فاطمة بن محمود/ تونس.
قطرات ضوء / الشاعرة الكوردية فينوس فائق.. و القصائد الجريحة فاطمة بن محمود
الإهداء : إلى عبد اللطيف الحسيني.. دمت مضيئا .
كنت - و لازلت- و لا أدري لماذا أشعر أني مسؤولة عن العالم، تعذبني نشرة الأخبار و تجلدني الأنباء التي ترد عن الحروب و الاغتيالات و التفجيرات و حملات الإبادة و غيرها في أي ركن من العالم.. كنت- و لازلت- و أدري لماذا أتعاطف مع المقهورين في الأرض.. و لعلني أشعر و كأن روحي كانت فيما مضى متقمّصة في طفلة صغيرة فرحة بدميتها فصادفتها رصاصة ثقبت قلبها و سالت براءتها على قارعة الشارع و العالم يتفرّج.. لذلك كنت - و لازلت - أخاتل البرنامج الدراسي في القسم و أفتعل ثغرة ما أثناء الدرس لأحدّث تلامذتي عما حدث في البوسنة أو في حلبجة.. يحدث أن نسمع في الفضائيات المشهورة برامج توثيقية عن البوسنة أما عن حلبجة لازالت تلك الفضائيات بعيدة عن الموضوعية العلمية من جهة و بمنأى عن وخز الضمير من جهة أخرى.. كان لي صديق عراقي ( مسيحي ) يقول لي النساء الكرديات.. جميلات و يتنهّد.. مرّة .. كنت تائهة في الشبكة العنكبوتية و إذا بي أعثر صدفة على علامات خطّّها الكاتب عبد اللطيف الحسيني فتتبعتها و إذا بي في موقع افتراضي لشاعرة كردية هي فينوس فائق و صرخت في صمت : هاهي امرأة كردية.. جميلة و أتذكر صديقي العراقي.. ثم انها شاعرة تكتب قصائد رهيفة و حادّة ، قلمها يقطر إحساسا و إحباطا, و روحها شفافة و غائمة, و أعيد قراءة قصائدها.. كم عذبتّني قصائدها... في قصائدها رأيت طفلة تلعب بدميتها و فاجأتها رصاصة ثقبت قلبها و سالت براءتها على قارعة الطريق.. و أنا أتفرّج. في قصائدها رأيت صبيّة مزهوّة بجسدها المكتنز , بأحلامها الطريّة تذهب للقاء حبيبها بغبطة لا توصف..و لا تصل إلى موعد اللقاء.. و أنا أتألم.. في قصائدها رأيت شعبا عصفت به حملات الابادة.. و أشمّ رائحة السيانيد تعبق المكان ( غاز سام استخدم في الابادة في مدينة حلبجة).. و أنا أبكي.. فينوس فائق.. فينوس، اسم قادم من الأساطير.. من الزمن القديم، من الزمن البعيد جدا.. يقول فراس السواح أن أبطال الأساطير أنصافهم آلهة و أنصافهم الأخرى بشرا, و كأن عائلتها وهي تختار الاسم تهرب الى الزمن المقدس و يقول فرويد في معرض تحليله أن كل هروب للماضي هو تعبيرا عن رفض للحاضر.. ترفض عائلتها هذا الحاضر الذي لم تجد فيه مساحة للكبرياء، موقع قدم لتفاصيلها الصغيرة, لتقاليدها الجميلة لذلك تعود الى الزمن القديم.. فينوس اسم آلهة للجمال و ليكن.. ما دامت الرداءة طاغية و الفضاعة منتشرة و القبح سائدا و رائحة السيانيد تعمّ المكان و تعطّّّل كل الحواس. فينوس فائق تقول في قصيد ( الليلة ينام القمر على عيوني) : أنا كوردية أقولها بالعربية تتساقط دموعي كحبات اللؤلؤ لعلّ الدموع تتساقط من الظلم, من القهر و لكن الصورة لا تخلو من وقع جمالي مؤثر.. الدموع تتساقط حبّات لؤلؤ.. و أتذكّر أزهار الشّر لبودلير.. رهافة الشاعر و شفافيته تجعله يرى الجمال في ذروة الألم، و ينتبه للأزهار أو اللؤلؤ في عمق الفجيعة.. فينوس فائق كوردية و من فرط انسحاقها تعلو بكبرياء متصاعد.. بعزّة متنامية, بثقة لا تحدّ..لذلك نجد فينوس فائق تحتفل بأشيائها النسائية, تنتبه لنبضات قلبها تتسارع اذا ما رأت الحبيب، تنتظر بقلب واجف لمسات يديه و رائحة قهوته و أجدها في غاية الفرح فقد جاءها حبيبها و قال لها : ( في قصيد : قال لي..) أتعلمين يا مولاتي أنني اليوم سلطانا أمشي على أرصفة المدينة مزهوا بحبّك أنثر غروري بك و ضيائي أنا لا أعرف الشاعرة ، أنظر الى صورتها على شاشة الكمبيوتر ( في موقعها الافتراضي) و أقول في نفسي.. ان ملامحها قريبة مني، كان يمكن أن تكون جارتي أو أختي أو أكثر.. كان يمكن أن تكون صديقتي. و أجدني و اياها في احدىالمقاهي على ضفاف البحيرة ( في العاصمة تونس) نرتشف فنجاني قهوة، نتفرّج على أفواج العشاق تذهب و تجيء، نختلس النظر الى رجل أنيق يجلس وحيدا بالقرب منّا.. ستقول فينوس : يروقني صمته و سأقول أنا : تروقني الفكرة التي تدور الآن في رأسه و ننفجر ضحكا... يلذّ لي أن أفترض أني أرتشف القهوة معها.. و يبدو أنها مثلي لها فلتات" جنونية تقول ( في قصيد العام الجديد ): تعالى نشرب معا من تلك الكؤوس الرشيقة من تلك الكؤوس الحبلى بالعشق و نتمشّى بين أزقة العمر لذلك أجدني أحبّ الشاعرة.. و أستمتع بقصائدها.. يروقني أن تقول ( في قصيد الليلة ينام القمر على عيوني) : هل تعرف أن الانسان هو النبي الوحيد على الأرض. نعم ، كل انسان هو نبيا مفترضا.. كل انسان يجب أن يدافع عن رسالة الاله الخالدة، عن القيم النبيلة، عن المعاني السامية.. و أتذكّر نيتشة كم كان حادا عندما هتف.. ان الانسان هو الاله نفسه". لكن يبدو أن فينوس تفضّل أن لا يموت الاله حتى تجد لمن ترفع شكواها.. لذلك تقول ( في قصيد العام الجديد ) : أقول ربي تقبل مني صلواتي و خطيئاتي التي ارتكبتها و التي لم أرتكبها يبدو أن الشاعرة مثلي لها أخطاء و ذنوب سرّية" و لكنها تختلف عني هي ترجو من الاله أن يتقبل أخطائها و يغفر لها و أنا لازلت ( أقول ): " كلما يتقدم بي العمر أحنّ الى الذنوب التي ارتكبت و أعضّ على القلب ويحي.. كيف فاتتني ذنوبا أخرى ( قصيد لي من الديوان القادم ) لعلّ الجغرافيا هي التي تؤثّر في قصائدنا بشكل أو بآخر.. لذلك أفترض ( و نحن لازلنا في المقهى) أنها ستكفّ عن استراق النظر للرجل الأنيق الذي يجلس وحيدا بجوارنا و تهمس " يكفي يا فاطمة .. عيب" في حين أني سألتفت اليه و أقول له من فضلك هل تسمح بالولاّعة ( رغم أني لا أدخن ). اذن فينوس تختلف عني في الجغرافيا و لذلك تمتاز عني بأحزانها.. أنا من بلاد مغاربية تمدّ رجليها في القارة الافريقية و تمدّ ذراعها الى الغرب ( أنظر خريطة تونس) و نعيش نوعا من الاستقرار، و تتمتع المرأة في بلادي بحقوق لا يستهان بها ( أنظر مجلة الأحوال الشخصية ) أما فينوس فهي في وطن بلا وطن، تقول ( في قصيد نقش على الماء ) : هذا وطن بلا وطن، وطن طار ابنائه كالطائرات الورقية في السماء و اختفت بناته وهن يلعبن لعبة الاختباء. لذلك قد تكون معاناتي وجودية أو لعلها تضرب أبوابا أخرى , أما فينوس فائق تلك التي أتأمل صورتها الآن، تلك التي تبدو كأنها جارتي أو أختي أو أقرب...كأنها صديقتي.. فينوس تلك معاناتها واقعية و حقيقة تاريخية.. لذلك أحتاج أنا أن أنظر الى صور حلبجة و أتأمل المجازر الرهيبة التي حصلت لأبكي و تحتاج هي فقط ذاكرتها لتنوح بمرارة.. تقول ( في قصيد وطننانمة) : أعطني أنفك لأملؤه برائحة الأتوم و النياسيد و الأجسام العفنة برائحة أطفال تسممّوا و رائحة طيور قتلى و أشجار محترقة (....) و تبلغ التراجيديا أقصاها عندما تقول : هل رأيت مرة أمّا وهي تبحث عن يد واحدة من بين خمسة ألاف من الأيادي لذلك تختلف عني فينوس فائق.. أنا لي وطنا يأتيه الناس سياحا من كل حدب و ذوق ليتشمّموا رائحة الياسمين و يلتذوا هواءه الرطب وشواطئه الرائعة و اجواءه البديعة وهي لها وطنا تحتاج أن تبتعد عنه لتهرب من رائحة الغازات الكيميائية السّامة التي نثرها ديناصورا و مضى.. ( تعيش الشاعرة في هولندا ) تحتاج هي أن تأتي بوطنها من ذاكرتها ، لذلك تقول ( في قصيد أقداح الشاي ) : تحملين رائحة مدينة، بين ضلوعك تنام قدّيسة و تطوين كتاب الوجع و تقول ( في قصيد أشتهي البكاء ) : هذا بيتي وهو لم يعد بيتي فلم يسجل باسمي احتله أبناء الديناصور و صادروا قلادتي و حمرة الشفاه و قارورة عطري هل يختلف هذا كثيرا عن معاناة شاعر فلسطيني لنفترض أنه عزالدين المناصرة مثلا عندما ينادي جفرا : جفرا كانت خلف الشباك تنوح جفرا.. كانت تنشد أشعارا .. و تبوح بالسرّ المدفون في شاطيء عكّا.. و تغني و أنا لعيونك يا جفرا سأغني. قد يختلف الشعراء و لكن الألم واحدا.. قد تختلف الأصوات و لكن صداها واحدا.. لذلك مثلما يعود الطائر - غريزيا - الى وكره، يتمنى المنفيّ أن يعود الى وطنه.. كذلك تتوق الشاعرة العودة الى وطنها تقول فينوس فائق( في قصيد العام الجديد) : الهي خلّصني من مأزق العمر و حولّني الى حجر على سفح جبل في كوردستان. لذلك أعتقد أن جلستنا في مقهى ما على ضفاف البحيرة قد خبى وهجها قليلا خفتت قهقهاتنا ورنا الصمت على قهوتينا.. أنا سأشرد بعيدا تتقاذفني هواجس وجودية مربكة، أنا أريد الرحيل عن وطن أحبه و لا يسع أحلامي أقول( في قصيد أجمل حب ) : هذه البلاد.. لي و لا تسع حلمي هذه البلاد .. لي و لا تشبه .. رسمي هذه البلاد.. لي نجمة تتفتّح و هلالها يسبح .. في دمي هذه البلاد.. لي. وهي ستشرد بعيدا تتقاذفها انفعالات شتّى.. هي تريد أن تستعيد وطنا تحبه و تشتهي أن تحلم على أرضه .. و لا تزال رائحة الأسيد تطارد انفها ، تقول ( في قصيد لا اله الا الله ) : فارغة مزهريتي من الزهور مليء قلبي بالألم لكن هل يمكن أن نثق في الغد ؟ يبدو أن هذا السؤال عبثيا بالنسبة لفينوس فائق لذلك لا يمكن أن تخدع نفسها بأمل / سراب لذلك تقول ( في قصيد في حشاشتي ) : ثمة نبي في حشاشتي لم يوقد سراج الرحمة لهذه المملكة بعد لم يبح أسرار الاله لأحد بعد (...) ليغرب في أحشاء قصائدي الجريحة.. اذن يبدو أن الشاعرة تخاتلنا و لعلها تخاتل نفسها فالأمل كفرضية ممكنة و الأمل يسكن قصائدها، يبدو أن الشاعرة تؤمن بدور الشاعر فهو على حدّ أندريه جيد يقدر على التشوّف , يمكنه استباق الآتي .. ربما لأن هذا يعود الى وظيفة الكتابة عموما من حيث هي نحت معاني في الحياة.. و هل تحتمل الحياة دون معنى/ معاني هي التي تجعلها مبررة و بالتالي ممكنة.. لذلك تقول الشاعرة فينوس فائق ( في قصيد نصوص خارج القانون ) : أكتب كي لا أتحول الى حجر.. تبرد قهوتي تماما ، و لازلت أمام شاشة الحاسوب أتملّى قصائد الشاعرة فينوس فائق.. و أخطّ ملاحظات ممكنة لمقاربة نقدية تستحقها , فأسلوبها في الكتابة رهيفا، حادا، عميقا، بسيطا، جارحا، حالما.. انها امرأة تتقن التفاصيل الانسانية الصغيرة لذلك تنأى بنفسها عن الطلاسم و الغموض المعقّد و تسمح لكلماتها أن تتطاير بيسر لتخترق المتلقي و تحطّ في وجدانه، لذلك هي تحسن شدّ القاريء و التواصل معه, انها امرأة شاعرة تنسج من ألمها صورا شفافة و أسلوبا مخمليا.. انها عندما تكتب ذاتها تتحدث عن نحن و عندما تكتب الغيرية الأخرون تتحدث عن انيتها الأنا .. هذا التمازج الرهيف و الرائع هو الذي يجعل منها شاعرة لها خصوصية... ينقبض قلبي مثلا وأنا أقرأ ( من قصيد تعالوا نسأل الله ): لنردّد 182 ألف مرّة و مرّة سورةالأنفال" و أبحث معي بين حروفها ان كان الله أجاز قتل أمي وهي تصلي له فينوس فائق لا تعرفني بل لم تسمع عني اطلاقا قد تبحث عني في الشبكة العنكبوتية و لن تجد لي موقعا افتراضيا خاصا بي.. جمّعت مرة ثمن تصميم و انجاز موقع ثم فضلّّّت أن أسدد دينا عليّ.. يبدو ذلك أفضل. و جمّعت مرة ثانية ثمنه أو كدت ثم اشتريت به بلاي ستايشون لولدي.. يبدو ذلك أفضل أيضا. سأطفيء الحاسوب الآن .. هي قد تكون نائمة أو لعلها تعانق حلما ما.. و أنا سأتمددّ في فراشي و أحملق في سقف غرفتي و أفكر كيف أكتب عن فينوس فائق شاعرة كردية ، قصائدها جميلة و ملامحها قريبة مني قد تكون جارتي أو أختي أو أكثر.. قد تكون صديقتي.. و أطفىء الحاسوب الآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق