(درويش و بركات) |
سليم بركات
نسيتُ، ربما، أن أزوّد تدوينكَ عن بيتنا، في غابة سكوغوس، شجراً أكثر، وطيوراً أكثر، وأنت تستعرضني طاهياً، متذرعاً بأفاويه الكاتب وتوابله. قلتَ: "تناقلتُكَ بلسان كتابتي، مراراً، كشاعر. سأتناقلك، الآن، كطاهٍ". وفي مطبخي ذاك، الذي ابتكرتُ فيه، إذ زرتَني قبل سنتين، خيالاً لمساءيْن من اللحم طريفاً، نقلتْ زوجتي سيندي الموازينَ الكبرى للألم إلى جهة العاصف: كانت واقفةَ قرب المنضدة حيث أجلس. ألقت بصرَها، على نحو لم أعهده، عبر النافذة، إلى غمامات الفيروز من شجر الصنوبر، والحور الرجراج. لمستُ بيدَي قلبي نظرتَها النقيّة كبكاءٍ تتكتم عليه الشِّفافةُ المعلَنةُ. سألتُها: "ما بك؟". ردّت: "لم تعد تخبرني، إذ أعود إلى البيت، أنّ محموداً اتصل بك".
أبكيتني مرّتين، يا محمود. مرّة حين رميتَ على عاهن البسيط كلماتٍ لم أصدّق أذنيَّ أنني أسمعها. قلتَ، بالإنكليزية، في ندوة جمعتنا بإحدى مدن أسوج: "بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات". وإذ صدّقتُ أذنيَّ، اغرورقت عيناي، بل بكيت صامتاً: جليلٌ مثلُك، ضمّ عصراً أدبياً إلى ظلّه، لا يحذر اعترافَه العابرَ، الذي يُبكي مثلي.
كنتُ أعددت مغلفاتٍ قليلة جداً، تحمل عناوين أصدقاء أقلّ من قليلين، مذ أُبلغتُ أنّ البريدَ يحمل لي نسخاً من كتابي الأخير. لطالما سألتَني، وأنت قارئي الأكثر بكورةً على عادة شغفكَ بمساءلتي عمّا أكتب، تفصيلاً: "ما مصادر لغتكَ؟ ما مصادر خيالكَ؟". سؤالك محيّر يا محمود. لم أتفكر في جواب، من قبلُ، أو من بعدُ، إلا أن أعيده مرتداً إليكَ، هذه المرّة: ما مصادرُكَ، انتَ، في تحويل غيابك إلى زلزال؟
كنتُ أعددت مغلفاتٍ قليلة جداً، تحمل عناوين أصدقاء أقلّ من قليلين، مذ أُبلغتُ أنّ البريدَ يحمل لي نسخاً من كتابي الأخير. لطالما سألتَني، وأنت قارئي الأكثر بكورةً على عادة شغفكَ بمساءلتي عمّا أكتب، تفصيلاً: "ما مصادر لغتكَ؟ ما مصادر خيالكَ؟". سؤالك محيّر يا محمود. لم أتفكر في جواب، من قبلُ، أو من بعدُ، إلا أن أعيده مرتداً إليكَ، هذه المرّة: ما مصادرُكَ، انتَ، في تحويل غيابك إلى زلزال؟
حين وصلتني نسخ من كتابي الأخير، يا محمود، فأودعتها المغلّفات الممجّدةَ بعناوين على قدر أصابع اليد، وجدتُ شرخ الزلزال قد بلغ العنوانَ، الذي وسَمْتُه بحروف سكناك. لم ترتجف يدي، قبلاً، كارتجافها وأنا أهمّ، متردداً، بوضع نسخةٍ في المغلّف الحاملِ اسمكَ، في اليوم السادس، أو الثامن، من مغادرتكَ محطةَ جسدِك، في الرحلة إلى الأبدية.
تأخر وصولُ النسخ إليَّ في البريد، قليلاً، يا محمود. تأخرتَ، أنتَ، في تأجيل قلبك عن موعدٍ لم يكن منصفاً، ضرورياً، مرتّباً، مدروساً، مع الحافلة التي أقلّتكَ، من محطة جسدك، إلى إقامتك النهائية في اللاموصوف.
تأخر وصولُ النسخ إليَّ في البريد، قليلاً، يا محمود. تأخرتَ، أنتَ، في تأجيل قلبك عن موعدٍ لم يكن منصفاً، ضرورياً، مرتّباً، مدروساً، مع الحافلة التي أقلّتكَ، من محطة جسدك، إلى إقامتك النهائية في اللاموصوف.
لكنني سأصحح الأمر: نسختُكَ من كتابي الأخير محفوظةٌ، بتمام ما ظنَنْتَه جنوناً في موضوعه، مذ أرغمتَني على البوح ببعضه موجزاً. سأحملها، بيديّ، إلى المقطورة التي تستقلّها، في عبور الأبدية، إلى الأبدي.