مدوّنة الكاتب الكرديّ : عبداللطيف الحسيني .

السبت، 31 ديسمبر 2011

ديلانا وديرام - سليم بركات






الفصل الأول / ديلانا وديرام

تيتل على الهضبة،
وسكون يرفع قرنيه عاليا كالتيتل.
فلا تقتربن أكثر أيها الدليل،
ولا تبتعدن أكثر،
مكانك هو المكان الذي ترى منه الجذور الجذور، والأرض ميراثها.
تيتل على الهضبة،
وسكون صلد يرفع قرنيه عاليا كالتيتل.

(1)

انظر إليها، إنها جمع سلال شقراء تحت ومض دمك يا ديرام. انظر إليها كيف تغفو لصق ساعدك، وأنفاسها تتهاوى شهابا شهابا في شسع فحولتك النبيلة... أتذكر يا ديرام ساعة جئتها وديعا تتسربل بالسهول، خطاك خطى نهار، وصخبك وصخب السنبل؟ أتذكر المساء الذي ترقرق في عينيك، المساء الأول، حيث سطوتما بالقبل على كنوز الكائن، وكشفتما عن مسيل غريب تحت حجر الروح؟. تمهل ديرام، تمهل في عبثك الساحر بأعشاش قلبها- قلب ديلانا المعلق كطعنة ملآى بالحياة.

(2)

انظري إليه، إنه سهم أشقر تحت ومض دمك ياديلانا. انظري إليه يزين المساء

بصليل فحولته، ويرقى إلى صليلك سلم اللهاث، كأن كل ترف ترفه، وكـأن كلماته التي ينشد بها نشيد الرجل. فهلا سردت عليه ما يسر الغمام على بناته، وهلا نزلت إليه من العذوبة العالية، شاهرة مرح الأعالي، لتغمري سهل قلبه بقمح النشيد؟ هيا ديلانا، إنه متكىء قرب يدك ويسرو الفاكهة.

(3)

انظر إليها، لكم تداعب صدرك بشعاع من الشفاه والأنامل. انظر إليها يا تر عشرين قلبا تحت قلبها، وكل قلب يهذي فبنسج في هذيانه عشرين قلب : إنها مصب الرجل المضمخ بهدير الجذور؟ إنها مصب من الساعات والجدل؟ مصب آخر لكل بسالة أو خوف. فلا تقتربن أكثر يا ديرام، ولا تبتعدن أكثر. مكانك هو الذي ترى منه العذوبة ذاتها نائمة في سلال شقراء ودم أشقر.

( 4)

انهضي قليلا ديلانا، وأحكمي حصارك الطري، فلأنت الغابة التي تزدهر فيها سلالاته، وتمتزج الأحشاء بالطيور. ولأنت صليلة بين الصليل، ومديحه الذي كل ملك ملكة، وكل شـريد دربا" إلى الملك. فإذا انحنى عليك ارفعي إلى فـمط الأنثى، وإلى صدره المرتعش درع صدرك المضرج بالغمامات والعصور.

( 5)

انهض قليلا يا ديرام، انهض واقفا لترى من أعالي المرح سفح الأنثى المنبسط بين وميض الأقنعة والأغاني، فلأنت سيف ينابيعها، تضرب بك الصباحات فتنشق عن الحنين والأيائل. ولأنت أنفاسها بين الأنفاس، و مديحها الذي يغمس فيه الهواء آلهته الشريدة. فإذا انحنت عليك ارفع إلى فمهما فمك المرصع بنشيد الرجل صدرها المرتعش درع صدرك المرصع بالمياه والمدائح.

( 6 )

انظري إليه ديلانا، انظري كيف يضم يديه على الصواعق وينثر على سريرك الرياح. انظري كيف يتدلى من لهاثك كثمر، وينصب الفخاخ للنبات، كأنما يباهي بك سيوف المياه. انظري كيف يحيط بالمياه كاليابسة، ليحصر نبض قلبك الطالع من المياه زبدا ومراكب... لكن، حين يفتح شباكه، آخر النهار، فتتمايز من الشباك الكواكب والكراكي، دعيه غافيا في نبوءاته، دعيه ديلانا، فهو لا يمسك من الأرض إلا قبضة من الآخر، ولا يرى إلا جناح ثديك فاردا على الأرض ظل المساء والذكورة.

( 7 )

انظر إليها يا ديرام، انظر كيف تجمع أمام قلبك أسراب الإوز، وتغزل الغيوم. انظر إليها تتهادى قطيعا قطيعا من آخر السفوح، يدها في يد الأفق الراعي، وثوبها ينحسر- حين تعبر الجداول قفزا- عن جذور لا تلمس الأرض، بل تلمس المديح الذي تتغطى به الجذور كلها. فإذا رأيت أن تأخذ يرها في يديك فخذ الأفق أيضا، وإذا رأيت أن تضمها فلتضمك الجذور ليرشق الثمر بأنفاسك الثمر، أو لتهرع إليك الارض ممتشقة سيلها العرم من اللبن والأشكال.

(8 )



أيقظيه ديلانا، أيقظيه من سباته الموشى بعذوبة ألف قلب سكران. وأيقظي معه الصباح ليمضيا إليك معا، معفرين بالشهوة وبالغضار والمرح. فهو الأخير الذي سترينه هاذيا ينفخ في أبواق هاذية، ويملأ، كالنادل، بالبطولة كؤوس الغرقى. واقفا في المهب ذاته، في المهب العريق للجذور واغتباط الوحشي بالوحشي. وهو الأخير الذي سترينه فقبلا إليك كإشارة أطلقتها العاصفة قبل أن ترتدي خوذتها الدموية. وتشد ملاءة المائدة فتنثر الأواني على رخام الأرواح. أيقظيه . أيقظيه ديلانا.

( 9)

أيقظها يا ديرام، أيقظ فراشة الغيب ويعسوبه الذهبي... أيقظ ديلانا وأيقظ معها البيت حجرا حجرا، ثم أيقفل الساحة المحيطة بالبيت، وأيقظ السياج. وإذ تشهي من ذلك كله أيقظ الصباح النائم قرب السميات. وقل تعالي ديلانا. تعالي لنشهد السطوع الحيران للأرض وهي تذرف الحديد والبهاء على درعنا الآدمي . ولنكشف، بعد ذلك، ثديينا لنصل الحقول، مرتجفين من عذوبة النصل إذ يغوص إلى حيث يجري السمسم والزعفران، كأنما نحاول، معا، أن نكون الجراح التي لا جراح بعدها …

هيا أيقظها يا ديرام.

( 10)

أيقظيه ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململ تحت الشعاع المنساب على صدره العاري. أيقظيه وأيقظي النهار والأرغفة، ثم املأي دلوك- الدلو الذي تسقين به حيوانات الصباح التي لا ترى- املئيه شرانق قز وتوتا مما يتساقط من المدائح ، لتخيطي بالحرير والتوت هذه العذوبة المسدلة حول ديرام. أيقظيه، أيقظيه ديلانا.

( 11)

أيقظها يا ديرام، وأيقظ الحلم من حلمه تحت أهدابها، ثم الق على ديلانا حصاة من الوقت لتموج كسطح النبع، وتتسع دائرة دائرة، كل دائرة عربة، وفي العربات البقول والطرق. هيا بالله عليك، فها هو رسول الأودية يقطف لكما عناقيد الضباب، وينثر على سياج البيت طفولة الخزامى. أيقظها، أيقظها يا ديرام.

( 12)

أيقظيه ديلانا، أيقظي قناع الملهاة- هذا الفتى المطوق بمناجل الآلهة. أيقظيه لئلا يفوتكما ندى الصباح العجول وغواياته المضحكة، فلربما عرفتما أن للندى صهيلا في العشب، وأبواقا تؤذن بالهرطقة المرحة للتراب المرح. أيقظيه، أيقظيه د يلانا.

( 13)

أيقظها يا ديرام، أيقظ هذا البذخ السماوي- ديلانا، وانثر عليها حببا من الضحى وأشيائه الباذخة. فإذا ترامت أمامك يقظى استطلعها كما يستطلع النبات النبات. واجلسا معا تستظلكما القبل، وتغوي بكما الأغاني الأغاني. أيقظها، أيقظها يا ديرام.

( 14)

أيقظيه ديلانا، أيقظي الشعاع الآدمي- ديرام إذ يتحدر سكران من بهاء الذكر، ولا تجعلي حجابا عليه يديك أو اللهاث. مديدا فليكن، واضحا مشوفا تتراءى في شفافته العناقـيد والبراعم، فـتملكين كله، وكل ما يتراءى فيه، معا. وتملكين أن تكوني المخدع الآدمي للنبات وأحلافه من غمام وأجنحة. أيقظيه، أيقظيه د يلانا.

( 15)

أيقظها يا ديرام، أيقظ الدم الحي وأشكاله الصديقة، وتكلل ليقظة ديلانا بنفير رقيق، فهي يقظة عرش تتدانى في سلطانه الينابيع وتستحم الجداول. وهي قوسك ترمي به. حين ترمي- ذاتك كلها في نشيد أخير. أيقظها، أيقظها يا ديرام.

( 16)

أيقظيه ديلانا، أيقظي الترف وأشكاله الصديقة، واشهديه إذ تتفتح أهدابه عن طيور، فهو يقظة ليس يشهدها إلا صباح" ممسك بصليل المياه، وهو قوسك ترمين به- ين ترمين- رحمك كله في نشيد أخير. أيقظيه، أيقظيه ديلانا.

( 17)

أيقظها يا ديرام، أيقظ غداف الزبد ديلانا، وانشر قلوعك حين تتململ من دغدغات دمك الصباحي، فأنت مقبل على دمها بسحاب عريان. أيقظها، أيقظها يا د برام.

أيقظيه...
أيقظها...
لم أشأ أن أوقظ الأرض في ذلك الصباح.
لم تشأ أن توقظني الأرض.

هكذا مضيا: فتى وامرأة هكذا مضيا. لم يقل أحد شيئا، ولم تنبس شفة بالكلام الذي ضرج شجرة المدائح. (في الزوبعة الأخيرة التي ختمت المدن بختم الجاهل، غطى الشيوخ أرواحهم بصنوج من طين، وارتدوا زرد الدم فبقوا بعدما جردت الزوبعة الأشياء من صباها. بقوا واقفين، كقرن على جمجمة ثور ميت، حيث تهدلت من حولهم غصون" بيضاء ومنارات بيضاء. ولأنهم إرث أخير، وربابنة من زبد يديرون دفة لا ترى، أسلموا ديلانا وديرام إلى عشرين قبضة ذيلت صحائف اللهب العذب بختم الجاهل.)
هكذا مضيا، في الزوبعة الأخيرة التي افتتح الجاهلون مجدهم بها، وأنا استعيد ذا المضى لا ليروى، بل لأدفع عني هذا المديح الذي امتدحتني به الأرض كدليل لعاشقين

أفرطت في نهب قلبيهما بسيوف من عسل. وأسرد ما أسرد لا ليروى، بل لأرجع إلى المكان الجاهل، حيث يجلس الجاهلون، تحت الأعمدة، شيوخا تساوت أمامهم سطور الأفق بسطور الرماد. آه ديرام، كنت فتى هاربا من السهول ملتفا بصواعق السهول آه ديلانا، كنت امرأة هاربة من بعلها إلى خيار لا خيار لصبا هارب فيه. فتى وامرأة أبرما معا عقد طعنة واحدة، فأضرما هذيان المكان الجاهل. إيه يا المكان الجاهل، يا رقعة العقد المبرم بسلطان القوي وحكمة الموتى؟ يا أنين الهزائم كلها آن تخفى الهزائم بالمراثي، وتعلن بالمراثي، كيف أتبع البداية؟ كيف أتبع امرأة وفتى في المكان، وكانا شاردين عنه إلى ضحى لا يطلع على الأشكال، بل على القبل؟ ضحى خفيف كسوط الحوذي، يهيب بصقور العذوبة فتنقض، وبالجذور فتعدو إلى الجنون العظيم؟ لا، لم يكن مكان، ولم تكن ترى الكراكي، بعد، مهازل البنانين من الأعالي. كـان أفق إذا، وهوى يتدلى بعناقيده من عرائش خفية. وكانا راكضين، فتى وامرأة، يحمل أحدهما إلى الآخر عرشه، وقربة الماء، والأرغفة التي رققتها أنامل العناصر.

هكذا التقيا. هكذا أطعم الفم الفم زبيب الهذيان، وأهدى القلب إلى القلب ممرات من الريش مسقوفة بالخواتم. إنها الأرض الان (هكذا أروي). إنها المصبات وطعم الكائن لقنص الكائن: كل شيء في سيرة ذاهلة، والفاكهة تحلج من ذهول الجذور أول صليل، وأنا دليل ديلأنا وديرام، دليل يخيط الجهات بالمرح، ويلقي بمفاتيحه إلى الغمام الأسير، فلا يريان إلا قلبيهما محكمين كالقيد على العذوبة، ولا يشهدان، أنا التفتا، غير العاشق يتقرى بلهاثه ختم العاشق.

(أتذكر ختمك ديرام؟ أتذكر الختم ذا المقبض الصلصالي؟ أتذكرني مائسا من حولك في الهواء المتدحرج كالنرد وقد بسطت عليك سلطان الماء ودغدغة

الحقول؟ آه كم كنت صغيرا حين رفعت يديك، أول مرة، ملؤهما البيادر والوشاشات ، كم تقاربت خلف ظلك الصغير جيوش حنونة وعسكر الأقحوان. وكنت تنثر، آنذاك، قطانك للقرى لتتبعك، كمن ينثر للزرازير فتات الخبز قرب فخاخه. لكنها اتكأت على خوذة القادمين من غيب زينته المدينة بثريات الكتابة، وبقيت أنت، شاردا شرود يقظة وسط ظلام هازل. أديرام لا تنتفض حين تسمع صليل الينابيع الراكضة بسلاسلها، وقرع السنابل على فحولة العراء، فأنت تغشى، الآن، بهزائمك بطولة المدينة، وتغمد الخنجر الأخير، خنجر النبات والنهب. أديرام لا ختم إلا ختمك يسعى به المصب إلى المصب، ارمه ارمه، ولتضع الجداول). هكذا أروي، هكذا يطعم الفم الفم زبيب الهذيان. أيقول لي أحد"، بعد هذا، تمهل أيها الدليل؟ لا، سأروي المدخر من عوالم، وأفتح القرب على مداها، وليكونن حديثي حديث نيزك، وإشاراتي نزهة موج جميل، فلا يرى ديرام وديلانا غير قلبيهما- حين أروي- محكمين على العذوبة، ولا يشهدان، أنا ا@تفتا، غير الدم يتقرى بلهاثه ختم الدم.

(أتذكرين ختمك ديلانا؟ أتذكرين ختمك ذا المقبض الشفقي؟ أتذكرين رفيف يدي وقد أمسكتا برسائل البراعم، وكانت يداك تسفحان لي، على مهل، أحابيل الثمر؟. أتذكرين، كنت الدليل الحزين للفرح، أتعجل أن ينحدر ديرام من أقاصي الهضبات، ويأتي ليقفل باب البحر برتاج البراري. كنت في الأربعين، كنت ملآى بالذي يبيح الحرب ويجعل الخيانة لهو طفل. وثنت مهملة أيضا، محض امرأة، ككل امرأة أعطت لبعلها ما لبعلها؟ وأخفت بعض قناديلها، ككل امرأة، قرابين للموحش الظمآن إلى يد تهرق الإباحة، وتزج الهينمات بالخلاخيل وقتذا جاء ديرام، وقت فرغت من نسج ما للبعل، وتشاغلت عن نفير الأنثى بنفير السلطان الذي يملك الكائن مشاغل الكائن، فيمضيان ضريرين إلى المهرجان. وقتذا جاء ديرام، وقت لم يكن لك سر أو غضب، فرفع إليك، في آنية

نهبه، سرك والغضب. آه ديلانا، ليس بمبارك من لا سر له، من لا يغلق على فلذة منه بابها فيستملك، وهو المملوك أبدا"، بشاغل أن يرى يقظان أمام خيمة القوي. وصار لك سرك ديلانا، صار لك ما تقفلين عليه بقفل الأناشيد، وتفتحينه فتعبثين عبثا حلوا بالأناشيد، فلا تنتفضي حين تدخل السنابل عليك الآن، في ملاءات من الشهوة، ساحبة خلفها ظل سيف من سيوف الغبار المحارب، فهي تجهد أن ترى ختمك الذي تسعى به المصبات إلى المصبات. ارمي ختمك، ارميه ارميه، ولتضع الجداول.) على رسلك أيها النبع، على رسلك أيها الهباء. على رسلك أيتها الصواري، على رسلك أيتها الأرخبيلات، فهذا قوام ذشيدي.

بيد أنني، كدليل، لن أبرم النشيد بمطالع مرسلة كتيلة القطن، بل سأدعو الشهود نباتا نباتا، وسنعتصر، معا، لهاثنا في نسغ الورقة الوحيدة العالية، ورقة الملهاة التي بسطت ظلها على قبلة العاشقين، حين أسدلت عشرون يدا ستار الكهولة على الضحى،

5ديلانا، زوجة الكتابة، وأم ابنتين، يعن لها أن تذكر بين الحين والحين هروبها من المدينة إلى المدينة. وإذا جلست لترفو ما تمزق من ثياب ابنتيها، في الظهيرة، ترفو الحاضر أيضا بعينين دامعتين. 5ديرام، فتى الهضبة، يعن له أن يجلس قبال ديلانا، ناسيا أنه الغريب+ فإذا نظرت إليه بعينين دامعتين أرخى قناعه الصارم، وأجهش بالرعد.

كلاهما طفل. فتى وامرأة طفلان، وأنا الدليل الأبكم أقودهما عبر شجر الدراق ومناقير الغمامات السكرى.

بالله يتها الغمامات السكرى، يتها الغمامات السابحة في نبع من العظام وقرون التياتل، انهضي ثكلى في قناع كلب، واكسري تاجك الشفيف. وأنتن يا شجرات الدراق ألا لا يستظلكن شبح أو شـريد. أمـا أنا، ذاكم الدليل الذي سل الهرج كمدية، وشق الأغاني، فحسبي أنني جالس هنا، قرب ثور ترتطم بعينيه الزيزان، ويفلي جلدة القراد الطائش، وكـلانا ينظر- إذ ينظر- إلى سروة البـحر آن تميل بأعشاشها. مرحى ديرام مرحى ديلانا: لم أكن كما ينبغي أن يكون الدليل. لم أتطلع قط إلا إليكما، غير آبه بالقيافة التي تجعل الأثر رنين صنج يفتتح الموت.
مرحى أيها الفتى مرحى يتها المرأة:
لم أكن كما ينبغي أن يكون الدليل. كنت سارحا بين أهدابكما، أرى ما تريان؟ وأمتدح، مثلكما، بهاء الملوك الذين أطلقوا المدن ككلاب سلوقية، وخرجوا يبحثون عن شعوبهم. وأمتدح الطيور أيضا، والمشاعات والمياه، وأحفز روحي بمعول ندي لألمس في فجواته الخيام والأسلحة. دعني ديرام، سألقي عليك عباءة الأمير. دعيني ديلانا، سألقي عليك عباءة الأميرة. وسأجثو مانحا لضربة النهر الكاهن صدري كله، عل يهتدي بالدوي دليل غيري فلا يمتحن الكتابة بعاشقين يختتمان النشيد بالغضب.
إيه أيها الغضب، أما كان إلا أن أقود فتى هاربا، وامرأة هاربة؟

(حين جاء ديرام بأشيائه الصغيرة إلى المدينة، كان عابقا بلهاث اليقطين، وفي جيبه بقايا ذرة. لم يكتم أحدا نظر في ورقة وتتبع الإشارات إلى بيت صاحبه الأرمني.)
أبه أيها الغضب... (كان لا بد من يقظة. كان لا بد من شراع حجر. وصاحب ديرام صديق صبا. يعرف أن يستيقظ مع المجر ويقود اليقظة. وقد روى لديرام عن نساء المدينة، عن رياح المدينة، وعن رطوبة تبلل الكلام والنوم. و ياما امتقعا وهما ينظران إلى العاريات يتدفأن قرب ل@ب البحر.) إيه أيها الغضب...

(مدورة كانت المدينة، مدورة مثل إلية الكبش. وكان ديرام يحتفي بأعوامه العشرين، صامتا كصاحبه الأرمني الصامت. غير أن الخبطة المائة للحقول على بابه أيقظت العتالين الغرباء، الذين يجاورون مسكنه جمعا جمعا في الغرف، فأوقدوا لأعوامه بسالة الغريب، وغنوا للهذيان.)
إيه أيها الغضب...

(يقول ديرام: أفي فضاء هذا، أي صفيح يغطي اليقظة؟ ويقول الأرمني: دعك من الأقفال فأنت ابن المدائح. يقول ديرام: أقي غزو للجر هذا، أكب نهب بسيوف العويل؟ ويقول الأرمني: دعك من حصاد الحديد. يقول ديرام: أي خوذة هذه، أي سروة تتدلى منها خصيتا سلور؟ ويقول الأرمني: دعك من الأغاني، فص لا تهب على شراعك أنت.: يقول ديرام: أي مصب للفجاءات هذا، أفي ملك مقنع بقناع المهرج ويقول الأرمني: دعك من مشط غل البكورة-، فـق@ أشرف المغيب على سلطانه.)

إيه أيها الغضب، كنت جاثيا امنح النهر الكاهن زردي، وأحوك العطش للجداول، لكنني إما التفتت رأيت ديرام فتى يهدم المدينة ويبني المدينة.

(ببأس كبأس الخلد بدأ ديرام، وبأجر كأجر فتى. كان يرفع الكتب من المخابئ إلى ذاكرة الموتى، ويحزم لباعة الكتابة الجدل والرمال، ثم يرجع آخر النهار ليجلس على سطح المبنى، مرتشفا مع الشاي المسائي رائحة أنثى لم تطلع من الصلصال بعد. غير أنه التقى ديلانا، بعد مئين من شموس تتالت على فراغ مترف بصخب الحديد، فبكى.)

إيه أيها الغضب... (كانت ديلانا تنتظر أيضا، بعد أربعين دورة من دورات السنابل. وكانت تسعى إلى أن تجعل من ابنتيها سببا ما لرضوخ الدم للدم. وديلانا مائدة. وديلانا نساجة من نساجات المدينة، غزلت، ذات يوم، علي مغزل الماء أقدارها، وهي مذ ذاك حيرى بين أن تأسر السنونو أو تطلق السنونو، لكنها استغفلت القاعدة وحيرة القاعدة، فشقت المدينة بعمد ترفع السهوب كظل فوق الأرواح.)
إيه أيها الغضب...

(حين دخل ديرام بيت ديلانا، قالت: خلقتك من شبهات الأنهار. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك مني. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من النهب فانتهب. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من مساكب وبقول.

قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من مطالع العويل. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من بريق موحش يتلألأ على مقابض البوابات. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من ذهولي. قال: وأشياء أخرى. قالت: خلقتك من نذور الظلام إلى الظلام، ومن بكورية غائصة بنصلها في الجذور. قال: تعالي إذا. فاحتضنته وبكيا.)

إيه أيها الغضب، سأمهل الأرض حتى تأتي الأرض بشفاعة الأسلحة، وسأنذر الخفي حتى يكشف عن موقده، لأنـي أستجمع الآن سيرة القبل وحبري الحباحب، مستعينا بما لا يرى، بالسمانى، بإوز يختزن في الحواصل كلام الضفاف. وليسردن معي الشجر- حين أسرد- هذه المطالع المدبجة بريش الغراب وعصافة الشعير:

مطلع أول كانا يركضان معا حول صارية المدينة، ملتفعين برسائل الشتاء، مرحهما مرح النورس، ولهاثهما لهاث الغداف. كانت ديلانا تجهد أن تمسك ببرقه الغض، ويجهد ديرام أن يمسك بغمامتها الغضة. وحين تعبا، جلسا معا قرب صارية المدينة، هي تنحسر انحسار موجة قليلا وهو ينحسز انحسار موجة قليلا، تاركين على حبال المطر قميصهما الزبدي ووشالح مملكة لم تكتمل.

مطلع ثان
كانا قادمين من ناحية الغرب، من الناحية المتصلة بأنين الملوك، وبآخر التماع للبرق على سنان البطولة. كانا قادمين، وقد خرجا، توا، من خلوة الكائن، حيث يترك الذكر وراءه مجدا أعزل، وتترك الأنثى وراءها أقاليم عزلاء. وحين التقيا المدينة نثرا للمدينة حفنة من ؟ الموج ومن خيام خضراء، وعلقا على سياجها مديح المياه ووشاح مملكة لم تكتمل.

مطلع ثالث
كانا شفيفين، وكانت ترى من خلال صدريهما رفوف صغيرة من زمج الماء، ويرى الشاطئ أيضا، ومراكب الموت، وتوتيوها الصاخبون سكارى يقبضون على البحر ويطوونه كالثوب، فينفر من الأعماق تيس يقود تيوس الباطل المرمرية.

وماذا يفعل ديرام، وماذا تفعل ديلانا؟ لقد شففا كـثافة الحيرة فما رؤي غير ؟ الحيرة، وشففا الجسد فما رؤي غير الباطل. ؟ كانا شفيفين، غير أنهما أوصدا، الآن، باب الهواء الشفيف، وارتديا للكثافة الكثافة، فها فما يستعرضان جمهرات الظلام بسلطان مملكة لم تكتمل.



الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

لطيفة لبصير: الكتابة تجميع للمتناثر في حياتي.

هي واحدة من بين كل متعدد الأوجه، مبدعة احترفت الحرف منذ زمن، وعبره قالت الرغبة و الـ «ضفائر» و«أخاف من...»، آخر أعمالها. ورغم انشغالها الأكاديمي والمهني بجامعة الحسن الثاني بالبيضاء فقد انتمت عبر كتاباتها المتعددة الضمائر إلى جيل مبدعات تمردن على ضيق الإطارات الجاهزة التي يرغب الآخرون أن يأسروا بها تدفق الإبداع، في جرأة محببة أسقطت كل الأقنعة وأعلت شعار كتابة حرة غير مقيدة، وفي انتظار «عناق» ـها، مجموعتها القصصية الجديدة، كان لقاؤنا التالي.

ما الذي شكل الصورة القصصية الأولى لدى لطيفة لبصير؟
كنت في بداياتي أكتب نصوصا مفتوحة، وكانت لدي رغبة في كتابة الشعر أكثر من النثر، ولكني شيئا فشيئا وجدت أن مساحات السرد تهيمن على نفسي الشعري، وكنت أحس أنني أرغب في الجملة القصصية أكثر من الجملة الشعرية. رغم أنني حينما بدأت أكتب نصوصا مفتوحة وجدت أنها منفتحة على أجناس متعددة، إلى أن بدأت تتشكل شيئا فشيئا وصارت نفسا قصصيا، وبدأت أفهم أنه ينبغي أن أدخل ضمن هذا الجنس الإبداعي الذي يمكن أن نقول أنه مهمل تقريبا في كثير من الأحيان ومظلوم من الناحية النظرية، لأن النظريات الأدبية تهتم بالرواية أكثر مما تهتم بالقصة. وحين بدأت أكتب القصة وجدت أنني أرغب أن أنقل إليها العديد من التفاصيل الصغرى؛ أي أن لا أكتب المواضيع الكبرى والتيمات الكبرى المهيمنة، لأنها لا تهمني، لأن القصة ينبغي أن تكون نوعا من الالتقاط للتفاصيل التي لا تبدو ولا تظهر في الحياة اليومية، أي تلك التي يمكن أن تشكل إضافة للكتابة.
latifa lebsir
وهل كان للذاكرة نصيب في هذا التوجه؟ أقصد ذاكرتك الخاصة؟
يمكن القول أن الذاكرة بالنسبة لي نوع من التخزين والتقاط مجموعة من التفاصيل في حياتنا اليومية؛ فذاكرتي هي الزمن الماضي ولكن ليس بالضرورة أن أكتب ذلك الزمن كما هو، لأنني حين أكتب فإنني أكتب بضمائر، وهذه الضمائر لا تعود علي بالضرورة، لأن الضمير عندي، سواء ضمير المتكلم أو الغائب أو المخاطب، لحظة سردية ليس إلا... لأن المتكلم في نصوصي هو تخييل بالدرجة الأولى، فذلك المتكلم يتخيل وينسج عوالم لا علاقة لها بالواقع، ولذلك فإن الميثاق السردي لدي، حين أضع نصوصا قصصية، هو أنني منذ البداية أتعاقد مع القارئ على أن ما سأكتبه هو من قبيل التخييل ومن قبيل النسج... فأنا أنسج نصوصا تمتح وجودها من الواقع اليومي، ولكن لها علاقة باللحظة الإبداعية واللحظة السردية، ولا علاقة لها بالواقع كما هو. لأن الواقع يتعبني، ولا أريد أن أكتبه كما هو، بل أريد أن أغيره شيئا فشيئا. وحسبما يقول نيتشه؛ أنه لولا الخيال لمتنا من الواقع. فالخيال جزء من الإضافة وجزء من الابتكار والإبداع والإلهام في حياتنا اليومية.
أي أن الإبداع يجمل نوعا ما صورة الواقع...
فكرة الجمال أو القبح لدي هي فكرة تخضع للكتابة في حد ذاتها. فالنص الإبداعي بالنسبة إلي يمكن أن يكتب عن أشياء قذرة، وتلك القذارة حين تدخل إلى الأدب فهي تصبح انتماء له، فالأدب لا يحتمل الجمال أو القبح. فالجمال فيه ليس جمال الصورة والشكل أو الأشكال الجمالية للأشخاص الذين نكتب عنهم، ولكنه جمال يخاطب قارئا آخر، لأنه يحاول أن يوجه ويؤثر ويضغط على أصابع قارئ مفترض. ولذلك حين أكتب، فإنني أكتب خارج ثنائية الجمال والقبح. لأن الجمال بالنسبة إلي نسبي في كثير من الأحيان. ولذلك وحينما نتذكر مثلا كيف كتب أمبيرتو إيكو عن الجمال، نجد بأنه لم ير الجمال في الجسد فقط، فكم من جسد جميل وليس فيه أي نظرة حانية، وكم من جسد قبيح في المنظر يمنح نظرات حانية... فتلك النظرات الحانية وتلك الالتقاطات هي ما يهم الأدب. لأن هذا الأخير ليس مهتما بالجميل فقط، فالجمال بالنسبة له هو الجمال الذي يخلقه كأدب، والذي يمكن أن يضيفه إلى الأشخاص. فهناك شخصيات باردة ومقززة في الواقع ولكنها حين تدخل إلى الأدب يصبح لها جمال خاص بها، لأن الأدب يجملها، ليس على مستوى الشكل ولكن على مستوى الروح، كما يمنحها روحا إضافية. ولذلك كثيرا ما نجد أن الجمال حين ينتقل إلى الأدب فهو لا يضيف إليه شيئا، في حين أن القبح أو الفقر أو التقزز أو النقص في الشخصية، أشياء في حاجة إلى إضافة. فالأدب إذن يضيف إلى تلك الكائنات الناقصة والقبيحة أشياء من عنده. فالقبح هو في حاجة إلى إضافة، وإلى كل ما ينقصنا في الحياة اليومية.
ألم تشعري يوما بضيق مجال القصة القصيرة لمصلحة الرواية؟
القصة كجنس أدبي يختلف عن العالم الروائي، لأنك حينما تكتب القصة فكأنك تكبح جماح مجموعة من الأشخاص داخل غرفة واحدة. وتحد من زوائدهم كما تحد من إمكانية فيضهم خارج مجال تلك الغرفة. أي أن لهم امتداد ولكنه قصير الأمد. ولذلك فإن القصة كجنس أدبي تقلص من حجم امتدادهم في الزمن والمكان وأيضا على مستوى اللغة والأشخاص. بينما الرواية عالم آخر مختلف تماما. وأنا بصدد كتابة نص روائي قريب من الانتهاء، وفيه اكتشفت أن الكتابة الروائية مختلفة عن الكتابة القصصية، لأن فضاءها فضاء ممتد، ثم أن شخوصها هم شخوص يتنافرون، وفي كل مرة يمكنهم أن يفرضوا على الكاتب إيقاعا جديدا في الكتابة، ثم إن الرواية تتطور بشكل غير التطور القصصي. بينما النص القصصي نص يحذف أكثر مما يقول، ويقول الكثير من الأشياء بأقل الجمل والكلمات، كما يحاول ما أمكن أن يقلص نوعية الموضوع. وشخصيا أحاول أن ألتقط بعض التفاصيل وأكتب عنها.
في علاقة المرأة مع اللغة كيف تداعب لطيفة لبصير اللغة، دون السقوط في ثنائية الذكر والأنثى وما تخلقه من مفارقات؟
شكرا على هذا السؤال، فقد اشتغلت كثيرا على هذا الموضوع، أولا في بحثي في دكتوراه الدولة حول السيرة الذاتية النسائية، حيث تساءلت هل هناك لغة خاصة تتعامل معها الأنثى؟ ووجدت في إحدى الإحصائيات أن المرأة تهذب اللغة بشكل ما وتنقيها من كل كلمات «الشارع»، وتقدم للقارئ لغة صافية ونقية، ووجدت أيضا أن المرأة تستعمل اللغة بشكل يختلف على المستوى النفسي، بحيث أن الأنا الأعلى لديها أكبر من الرجل، وتلك الأنا الأعلى تضغط على أصابعها وتحدد نوعية تعاملها مع العديد من التيمات المختلفة. ولكن في الآونة الأخيرة وجدنا أن هناك نصوصا بدأت تتجاوز هذه الثنائية؛ أي ثنائية الكتابة الرجولية أو الكتابة النسائية، لأن المشاعر الإنسانية مشاعر عامة وغير قابلة للتجزئة أو التقسيم. أما فيما يخصني، فأنا أكتب بضميرين مختلفين، ضمير المؤنث وضمير المذكر، ولدي شخصيات تتكلم بضمير المتكلم الذكوري، كما لدي أخرى تتكلم بضمير المتكلم الأنثوي، وهذا لأنه بداخلي لا تحضرني هذه الثنائية في الكتابة، فقد سبق لي وأن كتبت المجموعة القصصية «ضفائر»، وهي كلها نصوص قصصية أنثوية كانت تحمل أسماء نسائية، مكتوبة بضمائر أنثوية، ولكن في العمق لم يكن الغرض منها أن أكتب من أجل امرأة تريد الصراع ضد الرجل، فأنا لا أومن بهذه الفكرة بل بأخرى، وهي أنني أكتب لكي أحول وجهة نظر القارئ حول هذه المرأة، لأن المرأة في المجتمعات العربية هي امرأة لها معاناة متكررة تهم العديد من المواضيع؛ القهر الجنسي، العنف، العنوسة، شيخوختها المبكرة من وجهة نظر الرجال، علاقتها بالزمن... وهذه كلها أفكار تضجرني، ولذلك فأنا أكتب عنها، ولكني لا أكتب ضد ذات أخرى والتي هي ذات الرجل، لأنه لا وجود لذات دون الذات الأخرى

الجمعة، 23 ديسمبر 2011

( القلعة)

أقدّسُ اعتكافَكَ في حجرتكَ - يا أبي - منذ ثلاث سنوات , لو خرجتَ لرأيتَ جيشاً من الجهل عرمرماً يطوّقُ السمعَ و البصر و الفؤادَ , ظلماتٌ فوقَها ظلماتٌ لا تكادُ ترى يديك خلالَها ,غيرَ أنك مازلتَ أنت تقرأُ و تحلّلُ أيّ كتاب يقعُ بينَ ي...ديكَ , تحللُ و تقرأُ لنفسكَ فقط دون أنْ يعلمَ بك الآخرون , كنتَ تظنُّ بأنّك أنت هو الآخر , فهل ظنّ الآخرون بأنكَ هم ؟. تبّاً لي يا أبي : "لقد شمّتْ روائحَ يأسي القططُ " و أصبحتُ زاوية البيت المظلمة والركنَ المنهارَ و الصوتَ الخجول . اعتكفْ في حجرتكَ – يا أبي- أبديّاً , فإنّي أخافُ عليكَ من جهل الجاهلين و أميّة المتسلقين , وهم كثرٌ جداً –يا أبي – لا تستطيعُ عَدّهم و لا أستطيع . لا أريدُ منكَ شيئاً – يا أبي- , فقط أريدُ أنْ تسلّطَ شعاعاً من نوركَ على تلك الزاوية المعتمة من البيت , حيث أقبعُ أنا منكسراً و هشّاً و مطعوناً .
في الصورة : أنا و أبي الشيخ عفيف الحسيني الذي ما زال يقرأُ و قد تجاوز الثمانين – 4-4-

الأحد، 18 ديسمبر 2011

تَذْكِيرُ النِّسْيَانِ . صلاح بو سريف .

[1]

لمْ يَكْتَفِ الشَّابي بكتابة الشِّعر، بل مَارَسَ تَنْظِيرَهُ أيضاً. ليس غريباً، أن يصْدُرُ كتاب " الخيال الشِّعري عند العرب "، قبل صُدور " أغاني الحياة ":
كانَ الشَّابي، وهو يعُودُ إلى الماضي، يُحَاولُ وَضْعَ اليَدِ على مَوَاطِنِ الجُرْحِ في مُمارَسَةٍ شعرية، بَدَا لَهُ، أنَّهُ مِن غير المُمْكِن أنْ تَظَلَّ العلاقةُ بها، بعِيدَةً، أو أن تَظَلَّ هذه البِداياتُ، خَارِجَ المُساءَلَة، أو تكون، في أقصى الحالاتِ وأعْتَاهَا، ذلك الأصل الذي لا يمكنُ للشِّعْرِ أن يكُونَ دونَ العودَة إليهِ، أو احْتِذَائِهِ.
كَتَبَ الشَّابي، وفقَ اختيارٍ شِعْرِيٍّ، ليس هو اختيار القُدماء، أو هكذا كان يَتَصَوَّر اخْتِيَارَهُ. فهو كانَ على وَعْيٍ بما هو مُقْدِمٌ عليه، لأنَّهُ حين اخْتَارَ الخيال، فهو ذهَبَ إلى مَكَانٍ، ظَلَّ بعيداً عن المُقارَبَةِ، أو هو، حتى في حالاتِ مُقَارَبَتِهِ، لَمْ يخرُجْ عن تلك العلاقات التي عَمِلَتِ الرُّؤيةُ البيانية على تَثْبيتِهَا، وتَكْريسِ نَمَطِيَتِهَا.
اخْتِيَارُ الشَّابي للخيال الشعري، كانَ يسيرُ في نفس سياق اختيارِه النصي، فالرومانسية الشعرية، التي كان الشَّابي أحد مُمَارِسِيها، كانَ الخيال، أحد المُكَوِّنات البانية لخطابِها، وأحد الأُسُس التي عليها كانَ مَدارُ اختيارها الشعري.
العودَةُ إلى القديمِ لمُسَاءَلَتِهِ، من هذه الزَّاوية بالذَّات، كانَ في صُلْبِ عمل الشَّابي، أعني في صُلْبِ اختيارهِ الشِّعري، الذي لمْ يَكُنْ مُقْتَنِعاً، بالاختيارات الشِّعريَة القديمة، بمُختلَفِ أعْصُرِها، أو مراحلِ " تَوَسُّعِهَا ". هذه الاختيارات التي ظلَّت محكومَةً، كما يذهَبُ هو نفسُه إلى ذلك، بنفس التَّصَوُّرِ، ولم تُغَادِرْهُ إلاَّ لِمَاماً.
ألَيْسَ الشَّابي مَنْ يَرَى، وهو بصدد الحديث عن " الرُّوح العربية "، أنَّ " كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعاً على غرار واحد ومُصْطَبِغاً بصبغة واحدة..". أي أنَّ هذا العقل، هو نفسُه، لم يخرج عن طبيعة النَّمَط الذي ظلَّ يحكُمُ رُؤْيَتَهُ لِلْأَشياء. والعقل هنا منظوراً إليه من باب الخيال، الذي يرى فيه الشّابي ضرورة لا غنيةَ عنها للإنسان " كالنُّور والهواء والماء والسماء "، وهو ضَرُوريُّ " لروح الإنسان ولقلبه، ولعقله ولشعوره، مادامت الحياة حياة والإنسان إنساناً ". لكن الخيال عند العرب، لم يَتَخَطَّ ظاهِرَ الشِّيْءِ، ولمْ يستطع أن يَبُثَّ الحياةَ في اللُّغَةِ، التي لا يمكنُ أن تحيا دون خيال.
الخيالُ الذي حَرِصَ الشَّابي على قيمتِه، أو على جماليته، هو " الخيال الشعري "، وليس " الخيال الصناعي ". فخيال الشَّابي، أو ما يَتَبَنَّاهُ الشَّابي من خيال، " فيه تنطبع النظرة الفنية التي يُلقيها الإنسان على هذا العالم الكبير… لأنَّه يضربُ بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشُّعور".
[2]
قَدْ يبْدُو الشَّابي مُغَالِياً في موقفه من الشعر العربي القديم، من " القصيدة "، كما أسَّسَتْ لها الشعرية العربية، من الجاهلية حتى الأندلس، لكن، حين نتأمَّلُ خلفية رؤيتِهِ، وطبيعة المشروع الشِّعري الذي عَمِلَ على بنائه، فإنَّ هذه المُغالاة تَنْفَرِطُ وتتلاشى، لأنَّ ذهابَ الشَّابي إلى الخيال، و إلى الأسطورة.. في هذا الاختيار الشِّعري القديم، كانَ مَحْكُوماً باختياره الشعري الذي لم يكُن يرى في تجديد الوزن، قيمَةً أساسيةً، بل إن قيمة الشِّعر لا تحدُثُ إلا بتحويل الخيال مِنْ ظاهِرِ الأشياء إلى عُمقِها. أي أن يُصبِحَ الخيال تعبيراً عن يَقظَة الرُّوح، و عن الإحساس بما وراء الأشياء. فالشاعـر العربي، في تعامُلِهِ مع الجسَـد، لم يُحاوِل " أن يُحِسَّ بما وراء الجسد ".
الخيال بهذا المعنى، هو دال الرومانسية الكبير، وهو ما سَيَعْمَلُ على إعادة ترتيب النَّسَبِ الشعري، وتحويل الرؤية، من مُجَرَّد لَعِبٍ بالكلام، واستعادة للذاكرة، و ما تمتليء به من صُوَرٍ وتعابير، إلى نوع من الانقلاب في الرؤية، ليس إلى الأشياء، بل إلى الإنسان في علاقته بالوُجود.
اللُّغَةُ، قد تكونُ ذات قيمة في الشِّعر، لكن ليس بالمعنى الذي يجعل اللُّغةَ تكونُ آلَةَ الشَّاعِرِ في قول الأشياء. اللُّغَةُ وفق هذا المنظور هي الْمَاوَرَاء. هي " الدُّنُوُّ من سراديب الجبال و أعماق الكهوف و الأودية..". أي ما يُضْفِي على اللُّغة قيمتها الأنطولوجية، و يجعلها بالتالي، تَنَنَزَّلُ مِنْ ثَنايا الرُّوح، لتُقيمَ في ما سَيُسَمِّيهِ الشَّاعر، أو في ما هو مُقْدِمٌ على تَسْمِيَتِهِ.
الشَّابي كان واعياً باختياره الشعري، وبتلك التُّخُوم التي هي نوعٌ من العودة إلى بداية الوُجودَ، أعني الوُجود الشِّعري، الذي كانَ أوَّل مُواجَهَةٍ خاضَها الإنسانُ مع ذاتِه، ومع ما كان يَعْتَمِلُ في نفسه من قَلَقٍ، صاحَبَهُ منذ أوَّل هذا الوُجود. فتسميةُ الوُجود، بهذا المعنى، كانتْ مِنْ مَهامِ الشَّاعرِ، ومن تَبِعَاتِ وظيفتِهِ. لكن، وفي ضوء التصور الذي ذهبَ إليه الشّابي، تأجيجُ الخيال، يبقى هو الوسيلة التي سيستعيدُ معها الشِّعرُ عُمقَهُ، ويَعودُ لِـ " أوَّل نشأته "، أي نشأة اللغة، حين كان الخيال " حقيقة ". لأنَّ " المعاني الخيالية " كما يقول الشَّابي، " أقرب إلى ذهن الإنسان الأوَّل من المعاني الحقيقية ".
أليسَ الشَّاعرُ، بهذا المعنى البعيد الذي يذهبُ إليه الشَّابي، هو الإنسانُ الأوَّل. السَّاهِرُ على هذه " الحقيقة الغائبة "، أو على مُراقبَة، فرق المسافة الذي يفصِلُ بين ما هو خيال، و ما هو حقيقة. " وصفوةُ القول، يقول الشَّابي، إنَّ الإنسان مضطر للخيال بطبعه، محتاجٌ إليه بغريزته…و أن اضْطِرَارَهُ إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالاً وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطوَّرت نظرتُهُ إلى هذه الحياة ".
[3]
عودةُ الشَّابي إلى بَدْءِ الأشياء، إلى بَدْءِ تَسْمِيَاتِها، كان أحد لحظات انفصالِهِ، عن المُقتَـرَح الشعري القديم. إذا كان الشَّاعرُ القديمُ يُسَمِّي الأشياء صِِنَـاعَةً، أي بتبني ما سمَّاهُ الشَّابي بـ " الخيال الصناعي "، الذي هو في خَلْفِيَةِ التَّسْمِيَة، ليس سوى رَجْع صَدىً لِتَسْمِيَاتٍ سابِقة، فالشَّابي كان يَخوضُ الشِّعْرَ، في تُعَرُّجاتِهِ والْتِواءَاتِهِ، كما يقول، " لأنَّ الآلهة العربية [في الوضع الأسطوري] لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال ". أو لا تُتيحُ، بالأحرى للخيال أن يَشْتَعِلَ ويفيضَ من داخل الذات، أي مِنْ جِرَاحَاتِها.
لم يكن نقد الشَّابي مُوَجَّهاً للشعر القديم، أي إلى النص، في حَدِّ ذاته، فهو ذهَبَ إلى الروح العربية، إلى العقل الذي يَحْكُمُ رؤية العربي للأشياء. وبغضِّ النَّظر عن تأثير المكان في الشاعر، كما يرى الشَّابي، فإنَّ قوَّة أطروحتة، هنا تُوجَدُ، وليس مُهِمّاً ما وصلَ إليه من نتائج.
في هذا النوع من النَّقد، الذي يَمُسُّ الأساسات، تبدو خُطورةُ الرؤية. الشّابي، تركَ البناء جانباً، وذكَّرَ بما في الأساسات من خلل في النَّظر، وما تلا ذلك من بناءات،
ظلَّت في جوهرها، نوعاً من التَّراكُمِ القائمِ على هشاشَةٍ لا أحَدَ ذَكَّرَهَا، أو عادَ لِمَوْطِنِ الخَلَلِ فيها.
لم يكن الشَّابي ينظرُ إلى الماضي، حين أقدَمَ على تَذْكِيرِ هذا النِّسْيَانِ، بل كان، في ما هو يقرأُ خَلَلَ الماضي، ينظُرُ إلى المُستقبل. لا شيءَ في ما قرأهُ، في هذا الماضي، كانَ يُشيرُ إلى المُستقبل، فهذا الأدب الذي امتدَّ من الجاهلية إلى الأندلس، رغم اختلافات الأمكنة، والأمزجة، ظلَّ هو نفسُهُ، مُقيماً في نفس البنية، وفي نفس الأُسُسِ، لم يَسْمُو إلى ما هو أبعد منها.
[4]
جذريَةُ نقد الشَّابي للقديم، لِمَا هو مُسَلَّمٌ بِهِ، ولِلْأَسَاساتِ، جَاء في سياق ما عرفتهُ الثقافة العربية الحديثة مِنْ نُزوع نحو " الشَّك "، واختبارِ لـ " اليَقِينِـ " ياتِ. صدر الكتاب سنة 1929، أي بعدَ صدور كتاب " في الشعر الجاهلي "، لطه حسين، بثلاث سنوات، دون ذكر ما صدر من كُتُبٍ، عملت على فتح مُواجهات على أكثر من صعيد.
فرقُ الهواء بين العَملين، كان في المنحى الشِّعري الذي كان الشَّابي يَخُوضُهُ، أي في مشروعه الشِّعري الذي حَرِصَ على جذريتِهِ، وعلى نُزُوعِهِ المُستقبلي. كان التَّوَجُّهُ الرومانسي، نوعاً من الوضع الطَّاريءِ على الشِّعر العربي، وهو ما بدا في رفض شيوخ الزيتونة لشعر الشَّابي، و تَوَجُّسِهِم من (تطرُّفِهِ)، إبَّانَ مرحلة التَّعَلُّم، و أيضاً، في إدراك الشَّابي، لِمَا هو مُقْبِلٌ عليه مِنْ عمل استثنائي، وهذا ما سَيُطَوِّحُ به إلى زَمَنٍ، هو غير الزَّمَن الذي يعيشُ فيه.
سَيُدْرِكُ الشَّابي فَداحَةَ اليُتْمِ، وسَيُقْبِلُ عليه بغُربَتِهِ، لكنَّهُ آمَنَ بِما بَيْنَ يَدَيْهِ، ولمْ يَتْرُكْ جِمارَهُ، بل ضَاعَفَ مِن اشْتِعالِها، حين بَدأ الجُرْحَ بـ " الخيال الشعري.."، قبل أن يصدرَ ديوانَهُ " أغاني الحياة "، الذي عَمِلَ على جمعه، واختيار نصوصه، دونَ أن يعيشَ حَدثَ صُدورِهِ.
عَمَلانِ، معاً، جاءا لِيُؤَسِّسَا لِرُؤْيَةٍ شعريةٍ مُغايِرَةٍ. نَفَسٌ واحِدٌ كانَ يَجْمَعُ بين العملين، رغمَ فرق الزمن. الشَّابي في " الخيال الشِّعري "، كانَ يُمَهِّدُ لِمَشْروعِهِ الشعري، وهذا ما يَتَبَدَّى في مواضِعَ من كتـابِهِ، فيها كان يُقارِنُ بين ما تَتَمَيَّزُ به " الروح الغربية " من عُمقً، وما كانَت " الرُّوح العربية "، غارِقة فيه من عَرَضٍ، و لامارتين، الذي قرأهُ مُتَرْجَماً، كان نموذجَ هذا العُمق، أعني الروح الغربية.
حضور لامارتين، في مقارنات الشَّابي دون غيرهِ، يكشِفُ عن خلفية ما كان الشَّابي يُؤَسِّس له مِن مُستقبل شعري، سيشرطهُ بغير الزمن الذي عاش فيه.
في يوم الثلاثاء7 جانفي1930، كتبَ الشَّابي في يومياته " أشعُر الآن أنِّي غريبٌ في هذا الوُجود، وأنني ما أزدادُ يوماً في هذا العالم إلاّ وأزدادُ غُربَةً بين أبناء الحياة، وشعوراً بمعاني هاته الغربة الأليمة.
غربة مَنْ يطوف مجاهل الأرض، ويجوبُ أقاصي المجهول، ثم يأتي يتحدَّثُ إلى قومه في رحلاته البعيدة، فلا يجد واحداً منهم يفهمُ من لغة نفسه شيئاً.

الآن أدركْتُ أنني غريب بين أبناء بلادي. وَلَيْتَ شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تُعانق فيه أحلامي قُلوبَ البشر، فَتُرَتِّلُ أغانيَّ أرواح الشباب المُستيقظة، و تُدرِكُ حنين قلبي وأشواقه أدْمِغَةٌ مُفَكِّرَة سيخلُقُها المستقبل البعيد.."
[5]
في هذه المُذكِّرَة، تبدو تلك المرارة القاسية التي عاشها الشَّابي في " زَمَنِـ "ـهِ، زمن الخازندار، الشاعر الذي كان نوعاً من الوعي الشعري المُهَيْمِن، والذي أدركَ الشَّابي أنَّ كتابتَهُ، لمْ توجَد في زمنها، أو أنَّها كانت نوعاً من رجِّ الأرض القديمةِ، رغم ما تَتَّسِمُ به مِنْ صلابَةٍ.
المُستقبل كان رهان الشَّابي، وهو أدركَ في وقت مُبَكِّرٍ، أنَّ " المُعاصَرَة حِجَاب ".
[6]
قراءة " الخيال الشعري.." مِن منظور الكتاب وحدهُ، لن تكونَ مُجْدِيَةً. الشَّابي كان واسعَ النَّظر، كانَ في ما كتَبَهُ نَظَراً، يذهَبُ إلى ما كان يُؤَسِّس له شعراً. زاوَجَ بين مُمارَسَتِيْنِ شِعْريَتَيْنِ، لم يكن الوعي الحديث، يُؤْمِنُ بانفصلاهما. المعرفَةُ الشعرية، كما تَبَدَّت في " الخيال الشعري "، كانت إحدى سمات الوعي الشعري الجديد، الذي خاضَ الشِّابي مآزقَهُ، مُدْرِكاً، في حينِهَ، تَبِعات ما كان ينتظرُهُ، لأنَّهُ،
كما يقول م. فوكو، فتح جُرْحاً في جَسَدِ ثقافَةٍ، كانت ما تزال تُؤمِنُ بالعافية، وبسلامَة تَشْيِيدَاتِها.
الـ " انقلابُ في الروح العربي "، هو الجُرح الذي أقدم الشَّابي على تذكيرِهِ، وليس الخيال إلاّ ذلك الباب الذي لا يمكن لأيِّ وَعْيٍ جديدٍ أن يَحْدُثَ دون تَذْكِيرٍ
بِخَلَلِ تَشْيِيداتِهِ، و ما آلَتْ إليه مِن فَسَادٍ، أو " إضعاف ملكة الخيال الشعري في النفسية العربية، حتى كانت آثارها على ما رأيتُم ". الكلام للشَّابي…

الاثنين، 5 ديسمبر 2011

كيف تشكو إذا غدوت عليلا؟

(لطيفة لبصير)
   أنتظر منذ شهور أن يغسل المطر زجاج النوافذ، لكنه لم يفعل، وأحس بضيق شديد...يقول صديقي: إنه الطقس الحار، وهو لا يريد أن يتغير وكأنه يعاندنا ويجلدنا بقيظه، وأتساءل: هل الحزن ينبع منا أم من الطقس؟ لست أدري...
حملت بعضي إلى مطعم "الصقالة" الجميل وأنا أتأمل أسواره العالية وبنايته الغريبة التي تعود إلى تاريخ قديم. هنا يتخذ الطقس شكلا مختلفا، وأنا أحمل معي أصوات القيظ تتكرر في ذهني، وصوت صديقي الذي يقول: لا شيء يوحي بالحياة، ينبغي أن نعيش فقط. حتى أنا كما يقول محمود درويش عبر قصيدته: "لاشيء يعجبني"، كلما استيقظت أبدأ بالتشكي الخارج من ضلوعي كألم ينبذ كل شيء. الأجانب يتجمهرون حول مدخل المطعم، يتأملون البضائع التقليدية ويلقون كلماتهم المعتادة: أوريجنال... أوريجنال، ويرفعون وجوههم إلى السماء كي تلفحهم أشعة الشمس وتسمر أجسادهم، أما أنا فقد ورثت سنينا من الشمس، وسنينا من الحر، وهذه الكلمة التي ترن في أذني من كل فم : "لاشيء يعجبني".
تناولت الطاجين مثل السياح، وأنا أستمتع بصنبور الماء وهو يلفظ أنفاسه ويبعثها من جديد، وكأنه يولد من الأرض، وأحاول ألا أحدق كثيرا في السيدة المسنة التي تتناول الغذاء مع صديقتها، وهي تتحدث بوهج غريب صاعد من المقلتين وكأنه يعلن ميلادها في تلك اللحظة، وتقول لها وهي تقضم الأكل المغربي: " سي بون"...لكنني أنزلق معها من الكتفين الشاردين عن الطبيعة الملتحمة، وأعانق الصدر دون رغبة مني لأستقر عند شرخ عميق التأم منذ زمن. كان هذا الشرخ يبرز أثر عملية جراحية يبدو أنها للقلب، لكن هذه السيدة تنبض بالحياة، وكل شيء يعجبها هي وصديقتها، يتأملان الماء والأشجار الصغيرة والطواجين التي تختال في هذا المكان، ويتحدثان بحيوية فتيات في العشرين. لم أستطع أن أخبرهما أنه لا شيء يعجبني، ولكنني فكرت أن هذه السيدة سبق لها أن داعبت الموت بقلبها، وهي تعود للحياة ولا تشتكي، وأبدأ في عد التشكي الذي حصرته في هذا الأسبوع، أكون أنا وأصدقائي قد حصلنا على مليون تنهيدة وألف توتر ومائة تكشيرة... ويكون الزمن الذي نعيشه زمن الانفعال والغضب والأسى، ونكون قد رغبنا في تغيير أشياء كثيرة في حياتنا وأحلامنا ولم نفعل، كنا نثرثر فقط لنحمل معنا ثرثرتنا إلى الفراش وننام ونحن نشكو.
ولكنني منذ أسبوع ذهبت لإجراء مساج استرخائي، وكانت أصابعي مثقلة بشيء لست أدري ما هو، وأنا أعاتب وأشكو عدم النوم والساعة الصباحية والعمل الكثير. كانت الفتاة التي أجرت مساجها طفلة صغيرة جدا، وكنت أداعب يديها وهي تضحك ويسيل لعابها، فأعمد إلى مسحه ويمتلأ أبواها بفرح غامر وهما يقبلانها بقوة، وبسعادة لا توصف، لكنني بعد حين عرفت أنها معاقة ذهنيا وأنها هنا من أجل ترويض اليدين والقدمين حتى لا تتألم. لم أستطع أن أغض الطرف عن عيونهما الملأى بسعادة قصوى، لم يكن يخرج منهما التشكي الذي ننشره في كل مكان حتى فوق هذا الطقس، لم يكونا يظهران الألم. كانا يفرحان فقط بتلك اللحظة فقط، وكنت أشعر بالخجل: لماذا نشكو كثيرا؟ لماذا نتعب كثيرا؟ لماذا لا يعجبنا أي شيء؟ لماذا لا نشعر بسعادة اللحظة والزمن واللقطة والجزئي؟ لماذا نفكر كثيرا في الغد؟ ولماذا لا ننتهي من شرب أقراص النوم، ومضادات الاكتئاب ؟ لماذا نحمل العلب بكل الأشكال والألوان، ونتحدث عنها كما لو أننا نتحدث عن نوع العصير الذي يعجبنا، والذي سنتناوله بعد قليل؟
الشمس في مكانها تنظر إلينا، ولكن بعضنا يبتسم لها، والبعض الآخر يكشر في وجهها، وهي الشمس نفسها. نحن الذين نغيرها بعيوننا، وأنا لا أريد أن أطل عليها، أحاول أن أخرج كل الشكوى التي أحملها في صدري بدافع طقوس الحياة وأرسمها فوق الورق ثم أحرقها، وأتأمل الآخرين الذي لا يملكون قوتهم اليومي أو يئنون في المستشفيات أو يتصارعون من أجل صحن صغير وأصمت، وأحول كل الأشياء التي لا تعجبني إلى شيء يعجبني وأبدأ بي أنا أولا، لأحولني إلى شيء يعجبني وأنظر إلي في المرآة رغم بعض التجاعيد الصغيرة وأقول لي: ها أنت اليوم أفضل من البارحة.
أتذكر حديث صديقي الصباحي وأتأمل الأصدقاء وأسأل: هل نحن فعلا أصدقاء؟ ويخطر في بالي الجيران: لا أحد يريد أن يرد التحية الصباحية إلا على مضض، وأتذكر أزمنة أخرى كانت بيوت الجيران لا تقفل أبوابها وكأنها مفتوحة للآخرين، يبكون معا، ويضحكون معا، ويحزنون معا ويفرحون معا. والآن يخبىء الفرد في حقيبته دفتر شيكاته ورصيد أسراره وحقده الصغير، ونظارته للنظر عن قرب وللتطاول عن بعد، وفرديته الجميلة، وعلبه المفضلة من أقراص النوم. لا أريد أن أتأمل كل هذا التشكي الخارج من الزحام ولا أريد أن أكرر أن لا شيء يعجبني، وأتفقد يدي في الصباح تحمل كوب الماء، وتدون شيئا ما، وأصافح بها الآخرين، وأجمع شتات زمني الفردي ليصير أزمنة أخرى، وأتأمل الناس الذي يصرخون في صمت، وأحاول أن أتخيل الحرارة طقسا آخر، وأفكر أن الشمس ما زالت تضيء، وأنتظر المطر دون قلق مبالغ، وأشفق على الذين أغرقهم المطر، والذين يموتون كل يوم على أرض أوطانهم، وأنظر إلى العليل لأشفى من التشكي، وأتذكر زمن إيليا أبو ماضي وأردد معه:
أيها المشتكي وما بك داء            كيف تشكو إذا غدوت عليلا .

الصورةُ والآخر: عمران شيخموس .

عبداللطيف الحسيني .
حينَ أجدُ لوحةً تضجُّ ألواناً مُهدَاة لعامودا , أجدُ نفسي تتلقّفُها قبلَ أنْ يستحوذََها غيري ليستأثرَ بها ويتركني بعيداًعنها دونَ أنْ أجعلَها تفكّر بنا (نحن كمجموع). ما يُدنيني من ألوان عمران هو هذه الألوانُ التي تقتربُ منّا وتلامسُ أدقّ تفاصيل حياتِنا التي باتتْ أقربَ إلى كلّ الألوان , بعدَما كانتْ تحتدّ بوحدتِها وثباتِها حيث لونٌ واحدٌ يغطّي كلَّ الملامح و يسوّدُ كلَّ ألوان الحياة ويقبّحُها عقماً وسقماً, دونَ أنْ يفرّقَ بينَ ملامح صغير أو كبير , و لتصبح كلُّ الوجوه وجهاً واحداً أمامَ مرآةٍ  مهشّمةٍ تجعلُ الوجهَ النِّضِرَ لا ماءَ فيه .
حين اختارَ لونُ عمران مكاناً أثيراً (عامودا) وكأنّه اختارَ أمكنةً بنفس الآن لأنّها مدينةٌُ خيّبَها بعضُ أهلها من "مثقفين صامتين" عندئذٍ تفرضُ الموازناتُ نفسَها في سياق الفنّ والأدب , و من هنا تكون القيمةُ والمعيار لأيّ لونٍ أو شكل أدبيّ , ما أعنيه هو طوفان التغيير يرافقُه طوفانٌ من نوع آخر : الألوان والكلمات, فهما الشكلُ الملائِمُ لاستنطاق المسكوت عنه ومجاراة الواقع الحيّ . أَمَا كانَ يُقال بأنّ الأدبَ انعكاسٌ للواقع ؟ . فأين انعكاسُ المرايا ؟ ولنْ أسألَ عن غياب الشّخص والنصّ معاً , ففيهما تكمنُ المرارةُ ذاتُها .
عمران قَرَأَنا من خلال فضاءٍ مُغيِّر لا حدودَ له , ليَجدَ عندَنا فضاءَاتٍ تشبهُ عالمَه اللونيّ الذي وَجَدَ وَهَنَاً فينا فتحايل عليه وغرسَ في كلِّ زاويةٍ لوحةًً توحي : هذه هي ألوانُكم التي تشبهُ حياتَكم الجديدة , فخذوها بالقلب واليدين .
...
كانَ الفنُّ يواكبُ حركاتِ وسكناتِ مجتمع يطوف مدّاً ثوريّاً ’ وكان عمران يأتي بتلك الحمولات الثقيلة إلى غرفة دمشقيّة بحجم الكفّ ليلطّخَها بألوانه التي تفتّتُ الرتابةَ والكآبة:(هكذا وجدتُه قبل عقدين) .
يستدعي عمران غبارَ طفولته وطينَها الجزراويّ إلى صقيع الحياة حيث يعيش فنّاً ولوناً على مدار يومه , يعجن اللون و يحوّلُه فنّاً ويضعه أمامَنا : (هكذا أقرأُه الآن).
كم لوحةً من عمران تكفي لتعيدَ السكينة إلينا ؟ :هكذا قال أحدُ الأصدقاء .


الأحد، 20 نوفمبر 2011

أنت منذ الآن غيرك


دونَ عهد أوتخمينٍ باتَ الكائنُ الجديدُ يبني ذاتَه الخلّاقة على أُسسٍ تَجِبُّ ما انكسرَ فيه أو ضاعَ بينَ سنواتِه التي أمضاها على نمطٍ , أقلُّ ما فيه الخسّةُ والدناءِةُ التي باتتْ لا وجودَ لها في الحياة الجديدة التي تتطلّب ترقيقاً في التعامل والحديث ,تلك صفاتٌ نلمسُهُا و نتقرّاها على الوجوه , وتصرّحُ بها الأفواهُ التي غادرتْها رعونةُ وغدرُ وصفاقةُ سنواتٍ طِوالٍ ,لأنها وُلدتُ وعاشتْ في كنفِ تربيةٍ غير صالحةٍ ذات بعدٍ أُحاديٍّ صقيعيّ لا يقبلُ الآخر ولو كانَ أمامَه وإمَامَه الصوابُ نفسُه, ومن هنا لن تكونَ المفاجأةُ في هذا الاكتشاف الجديد.
فكّكت الأشهرُ الكثيرةُ – القليلةُ مجتمعاً كانت المحاباةُ أعلى صوتٍ فيه وبُنيت الصداقاتُ النفعيّة – الصفقاتُ على ذاك الأساس الهشّ والسقيم , ولأنّها بُنيتْ سقيمةًً وقابلةً للمَوَات في أيّة لحظةٍ يكونُ فيها كتابُ الآخر في يمينه أو في يساره , فمن الطبيعيّ أنْ تتفكّك و تتميّع لتحلّ محلَّها (عداوةُ الصداقة) .
“أنت منذ الآن غيرك” : يطبّقُهُ المرءُ على نفسه وعلى غيرِه حتى على امرىءٍ عرفَه على عجلٍ التقى به في شارعٍ موّارٍ يغلي بتغيير بنيته التي أقصت الآخرَ , ذاك الآخرُ ستكونُ له رؤيتُه الخاصّة التي (يجبُ) على الآخرين تقديرُها و مناقشتُها, و هذا ما ستبديه الأيّامُ عاجلاً , فالوقتُ وقتُ امتحان عسير , ولن تقبلَ الحياةُ إلا ما كانَ واضحاً و مفهوماً و قابلاً لشتى القراءات .
أُرَدّدُ مع محمود درويش .
أنتَ منذ الآن غيرُك .
فلا تحاول الاختباء , فذاك زمنٌ ولّى عهدُه بل انقرض .

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

الشيطان في الأدب: أمير المنفي وملك الأنفاق الكبير

الشيطان هو ذلك الملاك الذي تحطمت أجنحته، فهوى الى أعماق الجحيم. لذلك هو يجسّد الشر المطلق، كما يمثل الملاك الخير المطلق. الشيطان هو إذاً شر نقي، طاهر يشعل بصفائه رغبة الأجساد، ويلوّث الأرواح التي يعبث بها. الشيطان جزء من النفس البشرية، قد يُخيّل للبعض أنه هو الذي يتلاعب بنا. إنما في الحقيقة، إن جزءاً من نفسنا هو الذي يتحكم بنا. إذ أن كل الرغبات المقموعة تتغلغل في النفس البشرية، ومن ثم تتجلى وكأنها قوة غريبة عنها. وذلك لأننا لا نريد أن نعترف، لا نريد أن نُقر بأننا نحن أنفسنا شياطين، شياطين وملائكة في آن. إنه الشيطان، إنها ألاعيب الشيطان وإغراءاته... ولذلك ننبذ الشيطان ونرفضه، وذلك لكي ننعم بالطمأنينة، طمأنينة الغافل عن نفسه... ولكن، لا، لا تطمئنوا، فإن الشياطين كامنةً في أجسادكم وعقولكم، هي جزء لا يتجزأ من غرائزكم وأفكاركم. سأنظر الى نفسي في المرآة وأرى نيران الشياطين تتّقد في عيوني، وسأقول لنفسي: "أنا ملاك الجحيم، وسأحلّق بأجنحتي السوداء الى أقصى حدود النعيم!".
برز الشيطان بشكل أساسي في التيار الأدبي الرومنسي، إذ أننا نشهد على إرادة دمج الخير بالشر في تلك الأجواء. إنه الملاك الثائر، الملاك الساقط. وقد عبّر فيكتور هوغو في عمله الأدبي "نهاية الشيطان" La Fin de Satan عن السقوط الذي يؤدي أخيراً الى الخلاص بفضل ظهور ريشة ملاك الظلمات، وهكذا يلد ملاك الحرية. لطالما عالج التيار الرومنسي مسألة الشر، مُعتبراً أن الشر قد ينتهي يوماً ما. يظهر ذلك في "نهاية الشيطان" La Fin de Satan لفيكتور هوغو: "مات الشيطان، عد الى الحياة، يا لوسيفار السماوي!". وهكذا، تمازجت في هذا العمل الأدبي التناقدات ضمن حركة الموت والولادة.
نهاية الشيطان
يظهر سقوط الشيطان الأبدي في قصيدة "نهاية الشيطان" La Fin de Satan الرائعة: "هو يسقط في الهاوية منذ أربعة آلاف سنة/ عجز عن التشبث بقمة الجبل/ ولم يستطع أن يرفع جبينه المتعالي/ غاص في العتمة والضباب، خائفاً/ وحيداً، ووراءه، في الليالي الأبدية/ هوت ريَش أجنحته ببطء/ وقع مصعوقاً، كئيباً، صامتاً/ حزيناً، فمه مفتوح ورجلاه متجهان نحو السماء"، ويتواصل سقوط الشيطان: "كان يهوي. وفجأةً ضربت يده صخرةً/ فعانقها، كميت يعانق قبره/ ومن ثم توقف. صرخ أحدهم من فوق: - أُسقط!/ سوف تطفأ الشموس من حولك، أيها الملعون!-/ وضاع الصوت في ذلك الهول الواسع/ بات شاحباً ونظر نحو الفجر الأبدي/ كانت الشموس بعيدةً، ولكنها كانت تلمع/ فرفع الشيطان رأسه وقال، رافعاً يديه/ - أنت تكذب!- باتت هذه الكلمة لاحقاً روح يوضاس". يبدو جلياً في هذه القصيدة وكأن السقوط يقترن بالعتمة، وبنهاية النور، إذ أن الشموس تنطفئ. إنه النور الإلهي الذي حُرم منه الشيطان، الملاك المطرود من النعمة الإلهية. إنها اللعنة التي تترافق مع مشاعر الذنب، إذ أن صوتاً يتهم الشيطان أنه كاذب. ونلاحظ في هذا السياق تكرار عبارة "أبدي"، إذ أن ذلك السقوط هو قدر الشيطان السرمدي. تعبّر إذاً هذه البيوت ذات الجمال المميز عن حالة السقوط التي تعيشها أرواح ملعونة لا تعرف الراحة. في هذه القصيدة ذات الطابع الديني والملحمي المؤلفة من 5700 بيت، يهوي الشيطان، إنما الشر ظل ينتشر بين الناس بفضل إبنته ليليت - إيزيس. ولكن ينبع الخلاص من إبنة الشيطان الأخرى "ملاك الحرية" التي خلقها الله بإحدى ريشه الخاصة، وهي تطير لتنقذ البشر. لذلك، لا يمكننا أن نقتنع بأن مصدر الشر هو تلك الصورة الشيطانية الراسخة في خيالنا الجماعي، إنما الشر ينتشر بين البشر، لأنه بشري، ويلد من رحم الإنسان.
فاوست
تتجلى صورة أدبية أخرى للشيطان في عمل غوته الأدبي "فاوست"، حيث الإنسان والشيطان منفصلان عن بعضهما، إنما يتفقان. وبالفعل، يعقد فاوست اتفاقاً مع مافيستوفلاس، الشيطان، فيجرفه هذا الأخير بالملذات الأرضية، وبالمقابل يسلّم فاوست روحه للشيطان. أما في الجزء الثاني من ذلك العمل الأدبي فيتطرق غوته للمشاكل السياسية والاجتماعية. يتم استدعاء فاوست ومافيستوفيلاس الى بلاط الأمبرطور، ويقرر فاوست أن يعيد إيلين وباريس للحياة. فيضطر الى النزول الى منازل الآلهة الأكثر غموضاً، وهن الأمهات. يُغرم فاوست بأميرة سبارتا، فيطلب من مافيستوفيلاس أن يقتادها الى اليونان القديمة. أما في الجزء الثالث فيتم اقتياد إيلين في قصر مينيلا مع الأسيرات الطرواديات اللواتي تؤلفن جوقة موسيقية. يحذرها الشيطان المُقنع أن مينيلا سوف يقتلها، ومن ثم يصطحبها الى القصر الذي يحكمه فاوست، فيعيش فاوست وإيلين بسعادة. يلد أبنهما أُفوريون، ويموت. فتهجر إيلين فوست وتختفي. وفي الجزء الرابع، يجلس فاوست على الجبل حيث يغني ليعبّر خيبته. يأتي الشيطان ويقول له إن الإقطاعيين قد ثاروا على الإمبرطور، والمعركة باتت وشيكة. فيدمر الشيطان جيش الإقطاعيين، ويقدم الأمبرطور أرضاً لفوست تعبيراً عن امتنانه له. في الجزء الخامس، يكتسب فاوست أساليب الاستغال الرأسمالية، ويحاول الحصول على أراضي فيلامون وبوسي. وبما أنهما يرفضان يهاجمهما رجاله ويقتلهما. تمزّق قلب فاوست جراء ما حصل، فأقبلت أربعة آلهةً لزيارته، وهي الفقر، الدَين، الضيق والهم، فتقنعه هذه الأخيرة بالموت. وبعد أن يفارق فاوست الحياة، تكفّر مارغريت عن خطاياه وتنتزع روحه من الشيطان. اكتسب الشيطان في هذا العمل الأدبي قوةً خارقةً، إذ أنه يتدخل في مصير الشخصيات ويغير حياتهم. هو إذاً صورة للشر، الجشع والرغبة التي تفرض نفسها. ونلاحظ بأن الشيطان يحقق لفاوست رغباته، إذ أنه هو جزء منه، هو تلك الناحية من شخصيته التي تتوق الى فرض نفسها في هذا العالم. فلماذا لا يعترف الإنسان أنه هو الذي يقوم بكل هذه الأفعال؟ ولماذا يخلق صورة الشيطان؟ ربما ليلقي اللوم على أحدهم، وفي نهاية المطاف يتم الصفح عن روحه البريئة التي جرفها الشيطان في الشر.
رغبات من الجحيم
في رواية Les Diaboliques الشيطانيون لباربي دورفيلي، يبرز الشيطان، إنما كحليف للمرأة بشكل أساسي. الشيطان هو الرغبة في هذا السياق، هو نار الجحيم التي تشتعل بين فخذيها، وما يؤجج هذه النار هو شعور الذنب المُمتع الذي يرافق تجاوز المحرمات الاجتماعية. إذ أن الحرية الجنسية التي تتيح لنا أن نتمتع بأجسادنا تفتقد الى ذلك الشعور الرائع بالتدنيس الذي يرافق الجنس في الأجواء التقليدية والدينية. وها هو الشيطان بروعته الأخاذة والتدميرية في هذه الحالة! بالفعل، تكتسب المرأة في القصة القصيرة "السعادة في الجريمة" Le Bonheur dans la Crime بعداً شيطانياً، فهي المجرمة التي تقتل زوجة عشيقها السري من أجل رغبتها: "كانت هوتكلار قليلة التأنق، إنما كان لها، حين تستمع إلينا ونحن نكلمها، طريقتها بتناول شعرها الطويل المجعّد والمتجمع في ذلك المكان من رقبتها، ذلك الشعر الثائر على المشط الذي يملّس الكعكة، تلك الطريقة التي تكفي لزرع الاضطراب في النفس، كما ورد في الكتاب المقدس". في هذا العمل الأدبي، نلاحظ بروز المقدس، الذي يتناقد ويتمازج مع الشيطاني. ويصف الكاتب هوتكلير، الشخصية الرئيسية في هذه القصة القصيرة، من خلال عبارة: "تلك الفتاة الشيطانة". تقترن هذه الإمرأة الشيطانية بالأفعى من خلال الإبرة على "صدرها المثير"، إذ أن الإبرة تغرز البشرة على غرار أسنان الأفعى التي تلدغ. هوتكلار هي أفعى تقتل بدافع الرغبة، إذ أنها تسمّم زوجة عشيقها السري كونت سافينيي. وتبدو تلك المرأة وكأنها "أفعى نراها تتمدد وتنبسط، من دون أن تصدر أية ضجةٍ، وتقترب من سرير المرأة النائمة". تبرز العبارات التالية التي تربط بين المرأة والشيطان في تلك القصة القصيرة: "هنّ تفعلن ما تشأن بأجسادهن الشيطانية، تلك الثعابين الأنثوية"، "كل الفتيات اللواتي وضعهن الشيطان على طريقه". وهكذا، تشبه هوتكلار الأفعى التي تتحرك بهدوء، إنما تؤذي بشدة. هي تؤذي لتنعم بسعادتها مع حبيبها، تلك السعادة التي تبدو وكأنها "سخرية منتصرة ومتفوقة من قبل الشيطان في وجه الله، إن كان الله والشيطان موجودين!". وبالفعل، يبدو الشيطان وكأنه حليف النساء في تلك الحالة، إذ أنه هو الذي يعلمهن "أن تكنّ ما هنّ عليه، أو بالأحرى هن اللواتي تعلمنه". يبرز إذاً بوضوح التوافق بين الإمرأة والشيطان، ذلك التوافق الذي بدأ منذ سفر التكوين حين عصت حواء إرادة الله وأكلت التفاحة كما أوعز إليها الشيطان المتجسّد بالافعى.
انتقام امرأة
وفي القصة القصيرة "إنتقام إمرأة" La Vengeance d’une Femme لباربي دورفيلي من نفس ذلك العمل الأدبي، تبرز العبارة التالية: "حين يخلق الله إمرأة جميلة، يخلق الشيطان فوراً، بالمقابل، رجلاً أخرق ينفق عليها المال". وفي هذا السياق، يقترن الشيطان بالسواد وبالسقوط، إنه السقوط في الجحيم حيث "الشيطان هو أمير الظلمات. هو يمتلك هنا إحدى إماراته"، "الشيطان، الأب المرح لكل حالات الفوضى". وفي هذه الهوى الظلماء حيث فُتحت أبواب الجحيم، يشرع روبير تراسينيي باقتفاء إمرأة جرّته إليها رغبته، من خلال تعقّب "فستانها الذهبي، الذي كاد يختفي لبرهة في ظلمة تلك الفجوة المُعتمة". قد يبعده قرفه عن تلك العاهرة "إنما الشيطان تمسّك به". يرتبط إذاً الشيطان بتلك الرغبة المتّقدة التي تتحكم بالرجل. إنما تلك المرأة، التي تجرف روبير الى أعماق هوة الجحيم، هي دوقة أركو سييراليون. وقد خانت تلك المرأة زوجها مع عشيقها فاسكونسالو، الذي عاشت معه علاقة حب طاهرة وملائكية. إنما زوجها قتل عشيقها، فقامت بتطهير حزنها بعهرها. تبرز في هذا السياق صورة الملاك الساقط، إنه الشغف الطاهر الذي تحوّل الى قذارة. تلك هي صورة الشيطان، الملاك المدمر التي تفتت ريشه، فهوى الى أعماق الجحيم.
وفي القصة القصيرة "الستار القرمزي" Le Rideau Cramoisi لباربي دورفيلي، تبرز العبارة: "هي تستسلم لذلك الشيطان الذي يتغلغل في جزءٍ ما من كل النساء – كما يُقال - فيكون السيد الدائم، بالإضافة الى سيدين آخرين – الجبن والخجل -". وهكذا، يتناول الكاتب قصة ألبارتين "المثيرة بشكل شيطاني"، التي يجرّها شغفها الى التسلّل ليلاً الى غرفة عشيقها، وهو طالب داخلي يقطن في منزلها. إنما هي تنجح بإخفاء علاقتها به خلال النهار بحضور والديها اللذين يعيشان معها وعيشقها في البيت نفسه، من دون أن يدركان حقيقة ما يحصل حين تغيب الشمس. ترتبط في هذا السياق طبيعة المرأة الشيطانية بقدرتها على إخفاء رغبتها؛ إذ أن ألبارتين تبدو هادئة للغاية طيلة النهار، إنما تفجّر رغباتها ليلاً. وتبدأ رواية "أجمل حب في حياة دون جوان" Le Plus bel Amour de Don Juan لباربي دورفيلي، التي استُهلت بجملة: "أشهى مآدب الشيطان هي البراءة"، بحوار يتناول دون جوان والشيطان. وتقول إحدى النساء: "الشيطان لا يموت"، فتجعل من الشيطان ودون جوان أسطورتين خالدتين. وهكذا، يبدو وكأن جاذبية دون جوان التي تسحر كل النساء مُستمدة من قوى الجحيم، فيُطرح السؤال: "هل كان له اتفاق مع الشيطان؟". تعرض هذه القصة القصيرة لقاء دون جوان مع عشيقاته الإثنتي عشرة خلال عشاء جهنمي يبدأ لدى مغيب الشمس ويطول كل الليل. وقد كانت الأجواء شديدة الإثارة طيلة ذلك اللقاء، لذلك ذكر الكاتب المشهد التالي في نهاية القصة القصيرة: "حين كان يوسف عبداً لدى السيدة بوتيفار، كان شديد الجمال، إذ أن النساء الحالمات كنّ يقطعن أصابعهن بالسكاكين وهن تنظرن إليه، كما ورد في القرآن". وهكذا، لا يتردّد باربي دورفيلي عن مزج المقدس بالأجواء الشيطانية، لينتج عن ذلك شر مقدس باهر.
وفي القصة القصيرة "خلال عشاء الملحدين" A Un dîner d’Athées لباربي دورفيلي، يتجلى حضور الشيطان: "إنه أحد العشاءات التي يعرف الشيطان وحده أن يعبث بها من أجل أناسه المفضلين... وبالفعل، أليس ضيوف هذه العشاءات هم من كبار المفضلين لدى الشيطان؟"، "وكان مجلس الشياطين ذوي القرون المتعددة مرؤساً من شيطان كبير يعتمر قبعة من القطن". يتبادل ضيوف هذا العشاء الأحاديث ويتكلمون عن أنفسهم، فيوصف المشهد وكأنه "اعتراف الشياطين". وتكثر العبارات الشيطانية في أحاديثهم على غرار: "فليقتلع الشيطان عينيَّ بمخالبه"، "فوهة الجحيم". كما يستخدم مانيلغران، أحد ضيوف هذا العشاء عبارة "المرأة هي مغناطيس الشيطان!" خلال تطرقه الى روزالبا، وهي أكثر النساء فسقاً وحشمةً. وبالفعل، إنها روزالبا "تلك الزانية الفريدة من نوعها التي رواها الشيطان بالحشمة، والتي، على الرغم من عهرها، حافظت على قدرةٍ، ذات طابع خارق، تجعلها تحمرّ حتى عمودها الفقري مئتي مرة كل يوم!". وهكذا، يلعب الشيطان دور الخالق: "هل العالم هو نتاج الشيطان، حين فقد صوابه؟ إنه بلا شك ذلك الشيطان هو الذي خلق روزالبا في إحدى لحظات جنونه المُفرط، وذلك من أجل لذته الخاصة... وقد قام ذلك الشيطان بمزج اللذة بالحشمة، والحشمة باللذة، ومن ثم فلفل بالإثارة السماوية، تلك اليخنة الجهنمية المليئة بالملذات التي تقدمها المرأة للرجال الفانين".
غالباً ما يكتسب الشيطان في الأدب بعداً إلهياً، إذ أن بودلير يتوجه اليه في قصيدته "صلوات للشيطان" Les Litanies de Satan من ديوانه "أزهار الشر" Les Fleurs du Mal: "أنت أكثر الملائكة معرفةً وجمالاً/ إله خانه القدر وحُرم من المديح/ يا أيها الشيطان، إرحم بؤسي الطويل!/ يا أمير المنفى، الذي لطالما أذيناك/ فتنهض على الرغم من هزيمتك/ يا أيها الشيطان، إرحم بؤسي الطويل!/ أنت الذي تعرف كل شيء، يا ملك الانفاق الكبير/ ويا أيها الشافي المألوف للمخاوف البشرية"، وهو يضيف: "أنت الذي أنجبت من الموت، عشيقتك العجوز والقوية،/ الأمل - ذلك المجنون الفاتن"، ويبرز البعد الأبوي للشيطان: "أيها الوالد المتبني كل الذين طردهم/ الأب الإله من الجنة الأرضية". كما يكتسب الشيطان بعداً إلهياً في قصيدة إيوان غيلكين "نشيد الشيطان" Hymne à Satan: "ولدت كل الكائنات من نار غضبك/ نحن نمجدك، أيها الشيطان، يا والدنا الحقيقي". ويضفي هذا الشاعر على الحب بعداً شيطانياً: "تسرّبت روحك الشيطانية الى روحي/ إمتص قلبي كيانك القذر على غرار المصفاة/ ولم أعد أعرف الإله الذي كنت أعبد". تتمازج الأرواح في هذه البيوت الرائعة، وتغمر الروح الشيطانية روح حبيبها لتغرقها في جحيمها.
الشيطان القاتل
أما في رواية تيوفيل غوتيه القصيرة "ممثلان لدور واحد" Deux Acteurs Pour un Rôle فيبرز الشيطان ضمن سياق فني ومسرحي. يريد هانريش أن يلعب دور الشيطان في إحدى المسرحيات، ولكنه يلتقي بالشيطان في خلفية المسرح. يهاجمه الشيطان ويلعب دوره بنفسه، ويثير إعجاب الجمهور. يرتبط في هذا السياق الشيطان بازدواجية الشخصية، إذ أن ذلك الشر يكمن في شخصية كلٍّ منا، وظهور الشيطان هو تعبير عن ذلك الشر. وبالفعل، يظهر الشيطان في هذا السياق وهو شديد الغموض، يرتدي بزة الممثل نفسها، وعيناه ذات شفافية خضراء تلمعان في العتمة، كما أن لأسنانه البيضاء شيئاً من الشراسة. أما في رواية "أونِفريوس" Onuphrius لتوفيل غوتيه فيرتبط الشيطان بالجنون الهذائي. وبالفعل، يتساءل الرسام أونِفريوس: "ما هي الأسباب التي قد تدفع بِلزيبوت الى اضطهادي؟ فهل هو يريد أن يسيطر على روحي؟"، وهو الذي يظن أن الشيطان قام بتحريك عقارب الساعة، كما أنه يتخيل أن الشيطان حاول أن يعبث برسمته، إذ أن براثن أوذيل الشيطان قد اخترقها، "وعلى اللوحة، الى جانب وجه جاسينتا الحلو والنقي، كان وجهاً وحشياً يكشّر بشكل مشؤوم، وهذا الوجه ليس سوى نتاج هذيانه". إذاًَ يبدو وكأن الشيطان يسكن عقل هذا الرسام ويتلاعب به، إذ أن الجنون مُتجسداً في الشيطان. تبرز كذلك في هذا السياق شخصية كلاريموند في القصة القصيرة "العاشقة الميتة" La Morte Amoureuse لتيوفيل غوتيه، وهي إمرأة ذات طابع شيطاني تظهر في حياة سارد الرواية أثناء احتفال ترسيمه كاهناً. إنها اللحظة التي يستعد ليتخلى فيها عن كل ملذات هذه الحياة ليكرّس نفسه لعبادة الله، إنما تجذبه تلك المرأة، و"هي ملاك أو شيطان، وربما الإثنين". وهي تنافس الله قائلةً: "إذا كنت تريد أن تكون لي، سأجعلك أكثر سعادةً من الرب نفسه في جنّته؛ الملائكة ستحسدك". ولكن هذه المرأة المثيرة، التي تجسّد إغراء الشيطان، باتت قاتلة في نهاية المطاف، إذ أنها أخذت تمتص دماءه لتعيش. إنه الشيطان المدمر الذي يتناوله بودلير في إحدى قصائد "أزهار الشر" Les Fleurs du Mal، "التدمير" La Destruction: "يهيج الشيطان الى جانبي بلا توقف/ فيسبح من حولي كهواء غير ملموس؛/ أبتلعه مع الأحاسيس التي تشعل رئتي/ وتملأها برغبة أبدية ومذنبة". وهكذا، يبرز الشر الشيطاني بأشكاله المتعددة، فهو تارةً مصدر رغبة وطوراً قاتلاً، مدمراً. إنه في نهاية المطاف تلك الرغبة القاتلة التي تضفي على حياتنا معنى مميزاً.

منير ابي زيد
المصدر: السفير

الأحد، 30 أكتوبر 2011

الشاعر السوري عبد اللطيف الحسيني في ضيافة المقهى - فاطمة الزهراء المرابط

الشاعر السوري عبد اللطيف الحسيني… في ضيافة المقهى؟؟!
  فاطمة الزهراء المرابط 
- الحلقة 88-

 (  فاطمة الزهراء المرابط  )
من سوريا، مبدع يجمع بين الشعر والنقد، يتنقل بين الكلمات الدافئة لينسج لنا نصوصا إبداعية مثيرة للاهتمام والقراءة، له حضور جميل في بعض المنابر الورقية والالكترونية، من أجل التعرف على المبدع عبد اللطيف الحسيني وعلاقته بالمقهى كان الحوار التالي….
بعيدا عن الكتابة، من هو عبد اللطيف الحسيني؟
أنا هو نفسُه خارجَها أيضا، الداخلُ فيَّ هو نفسه الخارجُ : لا أستطيعُ الانفصال – مهما حاولت – في الكتابة عوالمُ من حروف وكلمات، وحين الخروج منها أشخاصٌ من حروف وكلمات أيضا، فأمّا أنْ أكتبَ عن العالم الشعري الذي لا ينتهي، وأمّا أنْ أتحدثَ مع أصدقائي الأدباء عن نفس العوالم ، ما أجمل أنْ تكون الحياة مليئة بالأدب، أسألُ، وأُسْألُ بنفس الوقت، يغضبني أنْ أكون السائل دائما، و بنفس الوقت أنْ أكون مسؤولاً أيضا، لو بقي المرءُ سائلا لَمَا استفادَ ، ولو بقي مسؤولاَ أيضا . مع إضافة معلومة : أنا طارئ على النت وأدغاله، هل تعلمين يا فاطمة : ما زلتُ أجهل جهلاً تامّاً ( المسنجر) و( الفايس بوك)؟ تركتُ هذا العلم لابني الذي يفقه في ( الحداثة ) أكثر مني .
متى وكيف جئت إلى عالم الإبداع؟
أمّا متى ؟ فأنا نفسي لا أعلم : وجدتُ مكتبة في كلّ غرفة من منزلنا : أخي الأكبر كانَ يملك مكتبة خاصة به، فلم أجدْ نفسي إلا قارئاً لها، أقرأُ دونَ أنْ أفقهَ شيئاً ممّا فيها لصغر سنّي، ولصعوبة الكتب تلك، وإنْ انتقلتُ إلى مكتبة والدي أجدُ مكتبة ضخمة، وحاشدة بكتب الأدب والفقه، والتراث خاصة : كتاب الأغاني – العقد الفريد – الفتوحات المكيّة – حلية الأولياء – والتفاسير الكثيرة للقرآن والحديث – ديوان الشاعر الكرديّ (ملاي جزيري )، إضافة إلى كتب طه حسين والعقاد، وتاليا درّبني والدي على : كيف أَقرأ ؟ وهو شيخ طريقة علمية أدبية – فقهيّة في كل منطقتنا . هذا الوالدُ علّمني أصول القراءة، واختيار نوعيّة الكتب التي ستخلق لديّ مَلَكة ( الكتابة ) لاحقا، الآنَ أفطنُ لتلك التدريبات التي لقنها لي والدي: كانَ يجبُ أنْ أقرأها كما طلبَ مني، وقد فعلت. نشرتُ نصوصي في الصحف والدوريات السوريّة والعربية، ولي من الكتب خمسة، وأشتغلُ على كتابين نثريين، أتمنى أنْ أُنهيهما في العام القادم ( 2010)، لكنْ – حقيقة – أُحسّ بأني مازلتُ في البدايات، و يجبُ أنْ أكونَ في البدايات، بدايات القراءة والكتابة . كي أكتبَ قليلاً، وأَقراَ كثيراً.
كيف تقيم وضعية الحركة الأدبية في سوريا؟
ضمن ما أقرأُ، وما أواكبُه، بإمكاني أنْ أُبدي رأيي في الحركة الأدبية التي تعاني ركوداً ملفتاً من حيث الإصدار الإبداعي، لا من حيث النشاطات التي تقيمها المراكز الثقافيّة، بإمكاني القول : في كلّ يوم ثمة نشاطٌ ( أمسية – حلقة كتاب – محاضرة …) في المراكز الثقافية في محافظتنا ( الحسكة ) وباقي المحافظات أيضا، أمّا الحركة الشعرية فتعاني ركودا أعظم، النتاج الشعري المطبوع فيه الكثير من الاستعجال الشعريّ الذي هو نفسه ما نُشر منذ عقود، قد أَستثني شاعرا أو اثنين : جولان حاجي – علي جازو …… إضافة لذلك عندنا دورياتٌ شهرية – أسبوعيّة – يوميّة لا يتابعُها إلا مَنْ يكتبُ فيها، أقصدُ هنا بعضا من أعضاء إتحاد كتاب العرب، وما أدراكِ ما هذا الإتحاد ؟ حتى أنّي أتعجّبُ ممّن يودّون الانضمام إليه، بشروط يمليها عليهم إتحادُهم .
ما هي طبيعة المقاهي في سوريا؟ وهل مازالت تحتفظ بدورها الإبداعي والثقافي؟
المقاهي مكانٌ لكل شيءٍ إلا الأدب، هذا الانطباع خلقته الظروفُ الحالية، أمّا فيما سبق من سنواتٍ، في حلب مثلا ، كان ثمة مقهى ( القصر ) يقصده ( كان يقصده ) الأدباء بجميع مشاربهم (الليبرالي – الشيوعي – البعثي … ) وبالنسبة لي على الأقل، التقيتُ بالناقد محمد جمال باروت في ذاك المقهى، وأعطيتُه مجموعتي الشعرية الأولى ( نحت المدن الصغيرة ) عام 1995- طالبا منه أنْ يكتب مقدمة لها، كان المناخُ آنذاك مناخ نقاش، وإبداع حقيقيّ ، أمّا الآن، فلا ، قد يكون السبب هجرة الكثير من المبدعين إلى خارج سوريا . وهم بالمئات . أمّا عن المقاهي في عموم سوريا ، فلا حرج أني لم أزرْ كلها لأكوّنَ رأياً .
“هناك علاقة وطيدة بين المقهى والمبدع” ما رأيك؟
لا أظنُّ أنّ ثمة علاقة وطيدة بين المقهى والمبدع، الإبداعُ يقولُ شيئا، والمقهى شيئا آخر مختلفا، للتوضيح : هذا تقوله المقاهي عندنا، أمّا في بقية المحافظات، قد يكون الوضعُ مختلفا، وليس لديّ انطباعٌ عنها. لكنْ : عموما باتت المقاهي للعب الورق والتدخين والصخب والضجة التي تنافي الإبداع قلبا وقالبا. هذا انطباعي قبل، وبعد التواصل الإلكترونيّ .
” المقهى فضاء ملائما للكتابة”؟
لو دخلتِ أيّ مقهى عندنا للحظةٍ، لوجدتِ وجهتكِ تُدار بعكسها تماما، الضجة لا تخلقُ إلا الضجة، ليس ثمة ما يُغري بالجلوس في المقهى، الجلوس للحظات بانتظار صديق لك، نعم، انتظار صديق للخروج من جوّ المقهى الخانق – الصاخب . فضاء المقهى فضاء ضبابي صخبيٌّ، وأظنُّ أنّ الصفتين لا تلاؤمَ بينهما وفضاء الأدب الهادئ الساكن.
ماذا تمثل لك: الكتابة، سوريا، الحرية؟
الكتابة: اليوم الذي يمرُّ دون أنْ أكتبَ فيه، لا أحسبه يوما من الأيام .
سوريا: الاسمُ جميلٌ حين ينطقُه المغتربُ . قال أدونيس عن دمشق مرة : بأنها الأُمّة والأَمَةُ و الأمُّ ، ذاك رأيه . أتفقُ معه في جزءٍ فقط .
الحريّةُ : نكرّرها باستمرار، لكننا لا نعيشها .
كيف تتصور مقهى ثقافيا نموذجيا؟
ما أتصوّرُه لن يتحققَ، أريدُ من المقاهي أنْ تكون صالةُ عرض للمسرح والسينما، وقاعة للمناقشة، لا ضجيجَ، ولا ادعاء . وما أكثرَ الضجيجَ، والإدعاءَ في حياتنا الثقافيّة والفكريّة.
*******
أشكر جهود الأُستاذة المجتهدة (فاطمة الزهراء المرابط) وحواراتها التي تمسكُ بالمشرق لتضعه في المغرب، وهذا دليلُ بتر الحدود بين الجميع
http://www.doroob.com/?p=10563

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

قراءةُ الوجوه .


إلى محمّد علي ابن ولي .
وجوهٌ تتغيّر, تبدّلُ ملامحَها ساعةَ تشاءُ بحسب الطلب حينَ تبتغيها مصلحةٌ شخصيّةٌ صرفةٌ تصلُ حدّاً يُقرأُ البغضُ فيها والحقدُ أحياناً , كأنّ الأشهرَ المعلومات خلقتْ وجوهاً ما كانتْ لها أنْ تنوجدَ لولاها , الوجوهُ التي عرفتُها مجدّداً ليستْ تلك التي عرفتُها منذ أكثر من أربعين عاماً قضيتُه فَرِحَاً من القليل أقلّ وشجيّاً ... شقيّاً .
يفرّحُني وجهٌ لم ألتقِ به سالفاً , ويغريني تحليلُه و نقاشُه في أيّ شأنٍ أريدُه أو يريدُه مستمعٌ لا على وجهٍ محدّد أو مشربٍ معيّن وأرى ذاك الوجهَ أقربَ مني إليّ , كأنّه أنا وقد نسيتُه أوضيّعتُ ملامحي فيه :  التجوالُ في متاهات الحياة وانتخاب الكلمة الأدقّ - الأصعب لتنافسَ وجوهاً لا تبتغي من الحياة غيرَ الثبات والنوم فيه وداخل نبرته التي تريدُ سَحْقَ أيّ صوتٍ مختلفٍ , فكيف بمخالفٍ أو مناهض له ؟. الوجهُ المقصود التقى بي وقابلني بطريق الصّدف القليلة التي عشتُها داخلَ الغليان , الوجهُ الشبابيّ أعطى لوجوم الملامح تربّصَها النفعيّ حين يحلّل القادمَ من الأيّام قبلَ حاضرها الذي يجلب الحَيرةَ التي تخافُها الملامحُ قبلَ أنْ تصرّحها الوجوهُ التي تقول نكتاً (أو شبهها) غير قابلة إلا للسخرية , وهي سخرية المواقف قبلَ أيّة سخريات يقولُها وصفُ حالتنا.
سأُحرقُ رجلي في وسط الطريق إنْ غادرَ بي إلى  تشابك طرقٍٍ فيها وجوهٌ متكلّسةٌ مخضرمةٌ بتمييع الأصوات وتبخيس ما كان حقّه التشرّب والتبنّي , ولا يمكن للتشتّت – الذي يعمل الكثيرون لأجله و رفع صوتِه - أنْ يكونَ بينَنا , مادامَ في المرء (أيّاً كانت خلافاتُنا معَه) طاقةُ غيرُ مرهونةٍ للانكسار أو التعب .
الخطابُ المراوِغُ باتَ يتقنُه القليلون منّا , وهم أنفسُهم أوقفوا حياتَهم عند خطابٍ رماديٍّ , هدفُه تحريكُ دميتِهم التي أوصلتهم إلى (المكانة العليا للمجتمع) , هذه المكانة التي لها (صفرٌ) في سلّم الأخلاق, فكيف ستكون عند وجهٍ شبابيّ راهن ؟
.....
وجوهٌ درّبتْ وجوهاً على التلصّص و بتر أيّ تكاتفٍ , وزرع كلّ خلافٍ (ما عَرَفَ طريقَه إلينا إلا الآن )
وجوهٌ تريدُ أشكالاً على مقاساتٍ خاصّةٍ بها , لا حياءَ فيها : لا في الوجوه البائدة ولا في ملامحها ولا في تعاملها , فكيف بمصيرٍ يتعلّقُ بشأنٍ عام ؟.
وجوهٌ لن تمرّ من هنا إلا بعدَ أنْ تدفعَ ضريبتَها : الاعتذار.
ووجوهٌ عاصفة مسحتْ غبارَ التعب لتكونَ هنا – الآن .

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

ضجيج في رأسي

 (سهيلة بو رزق)

عندما لا تجد ما تفعله اكتب عن الأغنية التي تحدث ضجيجا في رأسك ،  وتحوّلك اٍلى راقص محترف ، وعندما لا تجد ما تقوله اتصل من هاتفك باٍمرأة  تجيد قراءة ما يدور في جسدك ، أما اٍن كنت غير قادر على فعل شيء فنصيحتي لك  هي انتظار ما لا ينتظر وحينها فقط ستبدأ مشاعرك بالتحسن تجاه ما لم تكن  تكترث لوجوده في حياتك.
أعتقد أن الغباء حالة مستحبة لاٍنسان لا يجد ما يفعله في حياته حتى لا ينفجر عقله وتتحوّل ذاكرته اٍلى قطعة أثرية نادرة.
الحياة  ببساطة قلق دائم سريع التواصل ، و هي الغواية التي تدركنا ونحن على بعد  خطوة من الموت ، هي السؤال الذي يبعث فينا التأمل وهي المسألة التي تربك  خطواتنا باٍتجاه الذات ، هي الجريمة الوحيدة التي لا يعاقب عليها قانون  الأرض ولا قانون السماء اٍن لم تتورّط في غير المسموح به ، لكنّها من جهة  ثانية أجمل بكثير عندما تغازل المحرّم من الأمور ، بل ان المحرمات هي  اللّذة التي ترقص لها الحياة اختلافا.
لقد شعرت بطعم الاختلاف في  حياتي عندما قررت عدم الكف عن الكتابة بجرم وبعري وبوقاحة وبعهر وبكل ما لا  يسمح به ، وجدت نفسي أكثر انتظارا لأمر ما سيحدث في حياتي ولو متأخرا  ،ووجدتني أقف أمام مرآة ذاتي أبتسم بسخرية لي كما لو أني ألتقيني لأوّل  مرّة في شكلي الممسوخ ،فأحيانا يطلع صوتي من يدي ،وأقرأ الكتب بظهري وألمس  الأشياء بأذني.
التفاصيل تهرب مني دوما في الاٍتجاه الآخر وأنا أركض خلفها وألهث كمجنونة.
هناك  ما يعبث بنا ، هناك ما يمنحنا الثقة في جوهر العبور اٍلى لغة تكتبنا أكثر  مما نكتبها ، هناك خلطة سرّية تمدنا بأسئلة الليل الطويل الذي تتراجع  أوهامه أمام رشة ضوء من عيني الشمس ، هناك ما يعترض أحلامنا الصغيرة التي  بحجم القلب ، النابض دوما بحب .
أسوأ ما في الحياة أنها لا تنتظر  أحدا واٍن حاولت الرّكض فيها اختلت فيك موازينك ،لا عبث هنا ولا خيار لنا  اٍلا القليل من رتوشات الصمت.
سأحاول اليوم الغطس في قاع البحر  بمعدات جهزّتها من قبل لكي أتحرر من الطبيعة ، سأغوص عميقا ، سأحاول ترتيب  ما بداخلي من فوضى تحت الماء ، سألتقي بسمكة تشبهني ، واٍن اٍلتقيت بالسيّد  القرش سأقبله من شفتيه وسأتواعد معه ليلا في شقته لكي يفترس ما تبقى مني  من أفكار ، سأخبره بأن القروش البريّة لا تفهم في النساء غير ما يحتويه  جسدها من ثقوب تثير فيهم الغضب ، فينقضون عليها بجنون ،سأخبره انني أنثى  عطشى ومملوءة بالخيال ، سأمارس معه كلّ ما يخطر ببالكم ، سأجعله يتقلب فوق  أفكاري ، سأحبه وسأجعله يعشق مدّي وجزري فيه.
في اليوم الموالي سأسحب  خطواتي في زيارة اٍلى الأموات ،سأضع على جميع القبور وردة وأغنية ، سأقبّل  التراب ،أمسح وجهي به ،وأجلس بالقرب من قبر ما لا أعرف هويته أقص عليه  حكايتي.
ربّما لن يسمعني أحد ،لكن _على الأقل_ الأموات لا يكذبون في  صمتهم ،سأترك كتابي المفضل هناك وأغادر سيأتي آخر مثلي اٍلى المكان نفسه  ليحكي أوجاع الحياة فيه ، فنحن مصابون بالحيرة على الدوام ، لا نكترث  للأجوبة اٍلا اٍذا سألنا وعندما نفعل تكون الاٍجابات قد اختلفت وربّما  ازدادت حيرة هي أيضا.
عندما لا تجد ما تفعله اكتب عن الحلم الطفولي  الذي تناسيته فقد تتحقق تفاصيله على الورق ،أما أنا فلست أعرف كيف أملأ  فراغ يومي رغم أنّني قمت بكل ما نصحتكم به اٍلا الغباء.

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

«إسم الوردة» لأومبرتو إيكو: أرسطو والضحك ممنوعان



حدث قبل سنوات كثيرة من الآن أن ناشراً ايطالياً كان يحضر مؤتمراً فكرياً في إحدى مدن بلاده. وكان في المؤتمر عدد كبير من المفكرين المحليين والأوروبيين. وقد لاحظ الناشر يومذاك جدية المواضيع المطروحة وصعوبة الولوج في دهاليزها... ثم لاحظ كيف ان المفكرين الباحثين يبدون قادرين تماماً على إيجاد الحلول في نهاية الأمر. ولاحقاً، خلال عشاء أقامه وحضره عدد من الباحثين، راح الناشر يشبّه البحث العلمي الفكري من ذلك النوع بالرواية البوليسية التي يحكمها المنطق في نهاية الأمر. ثم بعد أن صمت لحظة قال ما يعني انه يحلم بأن يقوم مفكر جاد بكتابة رواية بوليسية حافلة بالمنطق والأحداث الغريبة، ثم سأل الحاضرين: لماذا لا تجرّبون حظكم؟ ابتسم الكل يومها باستثناء واحد منهم قال، في ما يشبه الرفض المهذب: «اذا ما وجدت أن عليّ كتابة رواية بوليسية ذات يوم، ستكون رواية تدور أحداثها في القرون الوسطى وشخصياتها رهبان في دير. وعدد صفحاتها لا يقل عن 700 صفحة...». على الفور قال له الناشر عند ذاك انه يوافق على نشرها وأن هذا تحديداً ما كان يفكر فيه. فوجئ الباحث أمام ذلك الاقتراح وقال لنفسه: «لم لا؟».


> كان اسم الباحث الشاب اومبرتو إيكو. وعلى يديه ستولد بعد ذلك بسنوات، واحدة من أغرب وأجمل روايات النصف الثاني من القرن العشرين: «اسم الوردة». طبعاً لا بد من ان نقول هنا ان ايكو هو نفسه من يروي هذه الحكاية... وقد لا تكون صحيحة كلياً... وبخاصة على لسان كاتب وباحث سيعرف لاحقاً بطرافته وغرابة طروحاته. لكنها، في هذا الاطار تحمل كل دلالاتها، خصوصاً أن «اسم الوردة» هي في نهاية الأمر رواية عن الفلسفة وعن الكتب... أو - كما قيل دائماً - رواية عن «جدّ» بعيد لشرلوك هولمز وجد نفسه فجأة وسط دوامة من الشكوك والتساؤلات والحيرة، أمام آباء الكنيسة وأمام أرسطو.


> من الناحية الزمنية تدور أحداث «اسم الوردة» خلال اسبوع من خريف عام 1327... ففي خلال ذلك الاسبوع يجتمع كبار مفكري الكنيسة من الرهبان الفرنسيسكان في دير آبينين الشهير، بأمر من البابا بقصد التصدي لهرطقة كانت بدأت تشقّ طريقها مهدّدة ما تبقى من وحدة الكنيسة وسيطرتها المطلقة... غير ان رجال الدين نفسهم الذين أقاموا ذلك المجمع بدوا منذ البداية غير متفقين في ما بينهم لاهوتياً وسياسياً. ثم يحدث أن يقع عدد من الرهبان الموقّرين ضحية لقاتل غامض راح شرّه يستشري من دون أن يعرف أحد عنه شيئاً. ولا يعود ثمة - والحال هذه - مفر من ارسال الأخ غيوم دي باسكرفيل، ذي المزاج الغريب، الى المكان ليحقق في ما يحدث، يصحبه سكرتيره الشاب آدسو دي ملك... وآدسو هذا هو الذي تروى لنا الرواية على لسانه، إذ يكتبها بعد سنوات طويلة، من وقوع الأحداث.


> ان هذه الرواية التي تتخذ هنا هذه السمات البوليسية التحقيقية المشوّقة، لا تنسينا أبداً ان الكاتب (اومبرتو ايكو) فيلسوف في الأصل ومؤرخ للفلسفة. وهو يذكّرنا بهذا في كل صفحة من صفحات الكتاب، حيث إن مقدمة الصورة البوليسية، تشكل اطاراً لرسم صورة عميقة وجذابة للمناخات الفكرية السائدة هناك في ذلك العصر... ولا سيما في اجواء الطوائف الهرطوقية... وهذا ما يجعل ايكو يغوص في تفاصيل مدهشة حول الأفكار ولغة الحوار بين مختلف الأقوام وعاداتهم وحياتهم اليومية... ثم بخاصة حول فضاء الصراع على السلطة داخل الكنيسة نفسها... والمذهل هنا هو انه كلما غاص ايكو أكثر في حمأة الأفكار العميقة، وجد لذة قبل أن يثقل على القارئ، في القفز مباشرة الى الأحداث البوليسية وحكايات الجرائم، ما يعطي هذه الرواية فرادة فكرية.


> ولعل أجمل ما في الأمر ان الأحداث كلها تدور في ذلك العالم السحري الغامض... عالم الدير المغلق على نفسه والذي تدور الأحداث في داخله مع عين مفتوحة على العالم كله، حيث يدرك القارئ بداهة ان كل ما يحدث هنا، بما في ذلك الجرائم البوليسية نفسها، انما هو على علاقة مباشرة مع العالم الخارجي: مع النتائج التي ستتمخض عن ذلك الصراع الخفي بين المنطق والنقل... بين العقل والخرافة... ثم بالتحديد بين نظرة الى الدين منفتحة على العالم تقبل الحوار مع ما هو مختلف، وبين نظرة أخرى يرعبها كل منطق وانفتاح. وطبعاً سنفاجأ، في نهاية الأمر، بأن حل ألغاز الجرائم انما هو مرتبط كلياً بذلك الصراع اللاهوتي - الفكري.


> ذلك ان هنا بالذات، يدخل أرسطو ومنطقه، من طريق الترجمات العربية، وتحديداً من طريق تفسيرات ابن رشد الأندلسي له. ابن رشد هو المحرك هنا، والموضوع هو أرسطو... أما النقطة الأساسية لكل الأحداث فهي مكتبة الدير، التي تبدو كالمتاهة. والمكتبة داخل الدير هي، كما يقول الباحثون صورة حقيقية لغموضه، لكنها في الوقت نفسه - كما يشير ايكو وكما يقول مؤرخ العصور الوسطى الفرنسي جاك ليغوف - المكان الذي يولد منه العصر الحديث، هذا العصر الطالع من رحم فكر أرسطو وجهود ابن رشد.


> أما الجرائم التي تحدث، فإنها تحدث، بالتحديد، لمنع تلك الولادة. و «الولادة» هذه، على ارتباط مع الضحك كوسيلة لانبعاث حرية الفكر لدى الانسان. والضحك موجود في بعده الانساني داخل كتاب لأرسطو، يحاول رجعيو الدير اخفاءه، فيما يسعى رجال دين آخرون الى قراءته، وسط ظلام المكتبة. وهذا الكتاب الذي هو في الأصل وسيلة تنوير لا بد من أن تصل الى الناس جميعاً، يكون هو تحديداً الأداة التي يستخدمها الرجعيون لقتل دعاة التنوير. وهذا ما سيكتشفه دي باسكرفيل... رجل التنوير والعقل الحقيقي الذي إذ يصل الى الدير مكلفاً بالتحقيق، يأتي حاملاً معه أفكار معلميه الانكليز التنويريين من أمثال فرانسيس بيكون والاوكامي. (والاثنان كانا من كبار أهل الرشدية في الفكر الأوروبي)... وهذا ما يمكّنه، وسط سجالاته التنويرية والانسانية، من حل الألغاز وكشف الجرائم ومدبّريها. غير ان هذا سيؤدي الى احتراق المكتبة. وهنا يقول لنا دي باسكرفيل: لم نحزن... طالما ان المكتبة ليست في ماهيتها، بل في من يهيمن عليها. والمهم ان ما يحدث لها وفي الدير، انما يكون اشارة حقيقية الى انبعاث عصر الانسان... أي الى بدء النهضة. وهكذا - عبر هذا الربط بالجرائم وبالفكر الكنسي والصراعات التي عرفها هذا الفكر في ذلك الزمن - قدم لنا اومبرتو ايكو صورة مشرقة لانبعاث عصر الانسان... لكنه في طريقه حدّد ايضاً تلك السمة الأساسية التي لا يفتأ قراء الرواية البوليسية يتعاطون معها من دون القدرة على إضفاء طابع نظري عليها: سمتها كمكان يتجلى العقل فيه أكثر ما يتجلى، طالما ان حل كل لغز بوليسي في أية رواية جديرة بأن تعتبر رواية بوليسية حقيقية، انما يقوم على مبدأ العقل والاستنباط المنطقي، ما يعني ان كل رواية بوليسية هي قبل أي شيء آخر درس في المنطق، أي عودة الى أرسطو. وفي هذا المعنى تمكن امبرتو ايكو، بعد ولادة الرواية البوليسية الحديثة بأكثر من قرن، من إعادتها الى رحمها الشرعي: المنطق... كما تمكن من أن يسهل وصول فكر المنطق هذا، الى الناس.


> ويقيناً ان هذه السمة هي التي أنجحت هذا العمل الصعب والمكثف الذي كتبه مثقف ايطالي كبير. وإيكو المولود عام 1932، لم يكن معروفاً قبل «اسم الوردة» ككاتب روائي، بل كفيلسوف ومفكر وباحث في علم المعاني. وهو كان أصدر الكثير من الكتب مثل «العمل المفتوح» و «البنية الغائبة»... ثم، بعد النجاح الكبير الذي حققته رواية «اسم الوردة» كتب روايات كبيرة أخرى من أشهرها: «بندول فوكو» و «جزيرة بوديرلو» وفي الفترة الأخيرة «مقبرة براغ» (الرواية التي اثارت ضحة كبيرة واحتجاجات حتى من قبل صدورها والسبب واضح: انها تدور من حول نصّ «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي لطالما اثار الاحتجاج والسجالات جرى العرف والمنطق على اعتباره كتاباً مزيفاً)، من دون أن يتوقف عن اصدار الكتب العلمية والتدريس الجامعي وخوض المعارك الفكرية من أجل التقدم والانسان.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة