صلاح بو سريف
" بَيْتُكَ هُوَ قَبْرُكَ، بَيْتُكَ هُوَ حَشْرُكَ "
[النِّفَّرِيُّ]
[1]
العبارة لهايدغر. حين أَسْتَعْمِلُها هُنا، فأنا أذهبُ إليها، في سياق حديثي عن معنى " البناء" في الشِّعر.
أصبحنا اليومَ، في كثير مِمَّا نقرأ من نصوص شعرية خُصُوصاً ما يُنْشَرُ بدعوى التَّجريب، أو الكتابة، في أُفُقٍ مٌغايِرٍ، أو ما سَيُسَمِّيهِ البعض، بـ " ما بعد الحداثـة "، أو " قصيدة النثـر "، تحديداً، أمام نوع من " البنـاء "، هو ما نُسَمِّيه، وفقاً للعبارة السابقة، بـ " البناء الفارغ ".
أقصد بهذا المعنى؛ تلك الكتابة التي تخضع لِدَفْقِ الكلامِ، أي لِمَا يَنْسَابُ من كلمات، بعضُها يَجُرُّ بعضاً، ولا يُفْضِي إليه بالضَّرُورَة. فالكلامُ، هنا، يصير هو مدار النص، وهو ما يحكم " شعريتَه "، أو هو النَّصُّ، أو " البناء ".
ليس ثمَّة في النص إلاَّ هذا الكلام الذي يَسْتَدْعِي بَعْضَه؛ يترادفُ، أو يتجاوَرُ، دون أن يكونَ محكُوماً برؤية تَخُوضُ " البناء "، كأرضٍ، لِمَا هي بصدد بنائه. فالكلامُ هو شرط النص، لا البناء.
[2]
لستُ مَدْعُواً هنا، لأستحضر مفهوم البناء، كما حَدَّدَتْهُ الشعرية العربية القديمة، لعلَّ ابن رشيق كان كافياً لِيُزَوِّدَ ابن خلدون وغيره، بما آلَ إليه هذا المفهوم عنده، بناءً على ما جاءه من غيره، ومن مُقتَرَحات " القصيدة "، التي حرصت على بنائها، وأنْجَزَتْهُ نَصِّياً، أي ممارَسَةً.
الذي يَشْغَلُني هنا، هو ما تُواجِهُنِي به تلك النصوص التي أقرأها لشعراء من المغرب، كما من غيره؛ من جغرافيات عربية أخرى، من استعمالٍ للكلام، دون تَفْكِيرِ البِنَاءِ، أو وَعْيِهِ. وهذا ما سَيُفْضِي بي، وأنا أتحدَّثُ عن معنى البناء، إلى الحديث عن مفهوم آخر، مُوَازٍ، أو مُحَايِثٍٍ، بالضرورة، هو مفهوم التجريب.
[3]
التَّجريب، كما سَيُذَكِّرُنِي بذلك، الصديق القاصّ أحمد بوزفور في حوار له، هـو ما يأتـي بعد الكتابة، وليس قبلها. وهـو في ما أتصـوَّرُ، يقصد، أنَّ التجريب، هو ما يأتي بعد مُمَارَسَةٍ، تقتضي خوْض طُرُق الكتابة ومَطَبَّاتِها، أي مُزَاوَلَة المعرفة كشرطٍ، لا يُمكن للكتابة أن تَحْدُثَ دُونَه.
ليس مُمْكِناً خَوْض التَّجريب دون مَعْرِفَةٍ، أوَّلاً؛ بما تقتضيه الكتابـة كمِحَكٍّ، ومُوَاجَهَةٍ، في خِضَمِّها يَحْدُثُ التَّعَلُّمُ، وتَحْدُثُ التَّجْرِبَةُ التي تكونُ أوَّل مُنْعَرَجَات طريق التَّجريب. ألم يذهب هايدغر إلى أنَّ " كل طريق مسكون بآخَرِهِ "، أو هو، ما يُفْضِي احْتِمَالاً إلى غيره…
تجربة الشَّاعر هي إنصاتٌ، تَأمُّلٌ وقِرَاءةٌ. وهي اختبار للكتابة، ليس بالاكتفاء بما هو مُتاحٌ، بل بالبحث في كل ما يُمكنه أن يُساعِدَ على معرفة مُخْتلِف البرامج، أو المُقترَحات الشعرية، بِغَضِّ النظر عن زمان، أو مكان هذه البرامج، أو المقترحات. ما يهمّ، هو هذا الانشراح الذي يُتِيحُ للشاعر أن يَسْتَلْهِمَ أُفُقاً لِكِتَابَةٍ، رُبَّما يكونُ بدايةَ طريقٍ نحو تجريبٍ له ما يُبَرِّرُهُ.
في مثل هذا الوضع، اللغة تستحيل إلى معطىً، ضمن معطيات أخرى، كُلُّها تتدخَّلُ في " بناء " النص، وفي إنجاز خُصُوصياته، قياساً بما هو مُتَدَاوَلٌ.
إنَّ تَفْكِيرَ البِنَاء، يُعتَبَرُ شَرْطاً أساسياً من شُروط الكتابة، ليس ثمَّة ما يَحْدُثُ بالصُّدْفَة، بل ثمة ما يمكن أن يَحْدُثَ، في سياق هذا التفكير ذاته، وهو نوع من الصُّدَفِ المحكومة بشروط إنجازها وَوَعْيِها.
[4]
ما يُثِيرُ، في ما نقرأه من نصوص، تَنْتَسِبُ تَسْمِيَةً، إلى " قصيدة النثر "، هو هذا الاحتكامُ اليتيمُ للكلام. فأُنسي الحاج، مثلاً، حين كان يخُوضُ هذا النوع من الكتابـة، كان على وَعْيٍ بطبيعة ما هو مُقْدِمٌ عليه. فمقدمة ديوان " لن "، وما كتبه فيما بعد من إشارات، هنا وهناك، كلها كانت تَشِي بوعيٍ نظريٍّ، أو بتفكيرٍ في البناء، بغضِّ النظر عن مصدر هذا الوعي أو التفكير.
لم يكن أنسي الحاج يخـوض الكتابـة، كـ " لُغَـةٍ "، أو كمحاكـاة لِصُـوَرٍ و تركيباتٍ، هي ذاتُها التي تتكرَّر في تجارب غيره ممن جاؤوا قَبْلَهُ، أعني في تجربة الشعر الفرنسيّ الحديث تحديداً.
فهو كان مَحْكُوماً بتجربته هو، و بِوَعْيِ البناء الذي يخرج، في رؤيته كامِلَةً، عن شُرُوطِ بِنَاءٍ، كانت القصيدة قد أرْسَتْهُ، أو أنْهَتْ صُرُوحَ بنائه، و أسَّسَتْ له نظرياً، كما يذهبُ ابن طباطبا في " عيار الشِّعر ".
النصوص التي تَفِدُ علينا اليوم، ليست فاسِدَةً، بالمعنى الذي يضعها خارج الشِّعر. فهي، في بعض نماذجها، تَحْمِلُ في تُرْبَتِها بُذُورَ كتابةٍ لا يُمكن تجاهُلُها. لكن المشكلة توجد في كون هذه " التَّجارب "، لم تَعِ بَعْدُ شُروط بنائها، فهي كتابة بـ " بناء " فارغٍ. أو كما في عبارةٍ لابن رشيق، رغم أنَّه يذهبُ فيها إلى " المعنى " في " البيت "، فلا خير في بناء لا ساكِنَ فيه.
[5]
لا أدْعُو هنا، إلـى الامتلاء، الذي كُنتُ انْتَقَدْتُـهُ، واعْتَبَرْتُـه أحد مكـوّنات " القصيدة ". فالبناء الذي أنا بصدد الحديث عنه، هو وُجُود برنامج يحكُم بناء النص، ويُمَيِّزُهُ، باعتباره مُقْتَرَحاً شعرياً، له وعيُه النظري، وله طُرُقُه التي بها يَبْتَنِي أفق تجربته.
فابن طباطبا العلوي، مثلاً، هو أحد الذين امْتَلَكُوا وَعْـيَ البناءِ، لأنَّه كان فـي " عيار الشِّعر "، رغم سَعْيِهِ لِحَصْرِ أُسُسِ هذا البناء، يذهب إلى هذا المفهوم، انطلاقاً من الكُلِّ، أي من القصيدة، أو ما يُمكن اعتباره النَّسيجَ الكُلِّيَّ للنص.
وَعْيُ البناءِ عنده، كان شرطاً شعرياً، لا يُمْكِنُ للقصيدة أن تَحْدُثَ، أو تَكُونَ، إلاَّ بوجود " بناءٍ يُسْتَأْنَفُ مِنْهُ "، أو بوجـودِ بناءٍ " باقٍ لا يُسْـرِعُ إليه البِلَى " أو " يُخْشَى عليه التَّقَوُّضُ ".
البناءُ، وفق هذا المنظور، هو برنامج نَصِّيٌّ، و هو ما يجعلُ " القصيدة "، تكون ذات أُسُسٍ، و شعريتُها، تكون محكومة بهذه الأسس ذاتها، التي عملت الشعرية العـربية القديمة على اختـزالها في " القصيدة " كبناء ممتلئ، تَـامٍّ ومُنَتَهٍ.
[6]
في الوعي الشَّعري الحداثـي، وفي ممارسة الكتابـة المُنْتَسِبَةِ لهذا الوعي، ما يجعلُ مفهوم البناء مُرَكَّباً، أو مُتَشَعِّباً.
إذا كانت " حداثة القصيدة "، أو ما سُمِّيَ بـ " الشِّعر الحـرّ "، بَقِيَت مُخْلِصَةً لـ " القصيدة "، في أهمِّ مُكَوِّناتِها، بما فيها البيت الشعري ذاته، ولم تستطع أن تُحْدِثَ القلبَ المعرفيَ الكاملَ، مع الشِّعرية القديمة، فهي كانت، في أقلِّ تقدير، تسعى لِـ " مُسَاوَمَةِ " البناء القديم، لا تتجاوزُهُ، أو تقطع معه، لأنَّها، سواء لدى السيـاب، أو نـزار قبانـي أو أدونيس، أو صلاح عبد الصبور، أو أحمد المجاطي، أو الخمار الكنوني.. بَقِيَتْ مُفْعَمَةً بِوَتَرِ هذا البناء، و لم تستطع إحداث تلك النَّقْلَة الأساسية، التي سيصيرُ النصُّ معها مُتَشَعِّبَ البناء. مفهوم البيت ذاتُه، سيصير لاغِياً، لأنَّ الشعـرية المعاصرةَ، وخصوصاً، في ما سَمَّيْتُهُ بـ " حداثـة الكتابـة "، شَقَّت أخاديد جديـدة، وناهزت طُـرُقاً، لا عهدَ لـ " القصيدة " بها. نَصٌّ " لا يَنْفَكُّ يتَكَوَّنُ ويَتَشكَّلُ، أو يَتوسَّعُ و يزدادُ تعقيداً ".
ليس من " الرَّصانَة " في شيء، الحديث عن مَفْهُومٍ للبيت الشِّعريّ، وعن وقفاتٍ تَحْدُثُ في ارتباطٍ بهذا " البناء " ذاته! فالشعريةُ المعاصرة، في حداثة الكتابة، وَضَعَت القصيدة في سياقها الشَّفاهي، كما وضعت حداثة القصيدة، ذاتها، فـي سياق هذا البناء المُتَحَدِّرِ من وَعْـيٍ معرفيٍّ، هو غير ما آلَتْ إليه الكتابة اليوم، التي كانت القلبَ الجذريَّ لِأَوْضَاعِ الشعرية المعاصرة، وحَوَّلت النص من مُجَرَّد أصوات، أو دَالٍّ أكبر! إلى دوالّ تتفاعل بنوع من التجاوُب الذي لم تعد فيه الفراغات، أو البياضات تكفي لتحديد مكان البيت؛ مَوْقِعَه في النص، وهو ما يجعل من مفهوم القصيدة ذاته يتعرَّض للعَصْفِ، بل صار النص انْشِرَاحاً، البياضات والفراغات، هي دَوَالٌّ تُضاعِفُ من تَقَبُّلات النص، من قراءاته، كما تُضاعف شِعْرِيَتَهُ، وتخرجُ بها من البناء المُتَوَحِّدِ، إلى البناء المُتَعَدِّد، أي ما يجعل البناء يَسِيرُ وفق طبيعة التَّجربة، ووفق ما تُمْلِيهِ لحظة الكتابة، بكُلِّ مُمْكِناتِ انْشِرَاحِها.
[7]
الكتابةُ الخَطِّيَةُ لم تَعُد عُنصرَ تمييز بين " النثر " و" الشِّعر "، لأنَّ أوضاعَ هذه الكتابة، أصبحت مُتَشَعِّبَةً هي الأخرى، ولم يعد مُمْكِناً، وَصْلُ صَفْحَةٍ بأُخرى، أو عَطْفُ السابق على اللاَّحق فيها، لأنَّ كُلّ صفحة أصبحت تَمْتَلِكُ توزيعها الخاص بها، ولم يعد مُمكناً اعتبار " الكتابة الإملائية " وَحْدَها هي دالُّ هذا التـوزيع. فالنص اسْتَحـالَ إلى أراضيَ لا تَحْكُمُها مُسَلَّماتُ السَّفَـر القديـم، ولا مُسَلَّمات المفاهيم المُتَلاشِيَةِ، بل إنَّ تشعُّبات توزيعاته الخطية، وما يَحْدُثُ فيه من تَوَالُجَاتٍ، في مستوى العلاقات التي يُحْدِثُها مع مرجعياتٍ، ليست شعرية بالضرورة، أو تَنْتَسِبُ إلى " لغة الشِّعر "، كما يذهب إلى ذلك الفصل القديم بين لُغة للشِّعر وأخرى للنثر، أصبحت تَحْتَكِمُ إلى استراتيجية بناءٍ، التَّجربَةُ، بكُلِّ اشْتِبَاكاتِها، هي ما يُحَدِّدُ أفق بنائها. فنحن، على أيٍّ، أمام بنـاءٍ، لكنه ليس بِنـَاء أُسُسٍ، كما سعـى ابن طباطبا إلـى ذلك، فـي تعامُلِـهِ مـع " القصيدة "، بل بناء انشراحات وتَمَوُّجاتٍ، أو هو بالأحرى بناءً هيراقليطياً، بالمعنى الذي يُعطيه هيراقليط للشمس التي ليست هي نفسُها التي تُشْرِقُ كُلَّ يوم، أو هكذا نَتمَثَّلُها، وفق طبيعة الحالة التي نكون عليها، أقصد التجربة تحديداً.
[8]
البناء الفارغ إذن، هو كل بناء لا يَشْرِطُ الممارسة النَّصِّيَةَ بِوَعْيِ بنائِها، و هو أيضاً، كُلُّ بناءٍ ما زالَ محكوماً بـ " الأُسُسِ، أو مُقيماً في " البيت القديـم "، أو في ما يَتَرَتَّبُ عنه من تَبِعَاتٍ، لعلَّ " نظام الوَقَفات " [هكذا!] هو أحد مظاهر الأزمة التي ما تزال النظرية الشِّعرية المُعاصرة تعيشُها، لأنَّ هذه النظرية، حتى وهي تعودُ إلى " الأصول "، لم تُنْصِت بالعُمق الكافي إلى ما تستدعيه هذه الأصول ذاتُها من مرجعيات، كانت في بُعدها المعرفي، محكومة بمركزية الصوت "، وبهيمنة اللِّسان على الخط، أي على الكتابة.
أليس مفهوم البيت، و" نظام الوقفات " الذي هو من تَبِعاتِهِ، هو انعكاس لهذه المركزية التي لم نتحرَّر منها، حتى ونحن نخرجُ من وضع البيت المُقَيَّـد أو " المسكون "، وهو ما يُسَمِّيهِ النفـري بـ " القبـر "، إلى " البيت الحـرّ "، أو السَّكن المفتوح..
وَعْيُ البِنَاء، لا يُمكنُه أن يَسْتَكْمِلَ شرطه النظري، إلاَّ بوعي الكتابة، أي بوعي تلك التَّشَعُّبات التي تُحْدِثُها الكتابـة، وهي تخـرج من الصوت إلى الصفحة، أو إلى تلك الدَّوالّ التي ظلَّت بعيدةً عن وَعْيِنا، لأنَّنا لم نكن نقـرأ إلاَّ السَّواد، أو ليل " القصيدة "، حتى نبقى في سياق المفهوم القديم.
[9]
عندما كان تينيانوف يُؤكَّدُ على مفهوم " الدينامية "، فهو كان يذهبُ إلى وَعْيٍ مُغايِر. فكتابُه حول البيت الشِّعري، لم يكن نظرية حول البيت ذاته، البيت كان، عُنصر بناء، لا يمكن تحديد وضعه من خلال انفصاله، أو إفْرادِه،، بقدر ما كان شَرَيَاناً، صِلَتُه بباقي خلايا النص، هي ما يجعل منه شِعْباً، لا تَحْدُثُ الصِّلَةُ بمكوِّنات النص، أو لا يمكن لنسيجه أن يكون إفْضَاءً، بعضُه يُفضي إلى بعضه الآخر، إلاَّ بوعي هذا البعد الإفْضَائِيِّ فيه. أي ما يكونُ وَصْلاً.
حين نتَّخِذُ من مفهوم الدينامية عُنصُرَ بناء، فنحن نكون قد أتَحْنا للنص دَمَهُ الذي يَسْرِي في كُلِّ الجسد، و جعله، بالتالي، جسداً حيّاً، مُتَحَرِّكاً، أو جسداً هيراقليطياً، إذا تركنا الشمس وعُدْنَا إلى النَّهر.
[10]
الكتابة اليوم، لم تعد استجابةً لنِدَاءً قادمٍ من مجهولاتٍ ما، فالنِّداء هو إيذانُ بالشُّـروع، وبمُزاوَلَة الكتابـة، لكن وعـي الكتابـة، باعتبارها إفْضَـاءات وتَوَالُجاتٍ، لا يمكن الاحتكام في قُدُومِها، إلى الصُّدفَة وَحْدَها، هو ما يجعلنا نخوض هذا النداء بِوَعْيٍ نظريٍّ، لم يعد الشِّعر اليوم بِمَنْأًى عنه، ولم يكن، حتى من قبل، بعيداً عنه. كثيرة هي القصائد القديمة التي فَضَحَتْ بناءَها، أو وَشَتْ بوعيها النظري، ليس نَظَراً، بل ممارسةً، أي في ثنيات النص ذاتِهِ. هذا السلوك النظري الذي أصبحت الممارسة الشعرية المعاصرة تَذْهَبُ إليه، و تَخُوضُهُ كاخْتِراقٍ نظريٍّ طالَ جسد النص الشعري، واسْتَبَاحَ لُغَتَه التي كانت من قبل ترفض لغةَ المتكلِّمين والفلاسفة، أي ما ليس شعراً، وتعتبر الشِّعرَ نوعاً لا تَطَالُه الأنواع، و لغةً، لا صلة لها بالفكر، أو بـ " لغة النثر ".
إضاءة أولى
لم يعُد ممكِناً اليوم، فصل مفهوم البناء وَوَعْيِهِ، عن وَعْيِ المعمار الحديث. ثمَّة دراسات ونظريات معمارية، الاقتراب منها يُتيح لنا تَوْسيع النظر، في مفهومنا للعمارة، وللمكان بشكل عام، وللفراغات، والتجويفات، والأحجام، بشكل خاصّ. فإذا كان التشكيل الذي دَأَبَ الشُّعراء على اتِّخاذه مرجِعاً، في وَعْيِ العلاقة بالأمكنة، بالضوء والظِّلِّ، أو ما يترتَّبُ عنها من تغيير في المنظور أو الرؤية، فإنَّ ما أصبح يُتيحُه لنا المعمار، وأشكال البناء من انشراحات في النظر، وفي الاستثمار الباهر للأمكنة والفضاءات، هو أحد المنظورات الجديدة التي، في تمثُّلِها، يمكن للنص أن يَنأَى بنفسه عن البناء ذي البُعد الواحد، أو البناء الفارغ، الذي لا يُتِيحُ للقاريء أن يُضَاعِفَ من وَعْيِهِ بجهات النص، ويصبو بمنظوراتِه نحو إفضاءاتٍ لا تأسَرُ نفسها بضيق المساحة، أو الحَيِّزِ، لأنَّ طبيعة النص، حين يكون محكوماً بوَعْيِ بنائه، وبهذا النوع من الوعي المعماريّ الحديث، فهو يُوَسِّعُ من منظوراته، ويُعَدِّد أمْكِنَتَهُ، أعني بناءاته.
إضاءة ثانية
في كتاب " ثقافة البناء وبناء الثقافة "، يذهبُ ناصر الرباط إلى أنَّ " العمارة المُؤثِّرَة " هـي " العمارة المُحَمَّلة بالمعنـى بحقّ "، أو هي " العمـارة التـي لا تفرض على المتلقـي معناها بتشكيلاتها المُكتَمِلة والمُتألِّقـة والمُتَكَبِّـرَة والفائضة، بل تستدعيه إليها وتُلفِت نظره لكونها إطاراً لمجموعة من المعاني الممكنة والمُحْتَمَلَة وغير المفروضة تشكيلياً ووظيفياً.
العمارة الناجحة رمزياً ومعنوياً هي التي تقترح ولا تفـرض، التـي تُسايِرُ ولا تُجْبِرُ، والتي تُومِيءُ إلى معناها ولا تمليه إملاءً. إنها في نهاية الأمر العمارة الفاعلة التي تغوص في أعماق النفس الإنسانية وتستخلص منها أبسط الأشكال الأولية والطبيعية والمتوازنة بصريا وهندسياً، وتبني منها مجموعاً مُركَّباً مُثْقَلاً بالفراغات المتروكة خصوصا دون وظيفة ولا معنى محدّد لكي يتمكن كل متلقّ من اقتباسها لنفسه ليمنحها مدلولاته الخاصة ومعانيه الخاصة التي تجعلها في نهاية الأمر عمارته هو، مَوْئِل ذكرياته هو، مع ما هي عليه أصلاً من عمارة ذات وظائف جمعية، ومعانٍ جمعية طبعاً، وذكريات جمعية تؤدّي رسالتها من خلال تواصُلِها مع ذلك الهامش الفرديّ الخاصّ الذي بناه كل مُتَلَقّ لنفسه فيها ".
ألسنا هنا، بصدد بناءٍ ديناميّ مفتوح، عَطْفاً على ما سمَّيْناهُ قبل بالشعرية الدينامية المفتوحة، رفضاً لمفهوم الانفتاح وَحْدَهُ، الذي لا يَفِي بالصيرورة، بقدر ما هو استقرار. ففي عطف الانفتـاح على الدينامية، يكون البنـاء وفق ما يكشف عنه المفهوم المعماريّ السابق، هو إطارٌ لاحتمالاتٍ وإمكانات غير مفروضة، أو هو اقتراح يُتِيحُ للفردي، والهامشيِّ والخاصِّ، أن يَنْبَثِقَ كأُفُقٍ لبناءٍ مُنْشَرِحٍ مُتَصَيِّرٍ، مُنْبَثِقٍ باستمرار…
[النِّفَّرِيُّ]
[1]
العبارة لهايدغر. حين أَسْتَعْمِلُها هُنا، فأنا أذهبُ إليها، في سياق حديثي عن معنى " البناء" في الشِّعر.
أصبحنا اليومَ، في كثير مِمَّا نقرأ من نصوص شعرية خُصُوصاً ما يُنْشَرُ بدعوى التَّجريب، أو الكتابة، في أُفُقٍ مٌغايِرٍ، أو ما سَيُسَمِّيهِ البعض، بـ " ما بعد الحداثـة "، أو " قصيدة النثـر "، تحديداً، أمام نوع من " البنـاء "، هو ما نُسَمِّيه، وفقاً للعبارة السابقة، بـ " البناء الفارغ ".
أقصد بهذا المعنى؛ تلك الكتابة التي تخضع لِدَفْقِ الكلامِ، أي لِمَا يَنْسَابُ من كلمات، بعضُها يَجُرُّ بعضاً، ولا يُفْضِي إليه بالضَّرُورَة. فالكلامُ، هنا، يصير هو مدار النص، وهو ما يحكم " شعريتَه "، أو هو النَّصُّ، أو " البناء ".
ليس ثمَّة في النص إلاَّ هذا الكلام الذي يَسْتَدْعِي بَعْضَه؛ يترادفُ، أو يتجاوَرُ، دون أن يكونَ محكُوماً برؤية تَخُوضُ " البناء "، كأرضٍ، لِمَا هي بصدد بنائه. فالكلامُ هو شرط النص، لا البناء.
[2]
لستُ مَدْعُواً هنا، لأستحضر مفهوم البناء، كما حَدَّدَتْهُ الشعرية العربية القديمة، لعلَّ ابن رشيق كان كافياً لِيُزَوِّدَ ابن خلدون وغيره، بما آلَ إليه هذا المفهوم عنده، بناءً على ما جاءه من غيره، ومن مُقتَرَحات " القصيدة "، التي حرصت على بنائها، وأنْجَزَتْهُ نَصِّياً، أي ممارَسَةً.
الذي يَشْغَلُني هنا، هو ما تُواجِهُنِي به تلك النصوص التي أقرأها لشعراء من المغرب، كما من غيره؛ من جغرافيات عربية أخرى، من استعمالٍ للكلام، دون تَفْكِيرِ البِنَاءِ، أو وَعْيِهِ. وهذا ما سَيُفْضِي بي، وأنا أتحدَّثُ عن معنى البناء، إلى الحديث عن مفهوم آخر، مُوَازٍ، أو مُحَايِثٍٍ، بالضرورة، هو مفهوم التجريب.
[3]
التَّجريب، كما سَيُذَكِّرُنِي بذلك، الصديق القاصّ أحمد بوزفور في حوار له، هـو ما يأتـي بعد الكتابة، وليس قبلها. وهـو في ما أتصـوَّرُ، يقصد، أنَّ التجريب، هو ما يأتي بعد مُمَارَسَةٍ، تقتضي خوْض طُرُق الكتابة ومَطَبَّاتِها، أي مُزَاوَلَة المعرفة كشرطٍ، لا يُمكن للكتابة أن تَحْدُثَ دُونَه.
ليس مُمْكِناً خَوْض التَّجريب دون مَعْرِفَةٍ، أوَّلاً؛ بما تقتضيه الكتابـة كمِحَكٍّ، ومُوَاجَهَةٍ، في خِضَمِّها يَحْدُثُ التَّعَلُّمُ، وتَحْدُثُ التَّجْرِبَةُ التي تكونُ أوَّل مُنْعَرَجَات طريق التَّجريب. ألم يذهب هايدغر إلى أنَّ " كل طريق مسكون بآخَرِهِ "، أو هو، ما يُفْضِي احْتِمَالاً إلى غيره…
تجربة الشَّاعر هي إنصاتٌ، تَأمُّلٌ وقِرَاءةٌ. وهي اختبار للكتابة، ليس بالاكتفاء بما هو مُتاحٌ، بل بالبحث في كل ما يُمكنه أن يُساعِدَ على معرفة مُخْتلِف البرامج، أو المُقترَحات الشعرية، بِغَضِّ النظر عن زمان، أو مكان هذه البرامج، أو المقترحات. ما يهمّ، هو هذا الانشراح الذي يُتِيحُ للشاعر أن يَسْتَلْهِمَ أُفُقاً لِكِتَابَةٍ، رُبَّما يكونُ بدايةَ طريقٍ نحو تجريبٍ له ما يُبَرِّرُهُ.
في مثل هذا الوضع، اللغة تستحيل إلى معطىً، ضمن معطيات أخرى، كُلُّها تتدخَّلُ في " بناء " النص، وفي إنجاز خُصُوصياته، قياساً بما هو مُتَدَاوَلٌ.
إنَّ تَفْكِيرَ البِنَاء، يُعتَبَرُ شَرْطاً أساسياً من شُروط الكتابة، ليس ثمَّة ما يَحْدُثُ بالصُّدْفَة، بل ثمة ما يمكن أن يَحْدُثَ، في سياق هذا التفكير ذاته، وهو نوع من الصُّدَفِ المحكومة بشروط إنجازها وَوَعْيِها.
[4]
ما يُثِيرُ، في ما نقرأه من نصوص، تَنْتَسِبُ تَسْمِيَةً، إلى " قصيدة النثر "، هو هذا الاحتكامُ اليتيمُ للكلام. فأُنسي الحاج، مثلاً، حين كان يخُوضُ هذا النوع من الكتابـة، كان على وَعْيٍ بطبيعة ما هو مُقْدِمٌ عليه. فمقدمة ديوان " لن "، وما كتبه فيما بعد من إشارات، هنا وهناك، كلها كانت تَشِي بوعيٍ نظريٍّ، أو بتفكيرٍ في البناء، بغضِّ النظر عن مصدر هذا الوعي أو التفكير.
لم يكن أنسي الحاج يخـوض الكتابـة، كـ " لُغَـةٍ "، أو كمحاكـاة لِصُـوَرٍ و تركيباتٍ، هي ذاتُها التي تتكرَّر في تجارب غيره ممن جاؤوا قَبْلَهُ، أعني في تجربة الشعر الفرنسيّ الحديث تحديداً.
فهو كان مَحْكُوماً بتجربته هو، و بِوَعْيِ البناء الذي يخرج، في رؤيته كامِلَةً، عن شُرُوطِ بِنَاءٍ، كانت القصيدة قد أرْسَتْهُ، أو أنْهَتْ صُرُوحَ بنائه، و أسَّسَتْ له نظرياً، كما يذهبُ ابن طباطبا في " عيار الشِّعر ".
النصوص التي تَفِدُ علينا اليوم، ليست فاسِدَةً، بالمعنى الذي يضعها خارج الشِّعر. فهي، في بعض نماذجها، تَحْمِلُ في تُرْبَتِها بُذُورَ كتابةٍ لا يُمكن تجاهُلُها. لكن المشكلة توجد في كون هذه " التَّجارب "، لم تَعِ بَعْدُ شُروط بنائها، فهي كتابة بـ " بناء " فارغٍ. أو كما في عبارةٍ لابن رشيق، رغم أنَّه يذهبُ فيها إلى " المعنى " في " البيت "، فلا خير في بناء لا ساكِنَ فيه.
[5]
لا أدْعُو هنا، إلـى الامتلاء، الذي كُنتُ انْتَقَدْتُـهُ، واعْتَبَرْتُـه أحد مكـوّنات " القصيدة ". فالبناء الذي أنا بصدد الحديث عنه، هو وُجُود برنامج يحكُم بناء النص، ويُمَيِّزُهُ، باعتباره مُقْتَرَحاً شعرياً، له وعيُه النظري، وله طُرُقُه التي بها يَبْتَنِي أفق تجربته.
فابن طباطبا العلوي، مثلاً، هو أحد الذين امْتَلَكُوا وَعْـيَ البناءِ، لأنَّه كان فـي " عيار الشِّعر "، رغم سَعْيِهِ لِحَصْرِ أُسُسِ هذا البناء، يذهب إلى هذا المفهوم، انطلاقاً من الكُلِّ، أي من القصيدة، أو ما يُمكن اعتباره النَّسيجَ الكُلِّيَّ للنص.
وَعْيُ البناءِ عنده، كان شرطاً شعرياً، لا يُمْكِنُ للقصيدة أن تَحْدُثَ، أو تَكُونَ، إلاَّ بوجود " بناءٍ يُسْتَأْنَفُ مِنْهُ "، أو بوجـودِ بناءٍ " باقٍ لا يُسْـرِعُ إليه البِلَى " أو " يُخْشَى عليه التَّقَوُّضُ ".
البناءُ، وفق هذا المنظور، هو برنامج نَصِّيٌّ، و هو ما يجعلُ " القصيدة "، تكون ذات أُسُسٍ، و شعريتُها، تكون محكومة بهذه الأسس ذاتها، التي عملت الشعرية العـربية القديمة على اختـزالها في " القصيدة " كبناء ممتلئ، تَـامٍّ ومُنَتَهٍ.
[6]
في الوعي الشَّعري الحداثـي، وفي ممارسة الكتابـة المُنْتَسِبَةِ لهذا الوعي، ما يجعلُ مفهوم البناء مُرَكَّباً، أو مُتَشَعِّباً.
إذا كانت " حداثة القصيدة "، أو ما سُمِّيَ بـ " الشِّعر الحـرّ "، بَقِيَت مُخْلِصَةً لـ " القصيدة "، في أهمِّ مُكَوِّناتِها، بما فيها البيت الشعري ذاته، ولم تستطع أن تُحْدِثَ القلبَ المعرفيَ الكاملَ، مع الشِّعرية القديمة، فهي كانت، في أقلِّ تقدير، تسعى لِـ " مُسَاوَمَةِ " البناء القديم، لا تتجاوزُهُ، أو تقطع معه، لأنَّها، سواء لدى السيـاب، أو نـزار قبانـي أو أدونيس، أو صلاح عبد الصبور، أو أحمد المجاطي، أو الخمار الكنوني.. بَقِيَتْ مُفْعَمَةً بِوَتَرِ هذا البناء، و لم تستطع إحداث تلك النَّقْلَة الأساسية، التي سيصيرُ النصُّ معها مُتَشَعِّبَ البناء. مفهوم البيت ذاتُه، سيصير لاغِياً، لأنَّ الشعـرية المعاصرةَ، وخصوصاً، في ما سَمَّيْتُهُ بـ " حداثـة الكتابـة "، شَقَّت أخاديد جديـدة، وناهزت طُـرُقاً، لا عهدَ لـ " القصيدة " بها. نَصٌّ " لا يَنْفَكُّ يتَكَوَّنُ ويَتَشكَّلُ، أو يَتوسَّعُ و يزدادُ تعقيداً ".
ليس من " الرَّصانَة " في شيء، الحديث عن مَفْهُومٍ للبيت الشِّعريّ، وعن وقفاتٍ تَحْدُثُ في ارتباطٍ بهذا " البناء " ذاته! فالشعريةُ المعاصرة، في حداثة الكتابة، وَضَعَت القصيدة في سياقها الشَّفاهي، كما وضعت حداثة القصيدة، ذاتها، فـي سياق هذا البناء المُتَحَدِّرِ من وَعْـيٍ معرفيٍّ، هو غير ما آلَتْ إليه الكتابة اليوم، التي كانت القلبَ الجذريَّ لِأَوْضَاعِ الشعرية المعاصرة، وحَوَّلت النص من مُجَرَّد أصوات، أو دَالٍّ أكبر! إلى دوالّ تتفاعل بنوع من التجاوُب الذي لم تعد فيه الفراغات، أو البياضات تكفي لتحديد مكان البيت؛ مَوْقِعَه في النص، وهو ما يجعل من مفهوم القصيدة ذاته يتعرَّض للعَصْفِ، بل صار النص انْشِرَاحاً، البياضات والفراغات، هي دَوَالٌّ تُضاعِفُ من تَقَبُّلات النص، من قراءاته، كما تُضاعف شِعْرِيَتَهُ، وتخرجُ بها من البناء المُتَوَحِّدِ، إلى البناء المُتَعَدِّد، أي ما يجعل البناء يَسِيرُ وفق طبيعة التَّجربة، ووفق ما تُمْلِيهِ لحظة الكتابة، بكُلِّ مُمْكِناتِ انْشِرَاحِها.
[7]
الكتابةُ الخَطِّيَةُ لم تَعُد عُنصرَ تمييز بين " النثر " و" الشِّعر "، لأنَّ أوضاعَ هذه الكتابة، أصبحت مُتَشَعِّبَةً هي الأخرى، ولم يعد مُمْكِناً، وَصْلُ صَفْحَةٍ بأُخرى، أو عَطْفُ السابق على اللاَّحق فيها، لأنَّ كُلّ صفحة أصبحت تَمْتَلِكُ توزيعها الخاص بها، ولم يعد مُمكناً اعتبار " الكتابة الإملائية " وَحْدَها هي دالُّ هذا التـوزيع. فالنص اسْتَحـالَ إلى أراضيَ لا تَحْكُمُها مُسَلَّماتُ السَّفَـر القديـم، ولا مُسَلَّمات المفاهيم المُتَلاشِيَةِ، بل إنَّ تشعُّبات توزيعاته الخطية، وما يَحْدُثُ فيه من تَوَالُجَاتٍ، في مستوى العلاقات التي يُحْدِثُها مع مرجعياتٍ، ليست شعرية بالضرورة، أو تَنْتَسِبُ إلى " لغة الشِّعر "، كما يذهب إلى ذلك الفصل القديم بين لُغة للشِّعر وأخرى للنثر، أصبحت تَحْتَكِمُ إلى استراتيجية بناءٍ، التَّجربَةُ، بكُلِّ اشْتِبَاكاتِها، هي ما يُحَدِّدُ أفق بنائها. فنحن، على أيٍّ، أمام بنـاءٍ، لكنه ليس بِنـَاء أُسُسٍ، كما سعـى ابن طباطبا إلـى ذلك، فـي تعامُلِـهِ مـع " القصيدة "، بل بناء انشراحات وتَمَوُّجاتٍ، أو هو بالأحرى بناءً هيراقليطياً، بالمعنى الذي يُعطيه هيراقليط للشمس التي ليست هي نفسُها التي تُشْرِقُ كُلَّ يوم، أو هكذا نَتمَثَّلُها، وفق طبيعة الحالة التي نكون عليها، أقصد التجربة تحديداً.
[8]
البناء الفارغ إذن، هو كل بناء لا يَشْرِطُ الممارسة النَّصِّيَةَ بِوَعْيِ بنائِها، و هو أيضاً، كُلُّ بناءٍ ما زالَ محكوماً بـ " الأُسُسِ، أو مُقيماً في " البيت القديـم "، أو في ما يَتَرَتَّبُ عنه من تَبِعَاتٍ، لعلَّ " نظام الوَقَفات " [هكذا!] هو أحد مظاهر الأزمة التي ما تزال النظرية الشِّعرية المُعاصرة تعيشُها، لأنَّ هذه النظرية، حتى وهي تعودُ إلى " الأصول "، لم تُنْصِت بالعُمق الكافي إلى ما تستدعيه هذه الأصول ذاتُها من مرجعيات، كانت في بُعدها المعرفي، محكومة بمركزية الصوت "، وبهيمنة اللِّسان على الخط، أي على الكتابة.
أليس مفهوم البيت، و" نظام الوقفات " الذي هو من تَبِعاتِهِ، هو انعكاس لهذه المركزية التي لم نتحرَّر منها، حتى ونحن نخرجُ من وضع البيت المُقَيَّـد أو " المسكون "، وهو ما يُسَمِّيهِ النفـري بـ " القبـر "، إلى " البيت الحـرّ "، أو السَّكن المفتوح..
وَعْيُ البِنَاء، لا يُمكنُه أن يَسْتَكْمِلَ شرطه النظري، إلاَّ بوعي الكتابة، أي بوعي تلك التَّشَعُّبات التي تُحْدِثُها الكتابـة، وهي تخـرج من الصوت إلى الصفحة، أو إلى تلك الدَّوالّ التي ظلَّت بعيدةً عن وَعْيِنا، لأنَّنا لم نكن نقـرأ إلاَّ السَّواد، أو ليل " القصيدة "، حتى نبقى في سياق المفهوم القديم.
[9]
عندما كان تينيانوف يُؤكَّدُ على مفهوم " الدينامية "، فهو كان يذهبُ إلى وَعْيٍ مُغايِر. فكتابُه حول البيت الشِّعري، لم يكن نظرية حول البيت ذاته، البيت كان، عُنصر بناء، لا يمكن تحديد وضعه من خلال انفصاله، أو إفْرادِه،، بقدر ما كان شَرَيَاناً، صِلَتُه بباقي خلايا النص، هي ما يجعل منه شِعْباً، لا تَحْدُثُ الصِّلَةُ بمكوِّنات النص، أو لا يمكن لنسيجه أن يكون إفْضَاءً، بعضُه يُفضي إلى بعضه الآخر، إلاَّ بوعي هذا البعد الإفْضَائِيِّ فيه. أي ما يكونُ وَصْلاً.
حين نتَّخِذُ من مفهوم الدينامية عُنصُرَ بناء، فنحن نكون قد أتَحْنا للنص دَمَهُ الذي يَسْرِي في كُلِّ الجسد، و جعله، بالتالي، جسداً حيّاً، مُتَحَرِّكاً، أو جسداً هيراقليطياً، إذا تركنا الشمس وعُدْنَا إلى النَّهر.
[10]
الكتابة اليوم، لم تعد استجابةً لنِدَاءً قادمٍ من مجهولاتٍ ما، فالنِّداء هو إيذانُ بالشُّـروع، وبمُزاوَلَة الكتابـة، لكن وعـي الكتابـة، باعتبارها إفْضَـاءات وتَوَالُجاتٍ، لا يمكن الاحتكام في قُدُومِها، إلى الصُّدفَة وَحْدَها، هو ما يجعلنا نخوض هذا النداء بِوَعْيٍ نظريٍّ، لم يعد الشِّعر اليوم بِمَنْأًى عنه، ولم يكن، حتى من قبل، بعيداً عنه. كثيرة هي القصائد القديمة التي فَضَحَتْ بناءَها، أو وَشَتْ بوعيها النظري، ليس نَظَراً، بل ممارسةً، أي في ثنيات النص ذاتِهِ. هذا السلوك النظري الذي أصبحت الممارسة الشعرية المعاصرة تَذْهَبُ إليه، و تَخُوضُهُ كاخْتِراقٍ نظريٍّ طالَ جسد النص الشعري، واسْتَبَاحَ لُغَتَه التي كانت من قبل ترفض لغةَ المتكلِّمين والفلاسفة، أي ما ليس شعراً، وتعتبر الشِّعرَ نوعاً لا تَطَالُه الأنواع، و لغةً، لا صلة لها بالفكر، أو بـ " لغة النثر ".
إضاءة أولى
لم يعُد ممكِناً اليوم، فصل مفهوم البناء وَوَعْيِهِ، عن وَعْيِ المعمار الحديث. ثمَّة دراسات ونظريات معمارية، الاقتراب منها يُتيح لنا تَوْسيع النظر، في مفهومنا للعمارة، وللمكان بشكل عام، وللفراغات، والتجويفات، والأحجام، بشكل خاصّ. فإذا كان التشكيل الذي دَأَبَ الشُّعراء على اتِّخاذه مرجِعاً، في وَعْيِ العلاقة بالأمكنة، بالضوء والظِّلِّ، أو ما يترتَّبُ عنها من تغيير في المنظور أو الرؤية، فإنَّ ما أصبح يُتيحُه لنا المعمار، وأشكال البناء من انشراحات في النظر، وفي الاستثمار الباهر للأمكنة والفضاءات، هو أحد المنظورات الجديدة التي، في تمثُّلِها، يمكن للنص أن يَنأَى بنفسه عن البناء ذي البُعد الواحد، أو البناء الفارغ، الذي لا يُتِيحُ للقاريء أن يُضَاعِفَ من وَعْيِهِ بجهات النص، ويصبو بمنظوراتِه نحو إفضاءاتٍ لا تأسَرُ نفسها بضيق المساحة، أو الحَيِّزِ، لأنَّ طبيعة النص، حين يكون محكوماً بوَعْيِ بنائه، وبهذا النوع من الوعي المعماريّ الحديث، فهو يُوَسِّعُ من منظوراته، ويُعَدِّد أمْكِنَتَهُ، أعني بناءاته.
إضاءة ثانية
في كتاب " ثقافة البناء وبناء الثقافة "، يذهبُ ناصر الرباط إلى أنَّ " العمارة المُؤثِّرَة " هـي " العمارة المُحَمَّلة بالمعنـى بحقّ "، أو هي " العمـارة التـي لا تفرض على المتلقـي معناها بتشكيلاتها المُكتَمِلة والمُتألِّقـة والمُتَكَبِّـرَة والفائضة، بل تستدعيه إليها وتُلفِت نظره لكونها إطاراً لمجموعة من المعاني الممكنة والمُحْتَمَلَة وغير المفروضة تشكيلياً ووظيفياً.
العمارة الناجحة رمزياً ومعنوياً هي التي تقترح ولا تفـرض، التـي تُسايِرُ ولا تُجْبِرُ، والتي تُومِيءُ إلى معناها ولا تمليه إملاءً. إنها في نهاية الأمر العمارة الفاعلة التي تغوص في أعماق النفس الإنسانية وتستخلص منها أبسط الأشكال الأولية والطبيعية والمتوازنة بصريا وهندسياً، وتبني منها مجموعاً مُركَّباً مُثْقَلاً بالفراغات المتروكة خصوصا دون وظيفة ولا معنى محدّد لكي يتمكن كل متلقّ من اقتباسها لنفسه ليمنحها مدلولاته الخاصة ومعانيه الخاصة التي تجعلها في نهاية الأمر عمارته هو، مَوْئِل ذكرياته هو، مع ما هي عليه أصلاً من عمارة ذات وظائف جمعية، ومعانٍ جمعية طبعاً، وذكريات جمعية تؤدّي رسالتها من خلال تواصُلِها مع ذلك الهامش الفرديّ الخاصّ الذي بناه كل مُتَلَقّ لنفسه فيها ".
ألسنا هنا، بصدد بناءٍ ديناميّ مفتوح، عَطْفاً على ما سمَّيْناهُ قبل بالشعرية الدينامية المفتوحة، رفضاً لمفهوم الانفتاح وَحْدَهُ، الذي لا يَفِي بالصيرورة، بقدر ما هو استقرار. ففي عطف الانفتـاح على الدينامية، يكون البنـاء وفق ما يكشف عنه المفهوم المعماريّ السابق، هو إطارٌ لاحتمالاتٍ وإمكانات غير مفروضة، أو هو اقتراح يُتِيحُ للفردي، والهامشيِّ والخاصِّ، أن يَنْبَثِقَ كأُفُقٍ لبناءٍ مُنْشَرِحٍ مُتَصَيِّرٍ، مُنْبَثِقٍ باستمرار…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق