مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

السبت، 18 يونيو 2011

الوشم : نصّ لطيفة لبصير .

كانت خطوط الوشم الدقيقة على ذراعه تعيدني إلى أزمنة غابرة، بقيت أحدق في ذلك الشاب الذي وضع الكؤوس على المائدة الصغيرة وفوق أظافره استقر طلاء أحمر أنيق. تأملته جيدا، إنه فتى وليس فتاة، هذا ما تخيلته بعد أن عاد إلى مكانه. كانت مقهى "القارب الثمل" ثملة كالعادة، حتى بالنسبة لمن لا يشربون الكؤوس. قال لي أحد الأصدقاء: هل تعرفين أن هذه المقهى تحمل اسم قصيدة رائعة لرامبو. كنت أعرف هذه القصيدة، وأعرف أن لها شهرة لم تنلها حين أنشدها الشاعر، بل بقيت لعقود من الزمن حتى اكتشفها شعراء سورياليون فكوا طلاسمها، فاشتهرت بعد صمت رامبو لسنوات طويلة، وحملت العديد من الأماكن اسمها مثل مطعم باريسي. كنت منشغلة أبحث في الوجوه عن شيء ما... عن عواطف الألمان الباردة التي تنقلها الكتب والصحف، لكنني لم أعثر على شيء ما، كل ما أدركته أنهم يتحدثون بهدوء تام، وهم يحدقون في بعضهم البعض، سواء من نفس الجنس أو من جنس مختلف. كانوا يشربون كؤوس البيرة العملاقة التي تعادل أحجامهم الممتدة أيضا، وكانوا يدخنون في الخارج وكأنهم منبوذون من الداخل. أتخيل أنهم سيثورون يوما ما على هذا الطرد للمدخنين، وأستعيد مقاهينا ومطاعمنا التي ما زالت ضاجة بالسجائر التي لا تنتهي. كان المكان يترنح ويتهادى، الأذرع الموشومة كثيرة جدا، ذلك الوشم الذي لا ينمحي، وأغرق في الوشم، وأرى جدتي التي كانت تحاول جاهدة محو ذلك الوشم الذي كان يربطها بعالم قديم. كانت تقول إنها لم تعد ترغب به، وتريد أن تصبح امرأة من زمنها، خاصة بعد أن زال النقاب الكلاسيكي. كانت جدتي قد استعملت جميع الوسائل التقليدية لمحو أثره حتى كادت أن تثقب الجلد، لينتفخ جلدها وتنام لفترة طويلة وهي تعاني من أثر الوشم على الجسد، وبعد أن زال الظاهر بقي الأثر الذي لا ينمحي موشوما إلى الأبد. كانت تلعن التقاليد التي جعلت الجدات يرسمن أشكالا متعددة من الوشم على أجسادهن...تخيلت لو كانت جدتي في هذا القارب الثمل وشاهدت حجم الأوشام على الأجساد وهم يتباهون بذلك، فماذا كانت ستقول؟ أشياء كثيرة لا يمكن أن تفسرها. السيدة التي كانت تجاور مائدتنا تهدهد كلبة صغيرة جدا، حملتها بعطف بالغ وهي تقبل فمها الأسود. كانت الكلبة مرتدية كسوة خضراء جميلة، وكانت السيدة وهي تحادث رفيقها تضع أصبعها في البيرة وتقدمه للكلبة التي تلحس أصبعها وتعيده إلى كأس البيرة وهي تراوح بين فمها وفم الكلبة الصغيرة. ماذا لو رأت جدتي هذا المشهد، لا شك كانت ستعيد الوشم إلى مكانه، وستلبس كل الكلاب الصعاليك ملابس جديدة للاحتفاء بأجسادهم المنهكة.
كنت أهرب من الوشم الذي كان بداخلي، كان يستعاد كل حين، وكنت في كل مرة أرى نقوشه وقد ازدادت في الحفر، وكنت أغيب تماما وأنا أستعيد مشاهد السنوات الماضية الأليمة، كانوا يغيبون تماما عنا هؤلاء الذين نحبهم بعمق، يختطفهم الموت فجأة، ينسحبون ليتركوننا للأثر، الأثر الذي لا ينمحي من القلب، هل كانت الوديان ستنزلني حيث شئت كما يقول رامبو؟
لم تكن الوديان تنزل إلا حيث شاءت، كنت أبحث عن عينيه وسط الجموع. كان دافئا جدا، مرهقا بعذوبة صغيرة، ينظر إلي من بين ترنحات الآخرين، لم يكن يمسك بأي قارب صلب. كان ثملا منذ البداية التي التقينا فيها، وكان يحدثني بوشوشة غابرة، واختفى وسط الظل، ليغيب تماما عن السنوات القادمة، وكنت أودع العام تلو العام وأنا أقتفي أثره مثل الوشم الساكن في قلبي. أتخيل أننا بعد أيام سنودع السنة القديمة إلى سنة جديدة تماما، وتتحول كل الأشياء والصور والأحاسيس إلى وشم لا ينمحي لتزيدها عتاقة الزمن حلاوة. عما قريب سأبدأ في رسم وشم آخر، وكلما ازداد عتاقته انحفر في داخلي إلى الأبد.
كان رامبو يردد قصيدته في هذا القارب الثمل وهو حيران في رقدته الأبدية:"أين ترى أحيانا| غريقا شارد الذهن| تلفه هالة صفراء| ممتقعة| يرسب إلى القاع| وهو مسرور."
وكأن الغرق والفرح لا يجتمعان، لكنهما يتجاوران حتما في ظل هذا القارب الثمل الذي نترنح فوقه ونحن في خضم الحياة بين الرغبة في النجاة والغرق الأخير، ولكن بينهما كانت الصور تنعاش بشكل آخر مختلف تماما، وعلي أن أبدأ بصرفها لصالحي، بقيت أستعذب كل الأشياء التي ابتعدت عنها وأوقظها كي تنتعش قليلا من النشوة وكي تطل معي فجر عام آخر، ورأيته هناك... كان يقف وحيدا، وكان ينظر إلي بعمق جميل، وكان يردد أحد المقاطع اللذيذة لقصيدة أبي القاسم الشابي:" أنت لم تخلقي ليقربك الناس، ولكن لتعبدي من بعيد..." ثم رحل.

أفقت وأنا أستحضر كل المقاطع الجميلة التي استعذبتها في زمني والتي وشمت حياتي للأبد، وأعدتها إلي كي أستقبل بها قاربا آخر يترنح كل عام، يبحث بذهول وسط الأهوال عن أصوات أخرى ترافقه في العام القادم وتجاور حياته ورغبته للأبد.
أشكال كثيرة وصور توشم حياتنا بلا نهاية، ننساها في بعض الأحيان ثم نعود لتذكرها كلما هبت أغنية تعيدها إلى الحياة، وكلما ازددنا بعدا عن الذاكرة حاولنا أن نعيدها إلينا وكأننا نخشى عليها أن تمحو الأثر الذي نرغبه. لا نريد أن تغيب الآثار القديمة عن أجسادنا التي تتغير يوما عن يوم... وحتما نرغب أن نتمايل قليلا فوق قواربنا التي لا تنتهي.

ليست هناك تعليقات: