّا تقولين في الصّباحِ حينَ ألتقي بكِ عابراً .
و يدُكِ النحيلةُ تكتبُ اسمي فوقَ دفترٍ قديم .
كنتِ اثنتين .
أقولُ :أحبُّكِ ’ تبدينَ صامتة , ويردُّ عليَّ ظلُّكِ .
غبْتِ عن الشّرفةِ فطفحتْ برسائلي و قصائدَ صغيرةٍ .
قلتُ :أحبُّكِ .
ردّتْ شرفتُكِ : قالها كثيرون غيركَ.
بل هو عذابها الدافع للنشاط والبهجة, تكره الغيرة العمياء التي تثير القرف, وترد عليها بفتور, لتحتفظ بطراوة اللحظات التي لا تملكها, لحظات تتذكر فيها مزاج عيني حبيبها الصيفيتين, فيها التماعة عطره من السهد الجريح, تعصف بعنقها وتطرق الباب في غيابه وهو لم يغبْ, بل هو مشغول عنها في أعماله الكثيرة, وهي تدور حول النار العظيمة بنفس الجنون الذي أحبته فيه أول مرة, فلماذا تبالي بالبرد؟
هي التي تفرح جدا كالقبائل الهمجية حين تكون الجنون بعينه, لماذا تخاف من الجنون؟
تجنُّ وهي صاحية تماما فما ألذ هذا الجنون؟ المرأةُ تكرهُ الحطب اليابس والرجل اليابس الذي تحوم حوله أكثر من امرأة, فهي تخصص النار لرجل واحد, لشتاء واحد, بزجاجة عطر واحدة, تبدو مشاكسة مثل هر يتحفز لخوصرتك وأنت تمارس الكتابة أو تقرأ جريدة أو تستمع لنشرة أخبار فلا تلتفت لألاعيبها, ما سبب هذا؟
تقول بسرها:حسنا سأفك ذراعيك قليلا كي تستريح, فلا أسدُّ أبواب الرزق.
هل ألعبُ بشعرك قليلا؟
ومن النوم ما جفاك يا امرأة؟
حين يخاطبكِ الشاعر الحسيني فيقول:
لا تحسبي أنكِ تنامينَ على زرقة السّماء . إنها يدي التي عوّدتُها أنْ تكونَ كلَّ شيءٍٍ .حتى أني جعلتُها ثوباً رصاصياً ترتدينه.
المرأة تعيش ريعان شبابها في انتظار (مَنْ لا يأتي ).
ما الفائدة من (لِمَنْ أتى )؟ حين يخنقك حبه وغيرته ووقته القليل معك وكلامه القليل الذي هو تحية المساء والصباح واستعادة سريعة ليوم شاق خائر من الجوع؟
الإعياء يجرح الروح حقا , ولكنك تحتاجه لتنام بعمق والصمت أحيانا كثيرة مبعث عذاب للمرأة فهي تحتاج المداعبة والغزل والحب الكثير لتكون امرأة وليس جثة تتفركش بها حين تتأخر بالعودة إلى البيت.
نفس الشاعر الذي يكتب غزلا يرقى لأذواق الجميلات الحسناوات يكتب عن جده بنفس الشاعرية :
( تحت هذه الشمعة كان يدون كتاباً لا ينتهي ، هنا أطعم القطط الأليفة ، و لفّهم بعباءته ، من
هنا مرّت عصاه ،ألا تراه) ؟
يا الهـ ...............ي:.
احفظْ هذا الشاعر , وأجلسْ ملائكتك بجانبه كالظلال التي تجاوره بنومه الذي لا ينام.
لوّنْ أيامه بلون الطيف الذي يرسمك - يا الهي وكوّن من كلامه أجمل الألوان.
عبد اللطيف الحسيني لا يكتبُ عن المرأة كما يكتب الآخرون عنها وكأنها الجويسم الثرثار بل يحترم أنوثتها ويغازلها برقة متناهية:
(شعرُكِ ينعسُ فوقَ يدي كأنّهُ لمْ ينمْ طيلة شهرين, كانَ أصفرَ فتلوّنَ حينَ أخفاني, كأنه ظلُّ أشجارٍ كثيفٌ, و مع ذلك لم أبالِ به .
لأني أعرفُ الأحلامَ جيّدا ).