(لطيفة لبصير) |
حملت بعضي إلى مطعم "الصقالة" الجميل وأنا أتأمل أسواره العالية وبنايته الغريبة التي تعود إلى تاريخ قديم. هنا يتخذ الطقس شكلا مختلفا، وأنا أحمل معي أصوات القيظ تتكرر في ذهني، وصوت صديقي الذي يقول: لا شيء يوحي بالحياة، ينبغي أن نعيش فقط. حتى أنا كما يقول محمود درويش عبر قصيدته: "لاشيء يعجبني"، كلما استيقظت أبدأ بالتشكي الخارج من ضلوعي كألم ينبذ كل شيء. الأجانب يتجمهرون حول مدخل المطعم، يتأملون البضائع التقليدية ويلقون كلماتهم المعتادة: أوريجنال... أوريجنال، ويرفعون وجوههم إلى السماء كي تلفحهم أشعة الشمس وتسمر أجسادهم، أما أنا فقد ورثت سنينا من الشمس، وسنينا من الحر، وهذه الكلمة التي ترن في أذني من كل فم : "لاشيء يعجبني".
تناولت الطاجين مثل السياح، وأنا أستمتع بصنبور الماء وهو يلفظ أنفاسه ويبعثها من جديد، وكأنه يولد من الأرض، وأحاول ألا أحدق كثيرا في السيدة المسنة التي تتناول الغذاء مع صديقتها، وهي تتحدث بوهج غريب صاعد من المقلتين وكأنه يعلن ميلادها في تلك اللحظة، وتقول لها وهي تقضم الأكل المغربي: " سي بون"...لكنني أنزلق معها من الكتفين الشاردين عن الطبيعة الملتحمة، وأعانق الصدر دون رغبة مني لأستقر عند شرخ عميق التأم منذ زمن. كان هذا الشرخ يبرز أثر عملية جراحية يبدو أنها للقلب، لكن هذه السيدة تنبض بالحياة، وكل شيء يعجبها هي وصديقتها، يتأملان الماء والأشجار الصغيرة والطواجين التي تختال في هذا المكان، ويتحدثان بحيوية فتيات في العشرين. لم أستطع أن أخبرهما أنه لا شيء يعجبني، ولكنني فكرت أن هذه السيدة سبق لها أن داعبت الموت بقلبها، وهي تعود للحياة ولا تشتكي، وأبدأ في عد التشكي الذي حصرته في هذا الأسبوع، أكون أنا وأصدقائي قد حصلنا على مليون تنهيدة وألف توتر ومائة تكشيرة... ويكون الزمن الذي نعيشه زمن الانفعال والغضب والأسى، ونكون قد رغبنا في تغيير أشياء كثيرة في حياتنا وأحلامنا ولم نفعل، كنا نثرثر فقط لنحمل معنا ثرثرتنا إلى الفراش وننام ونحن نشكو.
ولكنني منذ أسبوع ذهبت لإجراء مساج استرخائي، وكانت أصابعي مثقلة بشيء لست أدري ما هو، وأنا أعاتب وأشكو عدم النوم والساعة الصباحية والعمل الكثير. كانت الفتاة التي أجرت مساجها طفلة صغيرة جدا، وكنت أداعب يديها وهي تضحك ويسيل لعابها، فأعمد إلى مسحه ويمتلأ أبواها بفرح غامر وهما يقبلانها بقوة، وبسعادة لا توصف، لكنني بعد حين عرفت أنها معاقة ذهنيا وأنها هنا من أجل ترويض اليدين والقدمين حتى لا تتألم. لم أستطع أن أغض الطرف عن عيونهما الملأى بسعادة قصوى، لم يكن يخرج منهما التشكي الذي ننشره في كل مكان حتى فوق هذا الطقس، لم يكونا يظهران الألم. كانا يفرحان فقط بتلك اللحظة فقط، وكنت أشعر بالخجل: لماذا نشكو كثيرا؟ لماذا نتعب كثيرا؟ لماذا لا يعجبنا أي شيء؟ لماذا لا نشعر بسعادة اللحظة والزمن واللقطة والجزئي؟ لماذا نفكر كثيرا في الغد؟ ولماذا لا ننتهي من شرب أقراص النوم، ومضادات الاكتئاب ؟ لماذا نحمل العلب بكل الأشكال والألوان، ونتحدث عنها كما لو أننا نتحدث عن نوع العصير الذي يعجبنا، والذي سنتناوله بعد قليل؟
الشمس في مكانها تنظر إلينا، ولكن بعضنا يبتسم لها، والبعض الآخر يكشر في وجهها، وهي الشمس نفسها. نحن الذين نغيرها بعيوننا، وأنا لا أريد أن أطل عليها، أحاول أن أخرج كل الشكوى التي أحملها في صدري بدافع طقوس الحياة وأرسمها فوق الورق ثم أحرقها، وأتأمل الآخرين الذي لا يملكون قوتهم اليومي أو يئنون في المستشفيات أو يتصارعون من أجل صحن صغير وأصمت، وأحول كل الأشياء التي لا تعجبني إلى شيء يعجبني وأبدأ بي أنا أولا، لأحولني إلى شيء يعجبني وأنظر إلي في المرآة رغم بعض التجاعيد الصغيرة وأقول لي: ها أنت اليوم أفضل من البارحة.
أتذكر حديث صديقي الصباحي وأتأمل الأصدقاء وأسأل: هل نحن فعلا أصدقاء؟ ويخطر في بالي الجيران: لا أحد يريد أن يرد التحية الصباحية إلا على مضض، وأتذكر أزمنة أخرى كانت بيوت الجيران لا تقفل أبوابها وكأنها مفتوحة للآخرين، يبكون معا، ويضحكون معا، ويحزنون معا ويفرحون معا. والآن يخبىء الفرد في حقيبته دفتر شيكاته ورصيد أسراره وحقده الصغير، ونظارته للنظر عن قرب وللتطاول عن بعد، وفرديته الجميلة، وعلبه المفضلة من أقراص النوم. لا أريد أن أتأمل كل هذا التشكي الخارج من الزحام ولا أريد أن أكرر أن لا شيء يعجبني، وأتفقد يدي في الصباح تحمل كوب الماء، وتدون شيئا ما، وأصافح بها الآخرين، وأجمع شتات زمني الفردي ليصير أزمنة أخرى، وأتأمل الناس الذي يصرخون في صمت، وأحاول أن أتخيل الحرارة طقسا آخر، وأفكر أن الشمس ما زالت تضيء، وأنتظر المطر دون قلق مبالغ، وأشفق على الذين أغرقهم المطر، والذين يموتون كل يوم على أرض أوطانهم، وأنظر إلى العليل لأشفى من التشكي، وأتذكر زمن إيليا أبو ماضي وأردد معه:
أيها المشتكي وما بك داء كيف تشكو إذا غدوت عليلا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق