كنتَ تعرفُُها, إنها هي التي سقتك ماءً مثلجاً حين طرقتَ بابها قبلَ عقدين في مدينة حمص وكنتَ تنزفُ عرقاً تموزيّاً , بل دعتك إلى بيتها حين عرفتك غريباً : (غريب الوجه واليد واللسان), وها هي المرأةُ نفسُها تطرق بابكَ وابنُها خلفها يجرجرُ انكسارات مدينة حمص كلها , هي امرأة المعنى وصورةُ الانتهاك والفقر و المجاعة ولوعة الغياب : غياب الزوج و الأخ والأب والجار.ماذا ستقدّم لها وهي التي سقتك زمزماً فيّاضاً وكنتَ بحاجة إلى قطرة ماء (ولو مسمومة)؟
لم تسألْها عن مدينتها , وماذا تفعل هنا في هذا الشمال الشرقيّ البائس والمطعون ؟ ولم تسألها عمّا وعمّنْ أتى بها إلى شمالنا الآمن والمغيّب ؟
تعرفُ تفاصيل تلك المرأة مجازاً وحاضراً وسابقاً , وتعرفُ (فتحة حمص) حين تهبُّ صيفاً وشتاءً ومشاوير الفتيات والنسوة المرحات في شوارع مشجّرة وحدائق غنّاء , هذا ما تعرفُه عن هذه المرأة التي تحمل رائحة مدينتها , وكان يجب أنْ تكون في نفس الشارع و الشجروالحديقة في هذا الوقت بالذات .
لكنْ مَنْ سيعيدُها إلى مهبط روحها ؟ و مَنْ سيعيدُ شهداءها : الزوج والأخ و الأب والجار ؟.
المرأةُ – السوادُ تطرقُ باباً خشبيّاً منهاراً ... فمحلّاً خاوياً ...فشارعاً مزدحماً بالفراغ ...فمدينةً غادرتْها الأرواحُ .
هل تقبلُ امرأةُ السواد منكَ : مرحباً بكِ يا مَنْ دخلتِ ذليلةً , فأقيمي بيننا كريمة المعشر , طيّبة رائحة الشهداء وهي تفورُ من يديك ؟
........
سألتُ الصبيّ الذي يرافقها وهو مهلهلُ الثياب والملامح والروح : من أين أنت ؟ أجابني متقطّعاً ومشتاقاً : ح – م – ص – البياضة . لا أملك يا أيّها الصبيّ النقيّ ويا أمَّه إلا أنْ نقول : فيا ويلتاه علينا يا امرأة أتتنا : غريبة الوجه واليد واللسان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق