مصطفى النفيسي .
يعتبر المبدع عبداللطيف الحسيني أحد أعلام الكتابة الجديدة الموسومة بالحلم والإنصات لإيقاع الحياة. كتابة مختلفة تؤرخ لهشاشة الإنسان.وهي كتابة أشبه بالمغامرة.لأنني أتخيله وكأنه يمسك بريشة ويحاول رسم مشاعره ومشاعر الآخرين،أو بالأحرى القبض على تلك المشاعر بلطف شديد ووضعها في لوحة جميلة.كيف تصبح حيواتنا وحيوات الآخرين ممكنة داخل نص؟ أليست الكتابة نوع من العيش داخل نص؟ حينما تعرفتُ على نصوص عبد اللطيف الحسيني-وهي بالمناسبة نصوص باذخة كحدائق أندلسية-وجدت أن كتابته شديدة الوفاء لشيء اسمه الألم،وذلك ليس من خلال الانهزام أمامه بل عن طريق تجاوزه وتدميره بكلمات لا تترك مجالا للشك في قيمتها الإبداعية.كلمات كالجمر لا يمكن الإمساك بها بل تظل مستعصية وهاربة. ولكن لماذا الألم تحديدا؟ إن الألم هو الإنسان عند عبد اللطيف الحسيني.الألم ماهية الكانسان.الألم هو ساحة للركض لا تنتهي أبدا.ساحة لا تحتمل المزيفين أوعشاق جلسات التجميل.الألم هو الصوت الجميل الذي يطلقه الكائن الإنساني النبيل.لذلك نجده يكتب وهو يؤمن بأن أي كتابة متعالية وموغلة في وحل التخفي ستكون عبارة عن فقاقيع صابون ذات الانفجار المكتوم الصوت والمبتذل. إنه يتوخى الكتابة الجادة والرصينة إن لم أقل الملتزمة والمحايثة لكل ما هو إنساني.إنها كتابة أشبه بالوشم على جسد.كتابة ذات أثر وصدى. ولكن لماذا الألم مرة أخرى؟ إنه النتوء الكبير في حياة أشبه بستارة أبلتها السنين.حياة متمنعة كلوحة كئيبة في جدار عال.وهذا هو ما يجعل المبدع عبد اللطيف الحسيني يسعى دوما إلى تدمير الألم داخل نصوصه ليخلق فرحا آخر.فرحا باطنيا غير مرئي.لا يحسه إلا من جرب لعبة الكتابة. إن الكتابة عند عبد اللطيف الحسيني ليست بالكتابة السهلة ،بل هو يكتب بحذر شديد وبتقتير كأنني به يخاف أن يقع في مستنقع التكرار والابتذال.يبني نصوصه بتؤدة وتركيز.لذلك تجد نصوصه أشبه بزنابق صغيرة،لكن بعطر فواح مسرف في الجمال. نجده يقول مثلا في نصه "لقطة":
"يَرمي شَوكةً في الطريق , فتتكاثرُ الأشواكُ في أيّ طريق تشاء : ذاك أنا حينَ أجرُّ الطرقَ خلفي وأنا ألهثُ , فتسقطُ مني أصواتي لأعودَ كمَنْ يلتقطُ كلَّ حبّات الرّمال طوَالَ الحياة. تلك حروفُ اسمِهِ تبعثرتْ , ولم يبقَ فيهِ احتمالٌ ليجمعَها , كلُّ مَنْ مرَّ بها سرقَ حرفاً , فبقيَ يتيماً : ذاكَ أنَا حينَ أمرُّ و يناديني أطفالُ حارتنا من فوق الجدران" وهو نموذج واضح للخواء الذي يلف عالما أصبح كفوهة بندقية صدئة. كما نجد عنده نوعا من الحنين مشوبا بالألم إلى أمكنة بعينها.حيث نجده يقول مثلا في نصه "النهر":"كأنّي أتنفّسُهُ، أتنفّسُ جحيماً حينَ أذكرُهُ، كأنّ أفعىً نفخَتْ في ترابٍ فجاء على شكل منعطف يرمي الصبيةُ فيه شغباً ألتقطُهُ قبلَ أنْ يُرمى .أيّها النهرُ: أينَ خبّأتَ كلَّ هذي الظّلال التي مرّتْ بكَ أو مررْتَ بها فسحبْتَها إلى شهيقكَ ."وهنا كما يبدو ليس النهر في حد ذاته ما يعنيه ككاتب.بل هو عالم الطفولة الذي تبخر كما تتبخر حبة نفتالين.عالم الطفولة الذي تم اغتياله.وهي إشارات إلى عدم الاقتناع بما يحدث،وربما هو تعبير عن العجز عن تغيير معالم الكارثة. ونجد نفس الحنين وان بصيغة أخرى ،ولكن في نص آخر بعنوان "بيت جدي"،اذ يقول:"جدّي الذي بيته من عراءٍ يتعرّف عليه مَن أضاعَ القرية ، و تملأ عيونَه خرقةٌ خضراءُ تمنعُ مَن يقتنيها شرَّ العيون." وهو حنين كما قلنا إلى الزمن الجميل ،حيث بيت الأسرة الممتدة العامر والدافيء.وهنا سأتجرأ وأقول أن هذا انتقاد صارخ للحياة الخاضعة لمنطق الحساب والتوازنات الاقتصادية،حياة تسير وفق إيقاع ركيك تغلب عليه القسوة والميكانيكية. إن عبد اللطيف الحسيني ،ومن حيث هو يعي جيدا أن الكتابة الجادة هي ليست وسيلة للوصف فقط وخلق المتعة،فقد اختط لنفسه طريقا نحو العمق،طريقا ينبذ كل ما هو سطحي ،بل يمكن القول أنه يخوض من خلال الكتابة حربا ضد النسيان وضد التشويه الممارس على الأشياء الأصيلة التي تؤرخ للإنسان الحقيقي.
مصطفى النفيسي : كاتب وقاص من المغرب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق