لطيفة لبصير : (كاتبة وباحثة من المغرب ) .
الشقة رقم 24
من الصعب التكهن بما يحدث في الشقة رقم 24 …
منذ شهرين تقريبا، انتقلت إلى الشقة رقم 23، لم أعرف في البداية من الذي يقطن في الشقة المجاورة، وخمنت أن يكون رجلا عازبا وهذا ما كنت أتمناه فعلا، وزاد اطمئناني حين لم أجد ممسحة الأرجل ممدودة أمام المنزل، فغالبا ما تكون الممسحة لمسة أنثوية، لا أدري هل هي لمسة أنثوية أم لا، ولكن ربما تفكر المرأة في كثير من الأحيان بممسحة الأرجل، لأنها تخاف على البلاط من أن يتسخ بالأحذية، فتقوم هي بتنظيفه. اشتريت أصص النباتات، ووضعتها أمام الشقة بشكل أضفى على المكان رونقا هادئا، أستشعره حين ألج إلى الشقة، وقد انتظرت أن يعمد صاحب الشقة المجاورة إلى أن يضع أصصا تجاور أصصي، لكنه لم يفعل، فخمنت مرة أخرى أنه لا يعشق النباتات، وارتعبت للأمر. كيف سأجاور شخصا لا يعشق النباتات ولا النظافة، ولكنني بدأت أسمع موسيقى كلاسيكية تنبعث من الشقة، لم أكن أستطيع أن أفتح باب الشقة، لأنني أخاف أن أجد نفسي وجها لوجه معه في الخارج، وبالتالي قد يعتبرني متطفلة على ذوقه الخاص، ولكننا نعشق نفس الموسيقى وما يطبعها من عنف في الأداء. كان الموسيقي كيت جاريت وهو يؤدي مقطوعاته العنيفة ويصرخ مضيفا لإيقاع موسيقاه عنفا جسديا وصوتيا، وكان الإيقاع يعلو ويعلو مخلفا وراءه رغبتي في نظرة واحدة إلى من يقيم بجانبي. في يوم آخر، وحينما كنت عائدة من عملي الإداري الرتيب، كانت روحية قد أتعبتني بكل ما لديها من ملفات سرية مكررة، فلم تعد هناك أسرار في الشركة، حتى السكرتيرة الشقراء ، أصبحنا نعرف أنها عشيقة المدير العلنية ولم يعد بالإمكان إخفاء ذلك وأنه اشترى لها منزلا في العمارة المجاورة للشركة حتى يسهل عليه التنقل بين الشركة والسكرتيرة وبعدها الزوجة. لم يحدث شيء في ذلك اليوم، كما أن الموظف الذي كان يهددنا دوما بالانتحار لم ينتحر ظانا بأنه سيخلف لدينا إحساسا بالذنب لكوننا لم نهتم به وبملفاته المطلبية، وما زال يهددنا ونحن نغادر مقاعدنا في اتجاه باب الخروج في أدب وتستر معتادين. ولكن حدث شيء آخر، لقد بارحت أصص النباتات مكانها المعتاد بشكل صارت معه موزعة بيني وبين الشقة رقم 24 ، مما أغضبني. كيف تتحول الأصص دون إذن مني، ودون حتى أن يكلف نفسه عناء الطلب والرغبة وقرع الجرس. أليس لي جرس خاص؟
أعدت الأصص إلى مكانها المعتاد، بحيث حرمت مدخل شقته من النباتات الخاصة بي، ولكن النباتات كانت تطل على المدخل بتطاول أليافها، وكأنها ترغب في معانقة ألياف أخرى لم يأبه هو بإحضارها… وبعد أن وضعت الصلصة البيضاء على السمكة، وشرعت أدهنها بها قبل أن أدخلها إلى الفرن، انبعث كيت جاريت من جديد بعنفه الذي بدأت أعتاده، فكرت في أن أطرق الباب لأقول له بأن من يجاور موسيقى ذات حساسية عالية، لا يسطو على النباتات المجاورة دون إذن.
ربما يكون مناضلا من المناضلين الذين عرفتهم في الحي الجامعي، يكون لهم اهتمام بقضايا عامة دون أي هدف أواستراتيجية ، حتى أنني لم أكن أعرف أين يناضلون في الحي الجامعي، كانوا يتحدثون عن نضالهم باهتمام بالغ الأهمية، وحين نسألهم أين يناضلون؟ يردون في الساحة الطلابية.
في العاشرة مساء، فتحت الباب لأتفقد الأصص، فوجدت أن زهرة مدادية اللون قد انضافت إلى أحد الأصص، وأنها اتخذت وضعا خاصا في أصيص الأزهار الوردية اللون، فأحدثت وقعا جماليا خاصا، غير أنني لم أصل إلى تحديد معناه. حملت الزهرة إلى الداخل…كنت أريد أن أثير زوبعة صغيرة، وأن أغير قصيدة فنجان القهوة لجاك بريفير، حين كان ينتظر من الآخر أن يقول شيئا، أن يتكلم معه، أن يحاوره بما أنه يجلس إلى جواره، لكنه غادر بعد أن رتب كل التفاصيل الصغيرة، ووضع الحليب والقهوة والسكر والملعقة…كل التفاصيل الكثيرة التي كان ينتظر الآخر أن يغيرها… ولكن لم يحدث شيء، ما زال صوت كيت جاريت يرتفع بين الفينة والأخرى، الممسحة الغائبة والأصص التي تتغير من حين إلى آخر، لتشعرني بأن هناك شيئا ما يحدث.
ذات مساء وجدت البواب يغير أصص الأزهار ويوزعها بيني وبين الشقة المجاورة، فنطقت دون أن أفكر:
- ماذا تفعل؟
- أوزع الأزهار بينك وبين هذه الشقة حتى أمنح للطابق جمالية أخرى…
- إنها أصصي الخاصة وأنت توزعها بيني وبين الجار…
- سيدتي …لا يسكن هنا أحد…
- والوردة المدادية اللون التي وجدتها ؟
- أنا الذي وضعتها…
- والموسيقى التي تنبعث من شقته بصوت عال…
- إنه ابن الجيران في الطابق العلوي وهو من يواظب على سماع الموسيقى…
بقيت مسمرة أنتظر…الشقة خالية…خالية…خالية… لكنها حتما ستضم ساكنا جديدا، أتمنى أن يكون ذلك الشخص الذي أنتظره…
أغلقت بابي…من الصعب فعلا التكهن بما يحدث في الشقة 24 …
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق