مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

السبت، 31 ديسمبر 2011

ديلانا وديرام - سليم بركات






الفصل الأول / ديلانا وديرام

تيتل على الهضبة،
وسكون يرفع قرنيه عاليا كالتيتل.
فلا تقتربن أكثر أيها الدليل،
ولا تبتعدن أكثر،
مكانك هو المكان الذي ترى منه الجذور الجذور، والأرض ميراثها.
تيتل على الهضبة،
وسكون صلد يرفع قرنيه عاليا كالتيتل.

(1)

انظر إليها، إنها جمع سلال شقراء تحت ومض دمك يا ديرام. انظر إليها كيف تغفو لصق ساعدك، وأنفاسها تتهاوى شهابا شهابا في شسع فحولتك النبيلة... أتذكر يا ديرام ساعة جئتها وديعا تتسربل بالسهول، خطاك خطى نهار، وصخبك وصخب السنبل؟ أتذكر المساء الذي ترقرق في عينيك، المساء الأول، حيث سطوتما بالقبل على كنوز الكائن، وكشفتما عن مسيل غريب تحت حجر الروح؟. تمهل ديرام، تمهل في عبثك الساحر بأعشاش قلبها- قلب ديلانا المعلق كطعنة ملآى بالحياة.

(2)

انظري إليه، إنه سهم أشقر تحت ومض دمك ياديلانا. انظري إليه يزين المساء

بصليل فحولته، ويرقى إلى صليلك سلم اللهاث، كأن كل ترف ترفه، وكـأن كلماته التي ينشد بها نشيد الرجل. فهلا سردت عليه ما يسر الغمام على بناته، وهلا نزلت إليه من العذوبة العالية، شاهرة مرح الأعالي، لتغمري سهل قلبه بقمح النشيد؟ هيا ديلانا، إنه متكىء قرب يدك ويسرو الفاكهة.

(3)

انظر إليها، لكم تداعب صدرك بشعاع من الشفاه والأنامل. انظر إليها يا تر عشرين قلبا تحت قلبها، وكل قلب يهذي فبنسج في هذيانه عشرين قلب : إنها مصب الرجل المضمخ بهدير الجذور؟ إنها مصب من الساعات والجدل؟ مصب آخر لكل بسالة أو خوف. فلا تقتربن أكثر يا ديرام، ولا تبتعدن أكثر. مكانك هو الذي ترى منه العذوبة ذاتها نائمة في سلال شقراء ودم أشقر.

( 4)

انهضي قليلا ديلانا، وأحكمي حصارك الطري، فلأنت الغابة التي تزدهر فيها سلالاته، وتمتزج الأحشاء بالطيور. ولأنت صليلة بين الصليل، ومديحه الذي كل ملك ملكة، وكل شـريد دربا" إلى الملك. فإذا انحنى عليك ارفعي إلى فـمط الأنثى، وإلى صدره المرتعش درع صدرك المضرج بالغمامات والعصور.

( 5)

انهض قليلا يا ديرام، انهض واقفا لترى من أعالي المرح سفح الأنثى المنبسط بين وميض الأقنعة والأغاني، فلأنت سيف ينابيعها، تضرب بك الصباحات فتنشق عن الحنين والأيائل. ولأنت أنفاسها بين الأنفاس، و مديحها الذي يغمس فيه الهواء آلهته الشريدة. فإذا انحنت عليك ارفع إلى فمهما فمك المرصع بنشيد الرجل صدرها المرتعش درع صدرك المرصع بالمياه والمدائح.

( 6 )

انظري إليه ديلانا، انظري كيف يضم يديه على الصواعق وينثر على سريرك الرياح. انظري كيف يتدلى من لهاثك كثمر، وينصب الفخاخ للنبات، كأنما يباهي بك سيوف المياه. انظري كيف يحيط بالمياه كاليابسة، ليحصر نبض قلبك الطالع من المياه زبدا ومراكب... لكن، حين يفتح شباكه، آخر النهار، فتتمايز من الشباك الكواكب والكراكي، دعيه غافيا في نبوءاته، دعيه ديلانا، فهو لا يمسك من الأرض إلا قبضة من الآخر، ولا يرى إلا جناح ثديك فاردا على الأرض ظل المساء والذكورة.

( 7 )

انظر إليها يا ديرام، انظر كيف تجمع أمام قلبك أسراب الإوز، وتغزل الغيوم. انظر إليها تتهادى قطيعا قطيعا من آخر السفوح، يدها في يد الأفق الراعي، وثوبها ينحسر- حين تعبر الجداول قفزا- عن جذور لا تلمس الأرض، بل تلمس المديح الذي تتغطى به الجذور كلها. فإذا رأيت أن تأخذ يرها في يديك فخذ الأفق أيضا، وإذا رأيت أن تضمها فلتضمك الجذور ليرشق الثمر بأنفاسك الثمر، أو لتهرع إليك الارض ممتشقة سيلها العرم من اللبن والأشكال.

(8 )



أيقظيه ديلانا، أيقظيه من سباته الموشى بعذوبة ألف قلب سكران. وأيقظي معه الصباح ليمضيا إليك معا، معفرين بالشهوة وبالغضار والمرح. فهو الأخير الذي سترينه هاذيا ينفخ في أبواق هاذية، ويملأ، كالنادل، بالبطولة كؤوس الغرقى. واقفا في المهب ذاته، في المهب العريق للجذور واغتباط الوحشي بالوحشي. وهو الأخير الذي سترينه فقبلا إليك كإشارة أطلقتها العاصفة قبل أن ترتدي خوذتها الدموية. وتشد ملاءة المائدة فتنثر الأواني على رخام الأرواح. أيقظيه . أيقظيه ديلانا.

( 9)

أيقظها يا ديرام، أيقظ فراشة الغيب ويعسوبه الذهبي... أيقظ ديلانا وأيقظ معها البيت حجرا حجرا، ثم أيقفل الساحة المحيطة بالبيت، وأيقظ السياج. وإذ تشهي من ذلك كله أيقظ الصباح النائم قرب السميات. وقل تعالي ديلانا. تعالي لنشهد السطوع الحيران للأرض وهي تذرف الحديد والبهاء على درعنا الآدمي . ولنكشف، بعد ذلك، ثديينا لنصل الحقول، مرتجفين من عذوبة النصل إذ يغوص إلى حيث يجري السمسم والزعفران، كأنما نحاول، معا، أن نكون الجراح التي لا جراح بعدها …

هيا أيقظها يا ديرام.

( 10)

أيقظيه ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململ تحت الشعاع المنساب على صدره العاري. أيقظيه وأيقظي النهار والأرغفة، ثم املأي دلوك- الدلو الذي تسقين به حيوانات الصباح التي لا ترى- املئيه شرانق قز وتوتا مما يتساقط من المدائح ، لتخيطي بالحرير والتوت هذه العذوبة المسدلة حول ديرام. أيقظيه، أيقظيه ديلانا.

( 11)

أيقظها يا ديرام، وأيقظ الحلم من حلمه تحت أهدابها، ثم الق على ديلانا حصاة من الوقت لتموج كسطح النبع، وتتسع دائرة دائرة، كل دائرة عربة، وفي العربات البقول والطرق. هيا بالله عليك، فها هو رسول الأودية يقطف لكما عناقيد الضباب، وينثر على سياج البيت طفولة الخزامى. أيقظها، أيقظها يا ديرام.

( 12)

أيقظيه ديلانا، أيقظي قناع الملهاة- هذا الفتى المطوق بمناجل الآلهة. أيقظيه لئلا يفوتكما ندى الصباح العجول وغواياته المضحكة، فلربما عرفتما أن للندى صهيلا في العشب، وأبواقا تؤذن بالهرطقة المرحة للتراب المرح. أيقظيه، أيقظيه د يلانا.

( 13)

أيقظها يا ديرام، أيقظ هذا البذخ السماوي- ديلانا، وانثر عليها حببا من الضحى وأشيائه الباذخة. فإذا ترامت أمامك يقظى استطلعها كما يستطلع النبات النبات. واجلسا معا تستظلكما القبل، وتغوي بكما الأغاني الأغاني. أيقظها، أيقظها يا ديرام.

( 14)

أيقظيه ديلانا، أيقظي الشعاع الآدمي- ديرام إذ يتحدر سكران من بهاء الذكر، ولا تجعلي حجابا عليه يديك أو اللهاث. مديدا فليكن، واضحا مشوفا تتراءى في شفافته العناقـيد والبراعم، فـتملكين كله، وكل ما يتراءى فيه، معا. وتملكين أن تكوني المخدع الآدمي للنبات وأحلافه من غمام وأجنحة. أيقظيه، أيقظيه د يلانا.

( 15)

أيقظها يا ديرام، أيقظ الدم الحي وأشكاله الصديقة، وتكلل ليقظة ديلانا بنفير رقيق، فهي يقظة عرش تتدانى في سلطانه الينابيع وتستحم الجداول. وهي قوسك ترمي به. حين ترمي- ذاتك كلها في نشيد أخير. أيقظها، أيقظها يا ديرام.

( 16)

أيقظيه ديلانا، أيقظي الترف وأشكاله الصديقة، واشهديه إذ تتفتح أهدابه عن طيور، فهو يقظة ليس يشهدها إلا صباح" ممسك بصليل المياه، وهو قوسك ترمين به- ين ترمين- رحمك كله في نشيد أخير. أيقظيه، أيقظيه ديلانا.

( 17)

أيقظها يا ديرام، أيقظ غداف الزبد ديلانا، وانشر قلوعك حين تتململ من دغدغات دمك الصباحي، فأنت مقبل على دمها بسحاب عريان. أيقظها، أيقظها يا د برام.

أيقظيه...
أيقظها...
لم أشأ أن أوقظ الأرض في ذلك الصباح.
لم تشأ أن توقظني الأرض.

هكذا مضيا: فتى وامرأة هكذا مضيا. لم يقل أحد شيئا، ولم تنبس شفة بالكلام الذي ضرج شجرة المدائح. (في الزوبعة الأخيرة التي ختمت المدن بختم الجاهل، غطى الشيوخ أرواحهم بصنوج من طين، وارتدوا زرد الدم فبقوا بعدما جردت الزوبعة الأشياء من صباها. بقوا واقفين، كقرن على جمجمة ثور ميت، حيث تهدلت من حولهم غصون" بيضاء ومنارات بيضاء. ولأنهم إرث أخير، وربابنة من زبد يديرون دفة لا ترى، أسلموا ديلانا وديرام إلى عشرين قبضة ذيلت صحائف اللهب العذب بختم الجاهل.)
هكذا مضيا، في الزوبعة الأخيرة التي افتتح الجاهلون مجدهم بها، وأنا استعيد ذا المضى لا ليروى، بل لأدفع عني هذا المديح الذي امتدحتني به الأرض كدليل لعاشقين

أفرطت في نهب قلبيهما بسيوف من عسل. وأسرد ما أسرد لا ليروى، بل لأرجع إلى المكان الجاهل، حيث يجلس الجاهلون، تحت الأعمدة، شيوخا تساوت أمامهم سطور الأفق بسطور الرماد. آه ديرام، كنت فتى هاربا من السهول ملتفا بصواعق السهول آه ديلانا، كنت امرأة هاربة من بعلها إلى خيار لا خيار لصبا هارب فيه. فتى وامرأة أبرما معا عقد طعنة واحدة، فأضرما هذيان المكان الجاهل. إيه يا المكان الجاهل، يا رقعة العقد المبرم بسلطان القوي وحكمة الموتى؟ يا أنين الهزائم كلها آن تخفى الهزائم بالمراثي، وتعلن بالمراثي، كيف أتبع البداية؟ كيف أتبع امرأة وفتى في المكان، وكانا شاردين عنه إلى ضحى لا يطلع على الأشكال، بل على القبل؟ ضحى خفيف كسوط الحوذي، يهيب بصقور العذوبة فتنقض، وبالجذور فتعدو إلى الجنون العظيم؟ لا، لم يكن مكان، ولم تكن ترى الكراكي، بعد، مهازل البنانين من الأعالي. كـان أفق إذا، وهوى يتدلى بعناقيده من عرائش خفية. وكانا راكضين، فتى وامرأة، يحمل أحدهما إلى الآخر عرشه، وقربة الماء، والأرغفة التي رققتها أنامل العناصر.

هكذا التقيا. هكذا أطعم الفم الفم زبيب الهذيان، وأهدى القلب إلى القلب ممرات من الريش مسقوفة بالخواتم. إنها الأرض الان (هكذا أروي). إنها المصبات وطعم الكائن لقنص الكائن: كل شيء في سيرة ذاهلة، والفاكهة تحلج من ذهول الجذور أول صليل، وأنا دليل ديلأنا وديرام، دليل يخيط الجهات بالمرح، ويلقي بمفاتيحه إلى الغمام الأسير، فلا يريان إلا قلبيهما محكمين كالقيد على العذوبة، ولا يشهدان، أنا التفتا، غير العاشق يتقرى بلهاثه ختم العاشق.

(أتذكر ختمك ديرام؟ أتذكر الختم ذا المقبض الصلصالي؟ أتذكرني مائسا من حولك في الهواء المتدحرج كالنرد وقد بسطت عليك سلطان الماء ودغدغة

الحقول؟ آه كم كنت صغيرا حين رفعت يديك، أول مرة، ملؤهما البيادر والوشاشات ، كم تقاربت خلف ظلك الصغير جيوش حنونة وعسكر الأقحوان. وكنت تنثر، آنذاك، قطانك للقرى لتتبعك، كمن ينثر للزرازير فتات الخبز قرب فخاخه. لكنها اتكأت على خوذة القادمين من غيب زينته المدينة بثريات الكتابة، وبقيت أنت، شاردا شرود يقظة وسط ظلام هازل. أديرام لا تنتفض حين تسمع صليل الينابيع الراكضة بسلاسلها، وقرع السنابل على فحولة العراء، فأنت تغشى، الآن، بهزائمك بطولة المدينة، وتغمد الخنجر الأخير، خنجر النبات والنهب. أديرام لا ختم إلا ختمك يسعى به المصب إلى المصب، ارمه ارمه، ولتضع الجداول). هكذا أروي، هكذا يطعم الفم الفم زبيب الهذيان. أيقول لي أحد"، بعد هذا، تمهل أيها الدليل؟ لا، سأروي المدخر من عوالم، وأفتح القرب على مداها، وليكونن حديثي حديث نيزك، وإشاراتي نزهة موج جميل، فلا يرى ديرام وديلانا غير قلبيهما- حين أروي- محكمين على العذوبة، ولا يشهدان، أنا ا@تفتا، غير الدم يتقرى بلهاثه ختم الدم.

(أتذكرين ختمك ديلانا؟ أتذكرين ختمك ذا المقبض الشفقي؟ أتذكرين رفيف يدي وقد أمسكتا برسائل البراعم، وكانت يداك تسفحان لي، على مهل، أحابيل الثمر؟. أتذكرين، كنت الدليل الحزين للفرح، أتعجل أن ينحدر ديرام من أقاصي الهضبات، ويأتي ليقفل باب البحر برتاج البراري. كنت في الأربعين، كنت ملآى بالذي يبيح الحرب ويجعل الخيانة لهو طفل. وثنت مهملة أيضا، محض امرأة، ككل امرأة أعطت لبعلها ما لبعلها؟ وأخفت بعض قناديلها، ككل امرأة، قرابين للموحش الظمآن إلى يد تهرق الإباحة، وتزج الهينمات بالخلاخيل وقتذا جاء ديرام، وقت فرغت من نسج ما للبعل، وتشاغلت عن نفير الأنثى بنفير السلطان الذي يملك الكائن مشاغل الكائن، فيمضيان ضريرين إلى المهرجان. وقتذا جاء ديرام، وقت لم يكن لك سر أو غضب، فرفع إليك، في آنية

نهبه، سرك والغضب. آه ديلانا، ليس بمبارك من لا سر له، من لا يغلق على فلذة منه بابها فيستملك، وهو المملوك أبدا"، بشاغل أن يرى يقظان أمام خيمة القوي. وصار لك سرك ديلانا، صار لك ما تقفلين عليه بقفل الأناشيد، وتفتحينه فتعبثين عبثا حلوا بالأناشيد، فلا تنتفضي حين تدخل السنابل عليك الآن، في ملاءات من الشهوة، ساحبة خلفها ظل سيف من سيوف الغبار المحارب، فهي تجهد أن ترى ختمك الذي تسعى به المصبات إلى المصبات. ارمي ختمك، ارميه ارميه، ولتضع الجداول.) على رسلك أيها النبع، على رسلك أيها الهباء. على رسلك أيتها الصواري، على رسلك أيتها الأرخبيلات، فهذا قوام ذشيدي.

بيد أنني، كدليل، لن أبرم النشيد بمطالع مرسلة كتيلة القطن، بل سأدعو الشهود نباتا نباتا، وسنعتصر، معا، لهاثنا في نسغ الورقة الوحيدة العالية، ورقة الملهاة التي بسطت ظلها على قبلة العاشقين، حين أسدلت عشرون يدا ستار الكهولة على الضحى،

5ديلانا، زوجة الكتابة، وأم ابنتين، يعن لها أن تذكر بين الحين والحين هروبها من المدينة إلى المدينة. وإذا جلست لترفو ما تمزق من ثياب ابنتيها، في الظهيرة، ترفو الحاضر أيضا بعينين دامعتين. 5ديرام، فتى الهضبة، يعن له أن يجلس قبال ديلانا، ناسيا أنه الغريب+ فإذا نظرت إليه بعينين دامعتين أرخى قناعه الصارم، وأجهش بالرعد.

كلاهما طفل. فتى وامرأة طفلان، وأنا الدليل الأبكم أقودهما عبر شجر الدراق ومناقير الغمامات السكرى.

بالله يتها الغمامات السكرى، يتها الغمامات السابحة في نبع من العظام وقرون التياتل، انهضي ثكلى في قناع كلب، واكسري تاجك الشفيف. وأنتن يا شجرات الدراق ألا لا يستظلكن شبح أو شـريد. أمـا أنا، ذاكم الدليل الذي سل الهرج كمدية، وشق الأغاني، فحسبي أنني جالس هنا، قرب ثور ترتطم بعينيه الزيزان، ويفلي جلدة القراد الطائش، وكـلانا ينظر- إذ ينظر- إلى سروة البـحر آن تميل بأعشاشها. مرحى ديرام مرحى ديلانا: لم أكن كما ينبغي أن يكون الدليل. لم أتطلع قط إلا إليكما، غير آبه بالقيافة التي تجعل الأثر رنين صنج يفتتح الموت.
مرحى أيها الفتى مرحى يتها المرأة:
لم أكن كما ينبغي أن يكون الدليل. كنت سارحا بين أهدابكما، أرى ما تريان؟ وأمتدح، مثلكما، بهاء الملوك الذين أطلقوا المدن ككلاب سلوقية، وخرجوا يبحثون عن شعوبهم. وأمتدح الطيور أيضا، والمشاعات والمياه، وأحفز روحي بمعول ندي لألمس في فجواته الخيام والأسلحة. دعني ديرام، سألقي عليك عباءة الأمير. دعيني ديلانا، سألقي عليك عباءة الأميرة. وسأجثو مانحا لضربة النهر الكاهن صدري كله، عل يهتدي بالدوي دليل غيري فلا يمتحن الكتابة بعاشقين يختتمان النشيد بالغضب.
إيه أيها الغضب، أما كان إلا أن أقود فتى هاربا، وامرأة هاربة؟

(حين جاء ديرام بأشيائه الصغيرة إلى المدينة، كان عابقا بلهاث اليقطين، وفي جيبه بقايا ذرة. لم يكتم أحدا نظر في ورقة وتتبع الإشارات إلى بيت صاحبه الأرمني.)
أبه أيها الغضب... (كان لا بد من يقظة. كان لا بد من شراع حجر. وصاحب ديرام صديق صبا. يعرف أن يستيقظ مع المجر ويقود اليقظة. وقد روى لديرام عن نساء المدينة، عن رياح المدينة، وعن رطوبة تبلل الكلام والنوم. و ياما امتقعا وهما ينظران إلى العاريات يتدفأن قرب ل@ب البحر.) إيه أيها الغضب...

(مدورة كانت المدينة، مدورة مثل إلية الكبش. وكان ديرام يحتفي بأعوامه العشرين، صامتا كصاحبه الأرمني الصامت. غير أن الخبطة المائة للحقول على بابه أيقظت العتالين الغرباء، الذين يجاورون مسكنه جمعا جمعا في الغرف، فأوقدوا لأعوامه بسالة الغريب، وغنوا للهذيان.)
إيه أيها الغضب...

(يقول ديرام: أفي فضاء هذا، أي صفيح يغطي اليقظة؟ ويقول الأرمني: دعك من الأقفال فأنت ابن المدائح. يقول ديرام: أقي غزو للجر هذا، أكب نهب بسيوف العويل؟ ويقول الأرمني: دعك من حصاد الحديد. يقول ديرام: أي خوذة هذه، أي سروة تتدلى منها خصيتا سلور؟ ويقول الأرمني: دعك من الأغاني، فص لا تهب على شراعك أنت.: يقول ديرام: أي مصب للفجاءات هذا، أفي ملك مقنع بقناع المهرج ويقول الأرمني: دعك من مشط غل البكورة-، فـق@ أشرف المغيب على سلطانه.)

إيه أيها الغضب، كنت جاثيا امنح النهر الكاهن زردي، وأحوك العطش للجداول، لكنني إما التفتت رأيت ديرام فتى يهدم المدينة ويبني المدينة.

(ببأس كبأس الخلد بدأ ديرام، وبأجر كأجر فتى. كان يرفع الكتب من المخابئ إلى ذاكرة الموتى، ويحزم لباعة الكتابة الجدل والرمال، ثم يرجع آخر النهار ليجلس على سطح المبنى، مرتشفا مع الشاي المسائي رائحة أنثى لم تطلع من الصلصال بعد. غير أنه التقى ديلانا، بعد مئين من شموس تتالت على فراغ مترف بصخب الحديد، فبكى.)

إيه أيها الغضب... (كانت ديلانا تنتظر أيضا، بعد أربعين دورة من دورات السنابل. وكانت تسعى إلى أن تجعل من ابنتيها سببا ما لرضوخ الدم للدم. وديلانا مائدة. وديلانا نساجة من نساجات المدينة، غزلت، ذات يوم، علي مغزل الماء أقدارها، وهي مذ ذاك حيرى بين أن تأسر السنونو أو تطلق السنونو، لكنها استغفلت القاعدة وحيرة القاعدة، فشقت المدينة بعمد ترفع السهوب كظل فوق الأرواح.)
إيه أيها الغضب...

(حين دخل ديرام بيت ديلانا، قالت: خلقتك من شبهات الأنهار. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك مني. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من النهب فانتهب. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من مساكب وبقول.

قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من مطالع العويل. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من بريق موحش يتلألأ على مقابض البوابات. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من ذهولي. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من نذور الظلام إلى الظلام، ومن بكورية غائصة بنصلها في الجذور. قال: تعالي إذا. فاحتضنته وبكيا.)

إيه أيها الغضب، سأمهل الأرض حتى تأتي الأرض بشفاعة الأسلحة، وسأنذر الخفي حتى يكشف عن موقده، لأنـي أستجمع الآن سيرة القبل وحبري الحباحب، مستعينا بما لا يرى، بالسمانى، بإوز يختزن في الحواصل كلام الضفاف. وليسردن معي الشجر- حين أسرد- هذه المطالع المدبجة بريش الغراب وعصافة الشعير:

مطلع أول كانا يركضان معا حول صارية المدينة، ملتفعين برسائل الشتاء، مرحهما مرح النورس، ولهاثهما لهاث الغداف. كانت ديلانا تجهد أن تمسك ببرقه الغض، ويجهد ديرام أن يمسك بغمامتها الغضة. وحين تعبا، جلسا معا قرب صارية المدينة، هي تنحسر انحسار موجة قليلا وهو ينحسز انحسار موجة قليلا، تاركين على حبال المطر قميصهما الزبدي ووشالح مملكة لم تكتمل.

مطلع ثان
كانا قادمين من ناحية الغرب، من الناحية المتصلة بأنين الملوك، وبآخر التماع للبرق على سنان البطولة. كانا قادمين، وقد خرجا، توا، من خلوة الكائن، حيث يترك الذكر وراءه مجدا أعزل، وتترك الأنثى وراءها أقاليم عزلاء. وحين التقيا المدينة نثرا للمدينة حفنة من ؟ الموج ومن خيام خضراء، وعلقا على سياجها مديح المياه ووشاح مملكة لم تكتمل.

مطلع ثالث
كانا شفيفين، وكانت ترى من خلال صدريهما رفوف صغيرة من زمج الماء، ويرى الشاطئ أيضا، ومراكب الموت، وتوتيوها الصاخبون سكارى يقبضون على البحر ويطوونه كالثوب، فينفر من الأعماق تيس يقود تيوس الباطل المرمرية.

وماذا يفعل ديرام، وماذا تفعل ديلانا؟ لقد شففا كـثافة الحيرة فما رؤي غير ؟ الحيرة، وشففا الجسد فما رؤي غير الباطل. ؟ كانا شفيفين، غير أنهما أوصدا، الآن، باب الهواء الشفيف، وارتديا للكثافة الكثافة، فها فما يستعرضان جمهرات الظلام بسلطان مملكة لم تكتمل.



الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

لطيفة لبصير: الكتابة تجميع للمتناثر في حياتي.

هي واحدة من بين كل متعدد الأوجه، مبدعة احترفت الحرف منذ زمن، وعبره قالت الرغبة و الـ «ضفائر» و«أخاف من...»، آخر أعمالها. ورغم انشغالها الأكاديمي والمهني بجامعة الحسن الثاني بالبيضاء فقد انتمت عبر كتاباتها المتعددة الضمائر إلى جيل مبدعات تمردن على ضيق الإطارات الجاهزة التي يرغب الآخرون أن يأسروا بها تدفق الإبداع، في جرأة محببة أسقطت كل الأقنعة وأعلت شعار كتابة حرة غير مقيدة، وفي انتظار «عناق» ـها، مجموعتها القصصية الجديدة، كان لقاؤنا التالي.

ما الذي شكل الصورة القصصية الأولى لدى لطيفة لبصير؟
كنت في بداياتي أكتب نصوصا مفتوحة، وكانت لدي رغبة في كتابة الشعر أكثر من النثر، ولكني شيئا فشيئا وجدت أن مساحات السرد تهيمن على نفسي الشعري، وكنت أحس أنني أرغب في الجملة القصصية أكثر من الجملة الشعرية. رغم أنني حينما بدأت أكتب نصوصا مفتوحة وجدت أنها منفتحة على أجناس متعددة، إلى أن بدأت تتشكل شيئا فشيئا وصارت نفسا قصصيا، وبدأت أفهم أنه ينبغي أن أدخل ضمن هذا الجنس الإبداعي الذي يمكن أن نقول أنه مهمل تقريبا في كثير من الأحيان ومظلوم من الناحية النظرية، لأن النظريات الأدبية تهتم بالرواية أكثر مما تهتم بالقصة. وحين بدأت أكتب القصة وجدت أنني أرغب أن أنقل إليها العديد من التفاصيل الصغرى؛ أي أن لا أكتب المواضيع الكبرى والتيمات الكبرى المهيمنة، لأنها لا تهمني، لأن القصة ينبغي أن تكون نوعا من الالتقاط للتفاصيل التي لا تبدو ولا تظهر في الحياة اليومية، أي تلك التي يمكن أن تشكل إضافة للكتابة.
latifa lebsir
وهل كان للذاكرة نصيب في هذا التوجه؟ أقصد ذاكرتك الخاصة؟
يمكن القول أن الذاكرة بالنسبة لي نوع من التخزين والتقاط مجموعة من التفاصيل في حياتنا اليومية؛ فذاكرتي هي الزمن الماضي ولكن ليس بالضرورة أن أكتب ذلك الزمن كما هو، لأنني حين أكتب فإنني أكتب بضمائر، وهذه الضمائر لا تعود علي بالضرورة، لأن الضمير عندي، سواء ضمير المتكلم أو الغائب أو المخاطب، لحظة سردية ليس إلا... لأن المتكلم في نصوصي هو تخييل بالدرجة الأولى، فذلك المتكلم يتخيل وينسج عوالم لا علاقة لها بالواقع، ولذلك فإن الميثاق السردي لدي، حين أضع نصوصا قصصية، هو أنني منذ البداية أتعاقد مع القارئ على أن ما سأكتبه هو من قبيل التخييل ومن قبيل النسج... فأنا أنسج نصوصا تمتح وجودها من الواقع اليومي، ولكن لها علاقة باللحظة الإبداعية واللحظة السردية، ولا علاقة لها بالواقع كما هو. لأن الواقع يتعبني، ولا أريد أن أكتبه كما هو، بل أريد أن أغيره شيئا فشيئا. وحسبما يقول نيتشه؛ أنه لولا الخيال لمتنا من الواقع. فالخيال جزء من الإضافة وجزء من الابتكار والإبداع والإلهام في حياتنا اليومية.
أي أن الإبداع يجمل نوعا ما صورة الواقع...
فكرة الجمال أو القبح لدي هي فكرة تخضع للكتابة في حد ذاتها. فالنص الإبداعي بالنسبة إلي يمكن أن يكتب عن أشياء قذرة، وتلك القذارة حين تدخل إلى الأدب فهي تصبح انتماء له، فالأدب لا يحتمل الجمال أو القبح. فالجمال فيه ليس جمال الصورة والشكل أو الأشكال الجمالية للأشخاص الذين نكتب عنهم، ولكنه جمال يخاطب قارئا آخر، لأنه يحاول أن يوجه ويؤثر ويضغط على أصابع قارئ مفترض. ولذلك حين أكتب، فإنني أكتب خارج ثنائية الجمال والقبح. لأن الجمال بالنسبة إلي نسبي في كثير من الأحيان. ولذلك وحينما نتذكر مثلا كيف كتب أمبيرتو إيكو عن الجمال، نجد بأنه لم ير الجمال في الجسد فقط، فكم من جسد جميل وليس فيه أي نظرة حانية، وكم من جسد قبيح في المنظر يمنح نظرات حانية... فتلك النظرات الحانية وتلك الالتقاطات هي ما يهم الأدب. لأن هذا الأخير ليس مهتما بالجميل فقط، فالجمال بالنسبة له هو الجمال الذي يخلقه كأدب، والذي يمكن أن يضيفه إلى الأشخاص. فهناك شخصيات باردة ومقززة في الواقع ولكنها حين تدخل إلى الأدب يصبح لها جمال خاص بها، لأن الأدب يجملها، ليس على مستوى الشكل ولكن على مستوى الروح، كما يمنحها روحا إضافية. ولذلك كثيرا ما نجد أن الجمال حين ينتقل إلى الأدب فهو لا يضيف إليه شيئا، في حين أن القبح أو الفقر أو التقزز أو النقص في الشخصية، أشياء في حاجة إلى إضافة. فالأدب إذن يضيف إلى تلك الكائنات الناقصة والقبيحة أشياء من عنده. فالقبح هو في حاجة إلى إضافة، وإلى كل ما ينقصنا في الحياة اليومية.
ألم تشعري يوما بضيق مجال القصة القصيرة لمصلحة الرواية؟
القصة كجنس أدبي يختلف عن العالم الروائي، لأنك حينما تكتب القصة فكأنك تكبح جماح مجموعة من الأشخاص داخل غرفة واحدة. وتحد من زوائدهم كما تحد من إمكانية فيضهم خارج مجال تلك الغرفة. أي أن لهم امتداد ولكنه قصير الأمد. ولذلك فإن القصة كجنس أدبي تقلص من حجم امتدادهم في الزمن والمكان وأيضا على مستوى اللغة والأشخاص. بينما الرواية عالم آخر مختلف تماما. وأنا بصدد كتابة نص روائي قريب من الانتهاء، وفيه اكتشفت أن الكتابة الروائية مختلفة عن الكتابة القصصية، لأن فضاءها فضاء ممتد، ثم أن شخوصها هم شخوص يتنافرون، وفي كل مرة يمكنهم أن يفرضوا على الكاتب إيقاعا جديدا في الكتابة، ثم إن الرواية تتطور بشكل غير التطور القصصي. بينما النص القصصي نص يحذف أكثر مما يقول، ويقول الكثير من الأشياء بأقل الجمل والكلمات، كما يحاول ما أمكن أن يقلص نوعية الموضوع. وشخصيا أحاول أن ألتقط بعض التفاصيل وأكتب عنها.
في علاقة المرأة مع اللغة كيف تداعب لطيفة لبصير اللغة، دون السقوط في ثنائية الذكر والأنثى وما تخلقه من مفارقات؟
شكرا على هذا السؤال، فقد اشتغلت كثيرا على هذا الموضوع، أولا في بحثي في دكتوراه الدولة حول السيرة الذاتية النسائية، حيث تساءلت هل هناك لغة خاصة تتعامل معها الأنثى؟ ووجدت في إحدى الإحصائيات أن المرأة تهذب اللغة بشكل ما وتنقيها من كل كلمات «الشارع»، وتقدم للقارئ لغة صافية ونقية، ووجدت أيضا أن المرأة تستعمل اللغة بشكل يختلف على المستوى النفسي، بحيث أن الأنا الأعلى لديها أكبر من الرجل، وتلك الأنا الأعلى تضغط على أصابعها وتحدد نوعية تعاملها مع العديد من التيمات المختلفة. ولكن في الآونة الأخيرة وجدنا أن هناك نصوصا بدأت تتجاوز هذه الثنائية؛ أي ثنائية الكتابة الرجولية أو الكتابة النسائية، لأن المشاعر الإنسانية مشاعر عامة وغير قابلة للتجزئة أو التقسيم. أما فيما يخصني، فأنا أكتب بضميرين مختلفين، ضمير المؤنث وضمير المذكر، ولدي شخصيات تتكلم بضمير المتكلم الذكوري، كما لدي أخرى تتكلم بضمير المتكلم الأنثوي، وهذا لأنه بداخلي لا تحضرني هذه الثنائية في الكتابة، فقد سبق لي وأن كتبت المجموعة القصصية «ضفائر»، وهي كلها نصوص قصصية أنثوية كانت تحمل أسماء نسائية، مكتوبة بضمائر أنثوية، ولكن في العمق لم يكن الغرض منها أن أكتب من أجل امرأة تريد الصراع ضد الرجل، فأنا لا أومن بهذه الفكرة بل بأخرى، وهي أنني أكتب لكي أحول وجهة نظر القارئ حول هذه المرأة، لأن المرأة في المجتمعات العربية هي امرأة لها معاناة متكررة تهم العديد من المواضيع؛ القهر الجنسي، العنف، العنوسة، شيخوختها المبكرة من وجهة نظر الرجال، علاقتها بالزمن... وهذه كلها أفكار تضجرني، ولذلك فأنا أكتب عنها، ولكني لا أكتب ضد ذات أخرى والتي هي ذات الرجل، لأنه لا وجود لذات دون الذات الأخرى

الجمعة، 23 ديسمبر 2011

( القلعة)

أقدّسُ اعتكافَكَ في حجرتكَ - يا أبي - منذ ثلاث سنوات , لو خرجتَ لرأيتَ جيشاً من الجهل عرمرماً يطوّقُ السمعَ و البصر و الفؤادَ , ظلماتٌ فوقَها ظلماتٌ لا تكادُ ترى يديك خلالَها ,غيرَ أنك مازلتَ أنت تقرأُ و تحلّلُ أيّ كتاب يقعُ بينَ ي...ديكَ , تحللُ و تقرأُ لنفسكَ فقط دون أنْ يعلمَ بك الآخرون , كنتَ تظنُّ بأنّك أنت هو الآخر , فهل ظنّ الآخرون بأنكَ هم ؟. تبّاً لي يا أبي : "لقد شمّتْ روائحَ يأسي القططُ " و أصبحتُ زاوية البيت المظلمة والركنَ المنهارَ و الصوتَ الخجول . اعتكفْ في حجرتكَ – يا أبي- أبديّاً , فإنّي أخافُ عليكَ من جهل الجاهلين و أميّة المتسلقين , وهم كثرٌ جداً –يا أبي – لا تستطيعُ عَدّهم و لا أستطيع . لا أريدُ منكَ شيئاً – يا أبي- , فقط أريدُ أنْ تسلّطَ شعاعاً من نوركَ على تلك الزاوية المعتمة من البيت , حيث أقبعُ أنا منكسراً و هشّاً و مطعوناً .
في الصورة : أنا و أبي الشيخ عفيف الحسيني الذي ما زال يقرأُ و قد تجاوز الثمانين – 4-4-

الأحد، 18 ديسمبر 2011

تَذْكِيرُ النِّسْيَانِ . صلاح بو سريف .

[1]

لمْ يَكْتَفِ الشَّابي بكتابة الشِّعر، بل مَارَسَ تَنْظِيرَهُ أيضاً. ليس غريباً، أن يصْدُرُ كتاب " الخيال الشِّعري عند العرب "، قبل صُدور " أغاني الحياة ":
كانَ الشَّابي، وهو يعُودُ إلى الماضي، يُحَاولُ وَضْعَ اليَدِ على مَوَاطِنِ الجُرْحِ في مُمارَسَةٍ شعرية، بَدَا لَهُ، أنَّهُ مِن غير المُمْكِن أنْ تَظَلَّ العلاقةُ بها، بعِيدَةً، أو أن تَظَلَّ هذه البِداياتُ، خَارِجَ المُساءَلَة، أو تكون، في أقصى الحالاتِ وأعْتَاهَا، ذلك الأصل الذي لا يمكنُ للشِّعْرِ أن يكُونَ دونَ العودَة إليهِ، أو احْتِذَائِهِ.
كَتَبَ الشَّابي، وفقَ اختيارٍ شِعْرِيٍّ، ليس هو اختيار القُدماء، أو هكذا كان يَتَصَوَّر اخْتِيَارَهُ. فهو كانَ على وَعْيٍ بما هو مُقْدِمٌ عليه، لأنَّهُ حين اخْتَارَ الخيال، فهو ذهَبَ إلى مَكَانٍ، ظَلَّ بعيداً عن المُقارَبَةِ، أو هو، حتى في حالاتِ مُقَارَبَتِهِ، لَمْ يخرُجْ عن تلك العلاقات التي عَمِلَتِ الرُّؤيةُ البيانية على تَثْبيتِهَا، وتَكْريسِ نَمَطِيَتِهَا.
اخْتِيَارُ الشَّابي للخيال الشعري، كانَ يسيرُ في نفس سياق اختيارِه النصي، فالرومانسية الشعرية، التي كان الشَّابي أحد مُمَارِسِيها، كانَ الخيال، أحد المُكَوِّنات البانية لخطابِها، وأحد الأُسُس التي عليها كانَ مَدارُ اختيارها الشعري.
العودَةُ إلى القديمِ لمُسَاءَلَتِهِ، من هذه الزَّاوية بالذَّات، كانَ في صُلْبِ عمل الشَّابي، أعني في صُلْبِ اختيارهِ الشِّعري، الذي لمْ يَكُنْ مُقْتَنِعاً، بالاختيارات الشِّعريَة القديمة، بمُختلَفِ أعْصُرِها، أو مراحلِ " تَوَسُّعِهَا ". هذه الاختيارات التي ظلَّت محكومَةً، كما يذهَبُ هو نفسُه إلى ذلك، بنفس التَّصَوُّرِ، ولم تُغَادِرْهُ إلاَّ لِمَاماً.
ألَيْسَ الشَّابي مَنْ يَرَى، وهو بصدد الحديث عن " الرُّوح العربية "، أنَّ " كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعاً على غرار واحد ومُصْطَبِغاً بصبغة واحدة..". أي أنَّ هذا العقل، هو نفسُه، لم يخرج عن طبيعة النَّمَط الذي ظلَّ يحكُمُ رُؤْيَتَهُ لِلْأَشياء. والعقل هنا منظوراً إليه من باب الخيال، الذي يرى فيه الشّابي ضرورة لا غنيةَ عنها للإنسان " كالنُّور والهواء والماء والسماء "، وهو ضَرُوريُّ " لروح الإنسان ولقلبه، ولعقله ولشعوره، مادامت الحياة حياة والإنسان إنساناً ". لكن الخيال عند العرب، لم يَتَخَطَّ ظاهِرَ الشِّيْءِ، ولمْ يستطع أن يَبُثَّ الحياةَ في اللُّغَةِ، التي لا يمكنُ أن تحيا دون خيال.
الخيالُ الذي حَرِصَ الشَّابي على قيمتِه، أو على جماليته، هو " الخيال الشعري "، وليس " الخيال الصناعي ". فخيال الشَّابي، أو ما يَتَبَنَّاهُ الشَّابي من خيال، " فيه تنطبع النظرة الفنية التي يُلقيها الإنسان على هذا العالم الكبير… لأنَّه يضربُ بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشُّعور".
[2]
قَدْ يبْدُو الشَّابي مُغَالِياً في موقفه من الشعر العربي القديم، من " القصيدة "، كما أسَّسَتْ لها الشعرية العربية، من الجاهلية حتى الأندلس، لكن، حين نتأمَّلُ خلفية رؤيتِهِ، وطبيعة المشروع الشِّعري الذي عَمِلَ على بنائه، فإنَّ هذه المُغالاة تَنْفَرِطُ وتتلاشى، لأنَّ ذهابَ الشَّابي إلى الخيال، و إلى الأسطورة.. في هذا الاختيار الشِّعري القديم، كانَ مَحْكُوماً باختياره الشعري الذي لم يكُن يرى في تجديد الوزن، قيمَةً أساسيةً، بل إن قيمة الشِّعر لا تحدُثُ إلا بتحويل الخيال مِنْ ظاهِرِ الأشياء إلى عُمقِها. أي أن يُصبِحَ الخيال تعبيراً عن يَقظَة الرُّوح، و عن الإحساس بما وراء الأشياء. فالشاعـر العربي، في تعامُلِهِ مع الجسَـد، لم يُحاوِل " أن يُحِسَّ بما وراء الجسد ".
الخيال بهذا المعنى، هو دال الرومانسية الكبير، وهو ما سَيَعْمَلُ على إعادة ترتيب النَّسَبِ الشعري، وتحويل الرؤية، من مُجَرَّد لَعِبٍ بالكلام، واستعادة للذاكرة، و ما تمتليء به من صُوَرٍ وتعابير، إلى نوع من الانقلاب في الرؤية، ليس إلى الأشياء، بل إلى الإنسان في علاقته بالوُجود.
اللُّغَةُ، قد تكونُ ذات قيمة في الشِّعر، لكن ليس بالمعنى الذي يجعل اللُّغةَ تكونُ آلَةَ الشَّاعِرِ في قول الأشياء. اللُّغَةُ وفق هذا المنظور هي الْمَاوَرَاء. هي " الدُّنُوُّ من سراديب الجبال و أعماق الكهوف و الأودية..". أي ما يُضْفِي على اللُّغة قيمتها الأنطولوجية، و يجعلها بالتالي، تَنَنَزَّلُ مِنْ ثَنايا الرُّوح، لتُقيمَ في ما سَيُسَمِّيهِ الشَّاعر، أو في ما هو مُقْدِمٌ على تَسْمِيَتِهِ.
الشَّابي كان واعياً باختياره الشعري، وبتلك التُّخُوم التي هي نوعٌ من العودة إلى بداية الوُجودَ، أعني الوُجود الشِّعري، الذي كانَ أوَّل مُواجَهَةٍ خاضَها الإنسانُ مع ذاتِه، ومع ما كان يَعْتَمِلُ في نفسه من قَلَقٍ، صاحَبَهُ منذ أوَّل هذا الوُجود. فتسميةُ الوُجود، بهذا المعنى، كانتْ مِنْ مَهامِ الشَّاعرِ، ومن تَبِعَاتِ وظيفتِهِ. لكن، وفي ضوء التصور الذي ذهبَ إليه الشّابي، تأجيجُ الخيال، يبقى هو الوسيلة التي سيستعيدُ معها الشِّعرُ عُمقَهُ، ويَعودُ لِـ " أوَّل نشأته "، أي نشأة اللغة، حين كان الخيال " حقيقة ". لأنَّ " المعاني الخيالية " كما يقول الشَّابي، " أقرب إلى ذهن الإنسان الأوَّل من المعاني الحقيقية ".
أليسَ الشَّاعرُ، بهذا المعنى البعيد الذي يذهبُ إليه الشَّابي، هو الإنسانُ الأوَّل. السَّاهِرُ على هذه " الحقيقة الغائبة "، أو على مُراقبَة، فرق المسافة الذي يفصِلُ بين ما هو خيال، و ما هو حقيقة. " وصفوةُ القول، يقول الشَّابي، إنَّ الإنسان مضطر للخيال بطبعه، محتاجٌ إليه بغريزته…و أن اضْطِرَارَهُ إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالاً وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطوَّرت نظرتُهُ إلى هذه الحياة ".
[3]
عودةُ الشَّابي إلى بَدْءِ الأشياء، إلى بَدْءِ تَسْمِيَاتِها، كان أحد لحظات انفصالِهِ، عن المُقتَـرَح الشعري القديم. إذا كان الشَّاعرُ القديمُ يُسَمِّي الأشياء صِِنَـاعَةً، أي بتبني ما سمَّاهُ الشَّابي بـ " الخيال الصناعي "، الذي هو في خَلْفِيَةِ التَّسْمِيَة، ليس سوى رَجْع صَدىً لِتَسْمِيَاتٍ سابِقة، فالشَّابي كان يَخوضُ الشِّعْرَ، في تُعَرُّجاتِهِ والْتِواءَاتِهِ، كما يقول، " لأنَّ الآلهة العربية [في الوضع الأسطوري] لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال ". أو لا تُتيحُ، بالأحرى للخيال أن يَشْتَعِلَ ويفيضَ من داخل الذات، أي مِنْ جِرَاحَاتِها.
لم يكن نقد الشَّابي مُوَجَّهاً للشعر القديم، أي إلى النص، في حَدِّ ذاته، فهو ذهَبَ إلى الروح العربية، إلى العقل الذي يَحْكُمُ رؤية العربي للأشياء. وبغضِّ النَّظر عن تأثير المكان في الشاعر، كما يرى الشَّابي، فإنَّ قوَّة أطروحتة، هنا تُوجَدُ، وليس مُهِمّاً ما وصلَ إليه من نتائج.
في هذا النوع من النَّقد، الذي يَمُسُّ الأساسات، تبدو خُطورةُ الرؤية. الشّابي، تركَ البناء جانباً، وذكَّرَ بما في الأساسات من خلل في النَّظر، وما تلا ذلك من بناءات،
ظلَّت في جوهرها، نوعاً من التَّراكُمِ القائمِ على هشاشَةٍ لا أحَدَ ذَكَّرَهَا، أو عادَ لِمَوْطِنِ الخَلَلِ فيها.
لم يكن الشَّابي ينظرُ إلى الماضي، حين أقدَمَ على تَذْكِيرِ هذا النِّسْيَانِ، بل كان، في ما هو يقرأُ خَلَلَ الماضي، ينظُرُ إلى المُستقبل. لا شيءَ في ما قرأهُ، في هذا الماضي، كانَ يُشيرُ إلى المُستقبل، فهذا الأدب الذي امتدَّ من الجاهلية إلى الأندلس، رغم اختلافات الأمكنة، والأمزجة، ظلَّ هو نفسُهُ، مُقيماً في نفس البنية، وفي نفس الأُسُسِ، لم يَسْمُو إلى ما هو أبعد منها.
[4]
جذريَةُ نقد الشَّابي للقديم، لِمَا هو مُسَلَّمٌ بِهِ، ولِلْأَسَاساتِ، جَاء في سياق ما عرفتهُ الثقافة العربية الحديثة مِنْ نُزوع نحو " الشَّك "، واختبارِ لـ " اليَقِينِـ " ياتِ. صدر الكتاب سنة 1929، أي بعدَ صدور كتاب " في الشعر الجاهلي "، لطه حسين، بثلاث سنوات، دون ذكر ما صدر من كُتُبٍ، عملت على فتح مُواجهات على أكثر من صعيد.
فرقُ الهواء بين العَملين، كان في المنحى الشِّعري الذي كان الشَّابي يَخُوضُهُ، أي في مشروعه الشِّعري الذي حَرِصَ على جذريتِهِ، وعلى نُزُوعِهِ المُستقبلي. كان التَّوَجُّهُ الرومانسي، نوعاً من الوضع الطَّاريءِ على الشِّعر العربي، وهو ما بدا في رفض شيوخ الزيتونة لشعر الشَّابي، و تَوَجُّسِهِم من (تطرُّفِهِ)، إبَّانَ مرحلة التَّعَلُّم، و أيضاً، في إدراك الشَّابي، لِمَا هو مُقْبِلٌ عليه مِنْ عمل استثنائي، وهذا ما سَيُطَوِّحُ به إلى زَمَنٍ، هو غير الزَّمَن الذي يعيشُ فيه.
سَيُدْرِكُ الشَّابي فَداحَةَ اليُتْمِ، وسَيُقْبِلُ عليه بغُربَتِهِ، لكنَّهُ آمَنَ بِما بَيْنَ يَدَيْهِ، ولمْ يَتْرُكْ جِمارَهُ، بل ضَاعَفَ مِن اشْتِعالِها، حين بَدأ الجُرْحَ بـ " الخيال الشعري.."، قبل أن يصدرَ ديوانَهُ " أغاني الحياة "، الذي عَمِلَ على جمعه، واختيار نصوصه، دونَ أن يعيشَ حَدثَ صُدورِهِ.
عَمَلانِ، معاً، جاءا لِيُؤَسِّسَا لِرُؤْيَةٍ شعريةٍ مُغايِرَةٍ. نَفَسٌ واحِدٌ كانَ يَجْمَعُ بين العملين، رغمَ فرق الزمن. الشَّابي في " الخيال الشِّعري "، كانَ يُمَهِّدُ لِمَشْروعِهِ الشعري، وهذا ما يَتَبَدَّى في مواضِعَ من كتـابِهِ، فيها كان يُقارِنُ بين ما تَتَمَيَّزُ به " الروح الغربية " من عُمقً، وما كانَت " الرُّوح العربية "، غارِقة فيه من عَرَضٍ، و لامارتين، الذي قرأهُ مُتَرْجَماً، كان نموذجَ هذا العُمق، أعني الروح الغربية.
حضور لامارتين، في مقارنات الشَّابي دون غيرهِ، يكشِفُ عن خلفية ما كان الشَّابي يُؤَسِّس له مِن مُستقبل شعري، سيشرطهُ بغير الزمن الذي عاش فيه.
في يوم الثلاثاء7 جانفي1930، كتبَ الشَّابي في يومياته " أشعُر الآن أنِّي غريبٌ في هذا الوُجود، وأنني ما أزدادُ يوماً في هذا العالم إلاّ وأزدادُ غُربَةً بين أبناء الحياة، وشعوراً بمعاني هاته الغربة الأليمة.
غربة مَنْ يطوف مجاهل الأرض، ويجوبُ أقاصي المجهول، ثم يأتي يتحدَّثُ إلى قومه في رحلاته البعيدة، فلا يجد واحداً منهم يفهمُ من لغة نفسه شيئاً.

الآن أدركْتُ أنني غريب بين أبناء بلادي. وَلَيْتَ شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تُعانق فيه أحلامي قُلوبَ البشر، فَتُرَتِّلُ أغانيَّ أرواح الشباب المُستيقظة، و تُدرِكُ حنين قلبي وأشواقه أدْمِغَةٌ مُفَكِّرَة سيخلُقُها المستقبل البعيد.."
[5]
في هذه المُذكِّرَة، تبدو تلك المرارة القاسية التي عاشها الشَّابي في " زَمَنِـ "ـهِ، زمن الخازندار، الشاعر الذي كان نوعاً من الوعي الشعري المُهَيْمِن، والذي أدركَ الشَّابي أنَّ كتابتَهُ، لمْ توجَد في زمنها، أو أنَّها كانت نوعاً من رجِّ الأرض القديمةِ، رغم ما تَتَّسِمُ به مِنْ صلابَةٍ.
المُستقبل كان رهان الشَّابي، وهو أدركَ في وقت مُبَكِّرٍ، أنَّ " المُعاصَرَة حِجَاب ".
[6]
قراءة " الخيال الشعري.." مِن منظور الكتاب وحدهُ، لن تكونَ مُجْدِيَةً. الشَّابي كان واسعَ النَّظر، كانَ في ما كتَبَهُ نَظَراً، يذهَبُ إلى ما كان يُؤَسِّس له شعراً. زاوَجَ بين مُمارَسَتِيْنِ شِعْريَتَيْنِ، لم يكن الوعي الحديث، يُؤْمِنُ بانفصلاهما. المعرفَةُ الشعرية، كما تَبَدَّت في " الخيال الشعري "، كانت إحدى سمات الوعي الشعري الجديد، الذي خاضَ الشِّابي مآزقَهُ، مُدْرِكاً، في حينِهَ، تَبِعات ما كان ينتظرُهُ، لأنَّهُ،
كما يقول م. فوكو، فتح جُرْحاً في جَسَدِ ثقافَةٍ، كانت ما تزال تُؤمِنُ بالعافية، وبسلامَة تَشْيِيدَاتِها.
الـ " انقلابُ في الروح العربي "، هو الجُرح الذي أقدم الشَّابي على تذكيرِهِ، وليس الخيال إلاّ ذلك الباب الذي لا يمكن لأيِّ وَعْيٍ جديدٍ أن يَحْدُثَ دون تَذْكِيرٍ
بِخَلَلِ تَشْيِيداتِهِ، و ما آلَتْ إليه مِن فَسَادٍ، أو " إضعاف ملكة الخيال الشعري في النفسية العربية، حتى كانت آثارها على ما رأيتُم ". الكلام للشَّابي…

الاثنين، 5 ديسمبر 2011

كيف تشكو إذا غدوت عليلا؟

(لطيفة لبصير)
   أنتظر منذ شهور أن يغسل المطر زجاج النوافذ، لكنه لم يفعل، وأحس بضيق شديد...يقول صديقي: إنه الطقس الحار، وهو لا يريد أن يتغير وكأنه يعاندنا ويجلدنا بقيظه، وأتساءل: هل الحزن ينبع منا أم من الطقس؟ لست أدري...
حملت بعضي إلى مطعم "الصقالة" الجميل وأنا أتأمل أسواره العالية وبنايته الغريبة التي تعود إلى تاريخ قديم. هنا يتخذ الطقس شكلا مختلفا، وأنا أحمل معي أصوات القيظ تتكرر في ذهني، وصوت صديقي الذي يقول: لا شيء يوحي بالحياة، ينبغي أن نعيش فقط. حتى أنا كما يقول محمود درويش عبر قصيدته: "لاشيء يعجبني"، كلما استيقظت أبدأ بالتشكي الخارج من ضلوعي كألم ينبذ كل شيء. الأجانب يتجمهرون حول مدخل المطعم، يتأملون البضائع التقليدية ويلقون كلماتهم المعتادة: أوريجنال... أوريجنال، ويرفعون وجوههم إلى السماء كي تلفحهم أشعة الشمس وتسمر أجسادهم، أما أنا فقد ورثت سنينا من الشمس، وسنينا من الحر، وهذه الكلمة التي ترن في أذني من كل فم : "لاشيء يعجبني".
تناولت الطاجين مثل السياح، وأنا أستمتع بصنبور الماء وهو يلفظ أنفاسه ويبعثها من جديد، وكأنه يولد من الأرض، وأحاول ألا أحدق كثيرا في السيدة المسنة التي تتناول الغذاء مع صديقتها، وهي تتحدث بوهج غريب صاعد من المقلتين وكأنه يعلن ميلادها في تلك اللحظة، وتقول لها وهي تقضم الأكل المغربي: " سي بون"...لكنني أنزلق معها من الكتفين الشاردين عن الطبيعة الملتحمة، وأعانق الصدر دون رغبة مني لأستقر عند شرخ عميق التأم منذ زمن. كان هذا الشرخ يبرز أثر عملية جراحية يبدو أنها للقلب، لكن هذه السيدة تنبض بالحياة، وكل شيء يعجبها هي وصديقتها، يتأملان الماء والأشجار الصغيرة والطواجين التي تختال في هذا المكان، ويتحدثان بحيوية فتيات في العشرين. لم أستطع أن أخبرهما أنه لا شيء يعجبني، ولكنني فكرت أن هذه السيدة سبق لها أن داعبت الموت بقلبها، وهي تعود للحياة ولا تشتكي، وأبدأ في عد التشكي الذي حصرته في هذا الأسبوع، أكون أنا وأصدقائي قد حصلنا على مليون تنهيدة وألف توتر ومائة تكشيرة... ويكون الزمن الذي نعيشه زمن الانفعال والغضب والأسى، ونكون قد رغبنا في تغيير أشياء كثيرة في حياتنا وأحلامنا ولم نفعل، كنا نثرثر فقط لنحمل معنا ثرثرتنا إلى الفراش وننام ونحن نشكو.
ولكنني منذ أسبوع ذهبت لإجراء مساج استرخائي، وكانت أصابعي مثقلة بشيء لست أدري ما هو، وأنا أعاتب وأشكو عدم النوم والساعة الصباحية والعمل الكثير. كانت الفتاة التي أجرت مساجها طفلة صغيرة جدا، وكنت أداعب يديها وهي تضحك ويسيل لعابها، فأعمد إلى مسحه ويمتلأ أبواها بفرح غامر وهما يقبلانها بقوة، وبسعادة لا توصف، لكنني بعد حين عرفت أنها معاقة ذهنيا وأنها هنا من أجل ترويض اليدين والقدمين حتى لا تتألم. لم أستطع أن أغض الطرف عن عيونهما الملأى بسعادة قصوى، لم يكن يخرج منهما التشكي الذي ننشره في كل مكان حتى فوق هذا الطقس، لم يكونا يظهران الألم. كانا يفرحان فقط بتلك اللحظة فقط، وكنت أشعر بالخجل: لماذا نشكو كثيرا؟ لماذا نتعب كثيرا؟ لماذا لا يعجبنا أي شيء؟ لماذا لا نشعر بسعادة اللحظة والزمن واللقطة والجزئي؟ لماذا نفكر كثيرا في الغد؟ ولماذا لا ننتهي من شرب أقراص النوم، ومضادات الاكتئاب ؟ لماذا نحمل العلب بكل الأشكال والألوان، ونتحدث عنها كما لو أننا نتحدث عن نوع العصير الذي يعجبنا، والذي سنتناوله بعد قليل؟
الشمس في مكانها تنظر إلينا، ولكن بعضنا يبتسم لها، والبعض الآخر يكشر في وجهها، وهي الشمس نفسها. نحن الذين نغيرها بعيوننا، وأنا لا أريد أن أطل عليها، أحاول أن أخرج كل الشكوى التي أحملها في صدري بدافع طقوس الحياة وأرسمها فوق الورق ثم أحرقها، وأتأمل الآخرين الذي لا يملكون قوتهم اليومي أو يئنون في المستشفيات أو يتصارعون من أجل صحن صغير وأصمت، وأحول كل الأشياء التي لا تعجبني إلى شيء يعجبني وأبدأ بي أنا أولا، لأحولني إلى شيء يعجبني وأنظر إلي في المرآة رغم بعض التجاعيد الصغيرة وأقول لي: ها أنت اليوم أفضل من البارحة.
أتذكر حديث صديقي الصباحي وأتأمل الأصدقاء وأسأل: هل نحن فعلا أصدقاء؟ ويخطر في بالي الجيران: لا أحد يريد أن يرد التحية الصباحية إلا على مضض، وأتذكر أزمنة أخرى كانت بيوت الجيران لا تقفل أبوابها وكأنها مفتوحة للآخرين، يبكون معا، ويضحكون معا، ويحزنون معا ويفرحون معا. والآن يخبىء الفرد في حقيبته دفتر شيكاته ورصيد أسراره وحقده الصغير، ونظارته للنظر عن قرب وللتطاول عن بعد، وفرديته الجميلة، وعلبه المفضلة من أقراص النوم. لا أريد أن أتأمل كل هذا التشكي الخارج من الزحام ولا أريد أن أكرر أن لا شيء يعجبني، وأتفقد يدي في الصباح تحمل كوب الماء، وتدون شيئا ما، وأصافح بها الآخرين، وأجمع شتات زمني الفردي ليصير أزمنة أخرى، وأتأمل الناس الذي يصرخون في صمت، وأحاول أن أتخيل الحرارة طقسا آخر، وأفكر أن الشمس ما زالت تضيء، وأنتظر المطر دون قلق مبالغ، وأشفق على الذين أغرقهم المطر، والذين يموتون كل يوم على أرض أوطانهم، وأنظر إلى العليل لأشفى من التشكي، وأتذكر زمن إيليا أبو ماضي وأردد معه:
أيها المشتكي وما بك داء            كيف تشكو إذا غدوت عليلا .

الصورةُ والآخر: عمران شيخموس .

عبداللطيف الحسيني .
حينَ أجدُ لوحةً تضجُّ ألواناً مُهدَاة لعامودا , أجدُ نفسي تتلقّفُها قبلَ أنْ يستحوذََها غيري ليستأثرَ بها ويتركني بعيداًعنها دونَ أنْ أجعلَها تفكّر بنا (نحن كمجموع). ما يُدنيني من ألوان عمران هو هذه الألوانُ التي تقتربُ منّا وتلامسُ أدقّ تفاصيل حياتِنا التي باتتْ أقربَ إلى كلّ الألوان , بعدَما كانتْ تحتدّ بوحدتِها وثباتِها حيث لونٌ واحدٌ يغطّي كلَّ الملامح و يسوّدُ كلَّ ألوان الحياة ويقبّحُها عقماً وسقماً, دونَ أنْ يفرّقَ بينَ ملامح صغير أو كبير , و لتصبح كلُّ الوجوه وجهاً واحداً أمامَ مرآةٍ  مهشّمةٍ تجعلُ الوجهَ النِّضِرَ لا ماءَ فيه .
حين اختارَ لونُ عمران مكاناً أثيراً (عامودا) وكأنّه اختارَ أمكنةً بنفس الآن لأنّها مدينةٌُ خيّبَها بعضُ أهلها من "مثقفين صامتين" عندئذٍ تفرضُ الموازناتُ نفسَها في سياق الفنّ والأدب , و من هنا تكون القيمةُ والمعيار لأيّ لونٍ أو شكل أدبيّ , ما أعنيه هو طوفان التغيير يرافقُه طوفانٌ من نوع آخر : الألوان والكلمات, فهما الشكلُ الملائِمُ لاستنطاق المسكوت عنه ومجاراة الواقع الحيّ . أَمَا كانَ يُقال بأنّ الأدبَ انعكاسٌ للواقع ؟ . فأين انعكاسُ المرايا ؟ ولنْ أسألَ عن غياب الشّخص والنصّ معاً , ففيهما تكمنُ المرارةُ ذاتُها .
عمران قَرَأَنا من خلال فضاءٍ مُغيِّر لا حدودَ له , ليَجدَ عندَنا فضاءَاتٍ تشبهُ عالمَه اللونيّ الذي وَجَدَ وَهَنَاً فينا فتحايل عليه وغرسَ في كلِّ زاويةٍ لوحةًً توحي : هذه هي ألوانُكم التي تشبهُ حياتَكم الجديدة , فخذوها بالقلب واليدين .
...
كانَ الفنُّ يواكبُ حركاتِ وسكناتِ مجتمع يطوف مدّاً ثوريّاً ’ وكان عمران يأتي بتلك الحمولات الثقيلة إلى غرفة دمشقيّة بحجم الكفّ ليلطّخَها بألوانه التي تفتّتُ الرتابةَ والكآبة:(هكذا وجدتُه قبل عقدين) .
يستدعي عمران غبارَ طفولته وطينَها الجزراويّ إلى صقيع الحياة حيث يعيش فنّاً ولوناً على مدار يومه , يعجن اللون و يحوّلُه فنّاً ويضعه أمامَنا : (هكذا أقرأُه الآن).
كم لوحةً من عمران تكفي لتعيدَ السكينة إلينا ؟ :هكذا قال أحدُ الأصدقاء .