حوار مع الشاعر السوري جولان حاجي .
«ثمة من يراك وحشا»، عنوان المجموعة الثانية، الصادرة حديثا، للشاعر السوري جولان حاجي الذي يأتي إلى القصيدة بثقة كبيرة، بمعنى أن الشعر هنا، لا يبدو أبدا وكأنه محاولات أولى لبلورة مشروع أو كتابة. الكتابة هنا حاضرة بكامل بهائها وبكامل عدتها، لنفسح لها مكانا بيننا.
حول المجموعة، كما حول الكتابة وعدد من الموضوعات الأخرى، كان هذا اللقاء.
مجموعتك الأولى فازت بالجائزة الأولى لمسابقة »محمد الماغوط« الشعرية، واليوم تصدر الثانية ـ »ثمة من يراك وحشا« ـ بعد أن فازت، مع غيرها من المجموعات لشعراء آخرين، بمسابقة »الكتابة للشباب« التي نظمتها احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية. ماذا تعني لك هاتان الجائزتان؟ ما التأثير الذي ستتركه؟
﴾ بعد تردد لن أشفى منه، دفعتني المصادفات للمجازفة بالتقدم لهاتين الجائزتين، وأسعدني إني تقاسمتهما مع أصدقائي. كانت فرصة للتعرف إلى أناس جميلين: بهجة أن يقرأني شاعر أحبه مثل نزيه أبو عفش.
لا أعتقد أن الحفاوة تعني الشاعر كثيراً أو قليلاً، فالاستحسان كالسخرية عابران. الشاعر، بغروره الخفي المحزن، تنقصه وتنتظره أشياء كثيرة، الحضور هو آخرها. إنه يكتب لأن الكتابة ضرورة، وربما لأنه لا يتقن شيئاً يجد نفسه فيه، يبهجه ويبهج أصدقاءه، سوى الكلمات. لحسن الحظ، لا أحد يعول على الشعر، وجمهوره على الأقل في انحسار. في ضوضاء الاستهلاك وطوفان الإنترنت ورداءة الإعلام التي استحوذت على عيوننا في ما نراه ونقرأه، هذه فسحة للحرية وتفهم الصمت والانفتاح على الإنسان في عزلته، ولا شيء يلزمها بفروضٍ لا تريدها. ولكن (سأستخدم هنا تعبيراً قد يبدو غامضاً وتقليدياً مضحكاً) يبقى الشرط الجمالي الفني أساسياً، وكذلك حس المسؤولية، بعيداً عن القيود الأخلاقية المعهودة.
يتعزى الشاعر أحياناً بمجهولين لا يعرف مكانهم، يقرأونه ويتأثرون بما يكتب. غير أن هذا الوهم كسواه لا يدوم طويلاً، ولا أراه ضرورياً لاستمرار الكتابة. يحضرني الآن قولٌ رددته مراراً على مسامع أصدقائي، وهو مطلع قصيدة لتشارلز سميتيث، سأرتجل ترجمته: »زمن الشعراء الصغار قادم. وداعاً ويتمان، دكنسون، فروست. مرحباً بك، يا مَنْ لن تتخطّى شهرتهُ محيطَ عائلته«.
تأتي من »الطب« إلى الكتابة، وليس ذلك مستغربا، إذ ثمة الكثير من الأطباء الذين كتبوا وخطّوا حضورا. ماذا قدمت هذه »الدراسة العلمية« إلى القصيدة عندك؟
﴾ استوقفتني القصائد التي تناولت الجسد. لم يتورع رونالد جونسون عن إيراد صور الانقسام الخيطي للخلية في إحدى قصائده، و كتب عن التشريح المجهري للعين والأذن. غوتفريد بن في قصائد المشرحة، أو كولمان باركس في قصائد الجسد، أو برنار نويل. لكن كتابتي بعيدة عن هذا المنحى. ولم أتطرق إلى هذه المواضيع بتاتاً. أحسبُ أن بعض زملائي في المخبر العلمي لا يعرفون إني أكتب الشعر.
أكره، في الحقيقة، الجمع بين صفتي الطبيب والشاعر. ممارسة الطب، مثل الكتابة، معايشة للموت. الجسد، مملوء بالكثير من الأصوات القديمة والحديثة، حيث العقلُ والجنون والموت والألم؛ وهي بالطبع ليست ألفاظاً أو مجازات أو صوراً نشاهدها على شاشات التلفزيون. المستشفيات كالمعابد أماكن آمنة نسبياً، تلطّفُ طباعَ نزلائها وروادها أو، على العكس من ذلك، تزيدهم ترويعاً وفظاعة. بعيداً عن طبيعة اختصاصي، أقمتُ مع أخي وصديقي شهوراً في مستشفى عسكري، كنتُ أشاهد معهما عشرات المرضى النفسيين أحياناً في اليوم الواحد: جنود متمارضون أو فرائس الهوس والكآبة والفصام. كانت تجربة لا تُنسى. أتذكر جندياً مغتصَباً، وآخر يفزعه اسم تدمر والوشاة الذين تسللوا إلى الوجوه كلها، نوبات الهلع لدى المذعور كلما سمع تلقيم البارودة الروسية... لاحقاً، بعد سنوات، كتبتُ عن ذلك. كتبتُ عن كابوس لا ينتهي يتآخى فيه الجميع، عن العار المسمَّى مجداً: الحرب؛ فظاعة أن تتوقعها، بشاعة كل جيش وبشاعة كل عدو.
في الواقع، أنا أتأرجح بين الطب الذي لا أزاوله كما ينبغي وبين الأدب الذي لا أستطيع أن أتفرّغ له، ولا أجد من الثقة والصبر ما يكفيني للاستمرار في كليهما. لا أدري عن أيهما سأتخلى، أو كيف سأحيا. لدى دخول الجامعة، فكرت، مثل طائش حالم، بدراسة الرياضيات البحتة. كان خيراً لي لو كنتُ خطّاطاً.
خيار الكتابة
كان بإمكانك أن تكــتب الشعر بلغة غير العربية، لِمَ اخترت هذه اللغة؟ هل كتبت بالكردية؟ ماذا يعني لك هذا الخيار؟
﴾ لعلك تعلم أن الدراسة المنهجية للغة الكردية غير ممكنة هنا. ربما لا تزال كلمة الكردي في الإعلام مقلقة أو محظورة. أحزاب كردية في الظل تتمزق أو تتناحر وتلتئم، بينما المكتبة الكردية السورية تخلو من قاموس واحد يمكن الاعتماد عليه.
إنها لغة أتكلمها، ولا أفقه من قراءتها أو كتابتها إلا القليل القليل. لكنها جزء مني، ذاكرتي الأولى.
أكتب بلغةٍ أخرى جذوري فيها جذورُ الغريب. وربما استمتع الغريب باللغة أكثر من ناطقيها وأصحابها. لم أختر اللغة العربية، لأنها كانت الخيار الوحيد الممكن. عشقتها. جعلني الشيخ الجليل عفيف الحسيني أعشقها، ثم سعيتُ كي أتقنها ما استطعتُ، دون أن أفكر في قواعد النحو. تعلمتُ الأوزان الموسيقية وجهدتُ كي أنساها.
أبدو أحياناً كأنني أنقل الكلمات من لغة إلى أخرى داخل رأسي، كلّ كتابة هي في النهاية ترجمة بشكل من الأشكال.
تحاول قصيدتك، مثلما يتبدى في »ثمة من يراك وحشا«، أن تنحو إلى مستوى آخر للقول، أن تبتعد عن قصيدة التفاصيل التي تبدو وكأنها تغلف اليوم، غالبية التجارب الشابة. بمعنى آخر، ثمة نشيد، وإن كان لا يرغب أن يكون عالي النبرة. ما معنى هذا الانحياز؟ أي ماذا تريد من الشعر؟
﴾ ما وصفته بالتفاصيل يحتمل أوجهاً لا تحصى. أحسب أن طرائق الملاحظة تتماثل وكذلك القراءات وأنماط الحياة؛ وهذا يفضي بصورة طبيعية إلى تشابه لا مناص منه وتكرار لا تنويع فيه. جذابةٌ هي مناخات ما سُمّي بالقصيدة اليومية، وبعض ما أنجزته ساحرٌ حقاً، لكنها لا تستهويني ولم أفكر بارتيادها. إذ بوسع أي شاعر أن يخترع قصيدة من لا شيء تقريباً.
لا أزال أحاول أن أضع ما أكتبه، وهو حوارٌ في العزلة غالباً، إزاء ما يُكتب في العالم، الشعر الذي يكتب في أي مكان على هذه الأرض. إنها محاولات صامتة ويائسة لا طائل منها غالباً، مشتتة ومتقطعة، فما نختبره أو نراه لا يرحمنا إلا نادراً. يشغلني الآن ما تجاهلتهُ وتحاشيته، العنف الذي بات طقساً يومياً استطال عقوداً، القسوة واللامبالاة التي تقود البشر في معظم الأحيان.
المكان
÷ ثمة مكان يحضر في القصيدة، بدون أن تسميه، هل لعبت »عامودا« دورا في تشكيل هذا المناخ؟
﴾ الشاعر يخترع المكان. مكانه الحقيقي هو المكان الخيالي، لأن الذاكرة كالمخيلة تحوّر كل شيء.
عامودا، حيث وُلدتُ، بلدة صغيرة لا تتغير، ممزَّقة ولا تتغير كسائر البلدات الحدودية الأخرى شمال شرقي سوريا، وعليك أن تحيا وأنت تتوقع كل شيء. كل شيء ممكن، عبارة مأثورة هناك. ما أبشع الحدود! لا نرى إلا أكياس القمامة تتشبث بأسلاكها المكهربة. سمعتُ عن مجنون حمل خبزاّ ساخناً من عامودا، ثم قطع النهر الجاف سائراً على قدميه ليتناول إفطاره في ماردين. اعتقله حرس الحدود الأتراك بالطبع. المؤسف أن الجنون الحقيقي هو جنون الجماعات والدول، وليس جنون الأفراد.
لا بدّ من وقت طويل كي تثبت أمراً مفــروغاً منــه، أمراً منتهياً لم يُحسَمْ بعد: »أنت كردي«. عبث لا ينتهي، ومصائر غريبة. بشر مخذولون ومهانون لا أدري كيف صارت خصالهم العناد والجسارة والزهو، ضيوف محرومون وطارئون: مهاجرون ولاجئون وأجانب في مكانٍ ولدوا فيه. ربما عوملوا كغرباء مشبوهين إذا قصدوا كردستان العراق أيضاً. من يدري! إذ كل تعصب قبيح ومهدِّد، أياً كان صاحبه. لا أستوعب جيداً بل أستغربُ أفكاراً مستبدة مثل الأصــالة والدفاع عن نقاء الهوية، إنها تحمّلُ الشعرَ أعباء سياسية الطابع ليست منه.
لا أزال أقيم في دمشق إقامة مؤقتة وقلقة دامت أكثر من عشر سنين. تبدد إحساسي بالمكان لفرط ما تنقلت، وقد يحضرني كذكرى: حياة لا تطاق أحياناً في تلك البقعة المسماة بالجزيرة السورية، المهملة والمجهولة كبقاع كثيرة في العالم، حيث تختلط اللهجات والأعراق والأديان، حياة مهدورة داخل تنوع حذر يراقب فيه البعض أشباههم في الضعف، ويحتفظ الذين فيه بانعزالهم. لكنها على الأقل بلاد موتانا. هناك ذكريات قريبة عن شؤم الربيع، آذار على الأخص، فوضى دامية في ملاعب كرة القدم وحرائق السجون ودور السينما. كانت هناك دائماً ميتات بلا سبب.
÷ وحدة ورحيل وغياب وجدران خانقة... هذه بعض العوالم التي تكتبها، هل القصيدة هي »وجهة للغياب«؟
﴾ أمام كلٍّ من الخــوف والمــوت والألم، الإنسـان وحـيد دائماً.
عوضاً عن الفقدان، لم لا نتــحدث عن فداحة الشــعور بالذنب أحياناً لدى العاجزين عن القيام بأي شيء؟ ما لا نفع فيه أو ما لا يمكن تعويضه؟ مخاوف العاشق أو الخجل من الحنين؟
أتمنى أن أكــتب شيئاً يبــعدني عن نفسي، محتفظاً بالهدوء ما استطــعت. لو أخرج من نفــسي كي أعــود إليها و قد غدوتُ شخصاً آخر! أمنية مســتحيلة وحلم يثير السخرية.
لا يعرف الشاعر دائماً دقائق ما يصنعه. لكني أرى الغياب متجذراً في جوهر الحياة، وجهها الآخر، توأمها السيامي؛ الشعر لا يتجه إليه بل ينطلق منه في دائرة لا تكتمل. من منا لم يتخيل غيابه مثلاً؟ الفراغ الذي يتركه وراءه، حتى لو كان وحده؟ هناك ما يتوقع الكثيرون فقدانه دون تمهيد، ثم يعود المرء مرة أخرى إلى وحدته التي يلعنها.
حول المجموعة، كما حول الكتابة وعدد من الموضوعات الأخرى، كان هذا اللقاء.
مجموعتك الأولى فازت بالجائزة الأولى لمسابقة »محمد الماغوط« الشعرية، واليوم تصدر الثانية ـ »ثمة من يراك وحشا« ـ بعد أن فازت، مع غيرها من المجموعات لشعراء آخرين، بمسابقة »الكتابة للشباب« التي نظمتها احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية. ماذا تعني لك هاتان الجائزتان؟ ما التأثير الذي ستتركه؟
﴾ بعد تردد لن أشفى منه، دفعتني المصادفات للمجازفة بالتقدم لهاتين الجائزتين، وأسعدني إني تقاسمتهما مع أصدقائي. كانت فرصة للتعرف إلى أناس جميلين: بهجة أن يقرأني شاعر أحبه مثل نزيه أبو عفش.
لا أعتقد أن الحفاوة تعني الشاعر كثيراً أو قليلاً، فالاستحسان كالسخرية عابران. الشاعر، بغروره الخفي المحزن، تنقصه وتنتظره أشياء كثيرة، الحضور هو آخرها. إنه يكتب لأن الكتابة ضرورة، وربما لأنه لا يتقن شيئاً يجد نفسه فيه، يبهجه ويبهج أصدقاءه، سوى الكلمات. لحسن الحظ، لا أحد يعول على الشعر، وجمهوره على الأقل في انحسار. في ضوضاء الاستهلاك وطوفان الإنترنت ورداءة الإعلام التي استحوذت على عيوننا في ما نراه ونقرأه، هذه فسحة للحرية وتفهم الصمت والانفتاح على الإنسان في عزلته، ولا شيء يلزمها بفروضٍ لا تريدها. ولكن (سأستخدم هنا تعبيراً قد يبدو غامضاً وتقليدياً مضحكاً) يبقى الشرط الجمالي الفني أساسياً، وكذلك حس المسؤولية، بعيداً عن القيود الأخلاقية المعهودة.
يتعزى الشاعر أحياناً بمجهولين لا يعرف مكانهم، يقرأونه ويتأثرون بما يكتب. غير أن هذا الوهم كسواه لا يدوم طويلاً، ولا أراه ضرورياً لاستمرار الكتابة. يحضرني الآن قولٌ رددته مراراً على مسامع أصدقائي، وهو مطلع قصيدة لتشارلز سميتيث، سأرتجل ترجمته: »زمن الشعراء الصغار قادم. وداعاً ويتمان، دكنسون، فروست. مرحباً بك، يا مَنْ لن تتخطّى شهرتهُ محيطَ عائلته«.
تأتي من »الطب« إلى الكتابة، وليس ذلك مستغربا، إذ ثمة الكثير من الأطباء الذين كتبوا وخطّوا حضورا. ماذا قدمت هذه »الدراسة العلمية« إلى القصيدة عندك؟
﴾ استوقفتني القصائد التي تناولت الجسد. لم يتورع رونالد جونسون عن إيراد صور الانقسام الخيطي للخلية في إحدى قصائده، و كتب عن التشريح المجهري للعين والأذن. غوتفريد بن في قصائد المشرحة، أو كولمان باركس في قصائد الجسد، أو برنار نويل. لكن كتابتي بعيدة عن هذا المنحى. ولم أتطرق إلى هذه المواضيع بتاتاً. أحسبُ أن بعض زملائي في المخبر العلمي لا يعرفون إني أكتب الشعر.
أكره، في الحقيقة، الجمع بين صفتي الطبيب والشاعر. ممارسة الطب، مثل الكتابة، معايشة للموت. الجسد، مملوء بالكثير من الأصوات القديمة والحديثة، حيث العقلُ والجنون والموت والألم؛ وهي بالطبع ليست ألفاظاً أو مجازات أو صوراً نشاهدها على شاشات التلفزيون. المستشفيات كالمعابد أماكن آمنة نسبياً، تلطّفُ طباعَ نزلائها وروادها أو، على العكس من ذلك، تزيدهم ترويعاً وفظاعة. بعيداً عن طبيعة اختصاصي، أقمتُ مع أخي وصديقي شهوراً في مستشفى عسكري، كنتُ أشاهد معهما عشرات المرضى النفسيين أحياناً في اليوم الواحد: جنود متمارضون أو فرائس الهوس والكآبة والفصام. كانت تجربة لا تُنسى. أتذكر جندياً مغتصَباً، وآخر يفزعه اسم تدمر والوشاة الذين تسللوا إلى الوجوه كلها، نوبات الهلع لدى المذعور كلما سمع تلقيم البارودة الروسية... لاحقاً، بعد سنوات، كتبتُ عن ذلك. كتبتُ عن كابوس لا ينتهي يتآخى فيه الجميع، عن العار المسمَّى مجداً: الحرب؛ فظاعة أن تتوقعها، بشاعة كل جيش وبشاعة كل عدو.
في الواقع، أنا أتأرجح بين الطب الذي لا أزاوله كما ينبغي وبين الأدب الذي لا أستطيع أن أتفرّغ له، ولا أجد من الثقة والصبر ما يكفيني للاستمرار في كليهما. لا أدري عن أيهما سأتخلى، أو كيف سأحيا. لدى دخول الجامعة، فكرت، مثل طائش حالم، بدراسة الرياضيات البحتة. كان خيراً لي لو كنتُ خطّاطاً.
خيار الكتابة
كان بإمكانك أن تكــتب الشعر بلغة غير العربية، لِمَ اخترت هذه اللغة؟ هل كتبت بالكردية؟ ماذا يعني لك هذا الخيار؟
﴾ لعلك تعلم أن الدراسة المنهجية للغة الكردية غير ممكنة هنا. ربما لا تزال كلمة الكردي في الإعلام مقلقة أو محظورة. أحزاب كردية في الظل تتمزق أو تتناحر وتلتئم، بينما المكتبة الكردية السورية تخلو من قاموس واحد يمكن الاعتماد عليه.
إنها لغة أتكلمها، ولا أفقه من قراءتها أو كتابتها إلا القليل القليل. لكنها جزء مني، ذاكرتي الأولى.
أكتب بلغةٍ أخرى جذوري فيها جذورُ الغريب. وربما استمتع الغريب باللغة أكثر من ناطقيها وأصحابها. لم أختر اللغة العربية، لأنها كانت الخيار الوحيد الممكن. عشقتها. جعلني الشيخ الجليل عفيف الحسيني أعشقها، ثم سعيتُ كي أتقنها ما استطعتُ، دون أن أفكر في قواعد النحو. تعلمتُ الأوزان الموسيقية وجهدتُ كي أنساها.
أبدو أحياناً كأنني أنقل الكلمات من لغة إلى أخرى داخل رأسي، كلّ كتابة هي في النهاية ترجمة بشكل من الأشكال.
تحاول قصيدتك، مثلما يتبدى في »ثمة من يراك وحشا«، أن تنحو إلى مستوى آخر للقول، أن تبتعد عن قصيدة التفاصيل التي تبدو وكأنها تغلف اليوم، غالبية التجارب الشابة. بمعنى آخر، ثمة نشيد، وإن كان لا يرغب أن يكون عالي النبرة. ما معنى هذا الانحياز؟ أي ماذا تريد من الشعر؟
﴾ ما وصفته بالتفاصيل يحتمل أوجهاً لا تحصى. أحسب أن طرائق الملاحظة تتماثل وكذلك القراءات وأنماط الحياة؛ وهذا يفضي بصورة طبيعية إلى تشابه لا مناص منه وتكرار لا تنويع فيه. جذابةٌ هي مناخات ما سُمّي بالقصيدة اليومية، وبعض ما أنجزته ساحرٌ حقاً، لكنها لا تستهويني ولم أفكر بارتيادها. إذ بوسع أي شاعر أن يخترع قصيدة من لا شيء تقريباً.
لا أزال أحاول أن أضع ما أكتبه، وهو حوارٌ في العزلة غالباً، إزاء ما يُكتب في العالم، الشعر الذي يكتب في أي مكان على هذه الأرض. إنها محاولات صامتة ويائسة لا طائل منها غالباً، مشتتة ومتقطعة، فما نختبره أو نراه لا يرحمنا إلا نادراً. يشغلني الآن ما تجاهلتهُ وتحاشيته، العنف الذي بات طقساً يومياً استطال عقوداً، القسوة واللامبالاة التي تقود البشر في معظم الأحيان.
المكان
÷ ثمة مكان يحضر في القصيدة، بدون أن تسميه، هل لعبت »عامودا« دورا في تشكيل هذا المناخ؟
﴾ الشاعر يخترع المكان. مكانه الحقيقي هو المكان الخيالي، لأن الذاكرة كالمخيلة تحوّر كل شيء.
عامودا، حيث وُلدتُ، بلدة صغيرة لا تتغير، ممزَّقة ولا تتغير كسائر البلدات الحدودية الأخرى شمال شرقي سوريا، وعليك أن تحيا وأنت تتوقع كل شيء. كل شيء ممكن، عبارة مأثورة هناك. ما أبشع الحدود! لا نرى إلا أكياس القمامة تتشبث بأسلاكها المكهربة. سمعتُ عن مجنون حمل خبزاّ ساخناً من عامودا، ثم قطع النهر الجاف سائراً على قدميه ليتناول إفطاره في ماردين. اعتقله حرس الحدود الأتراك بالطبع. المؤسف أن الجنون الحقيقي هو جنون الجماعات والدول، وليس جنون الأفراد.
لا بدّ من وقت طويل كي تثبت أمراً مفــروغاً منــه، أمراً منتهياً لم يُحسَمْ بعد: »أنت كردي«. عبث لا ينتهي، ومصائر غريبة. بشر مخذولون ومهانون لا أدري كيف صارت خصالهم العناد والجسارة والزهو، ضيوف محرومون وطارئون: مهاجرون ولاجئون وأجانب في مكانٍ ولدوا فيه. ربما عوملوا كغرباء مشبوهين إذا قصدوا كردستان العراق أيضاً. من يدري! إذ كل تعصب قبيح ومهدِّد، أياً كان صاحبه. لا أستوعب جيداً بل أستغربُ أفكاراً مستبدة مثل الأصــالة والدفاع عن نقاء الهوية، إنها تحمّلُ الشعرَ أعباء سياسية الطابع ليست منه.
لا أزال أقيم في دمشق إقامة مؤقتة وقلقة دامت أكثر من عشر سنين. تبدد إحساسي بالمكان لفرط ما تنقلت، وقد يحضرني كذكرى: حياة لا تطاق أحياناً في تلك البقعة المسماة بالجزيرة السورية، المهملة والمجهولة كبقاع كثيرة في العالم، حيث تختلط اللهجات والأعراق والأديان، حياة مهدورة داخل تنوع حذر يراقب فيه البعض أشباههم في الضعف، ويحتفظ الذين فيه بانعزالهم. لكنها على الأقل بلاد موتانا. هناك ذكريات قريبة عن شؤم الربيع، آذار على الأخص، فوضى دامية في ملاعب كرة القدم وحرائق السجون ودور السينما. كانت هناك دائماً ميتات بلا سبب.
÷ وحدة ورحيل وغياب وجدران خانقة... هذه بعض العوالم التي تكتبها، هل القصيدة هي »وجهة للغياب«؟
﴾ أمام كلٍّ من الخــوف والمــوت والألم، الإنسـان وحـيد دائماً.
عوضاً عن الفقدان، لم لا نتــحدث عن فداحة الشــعور بالذنب أحياناً لدى العاجزين عن القيام بأي شيء؟ ما لا نفع فيه أو ما لا يمكن تعويضه؟ مخاوف العاشق أو الخجل من الحنين؟
أتمنى أن أكــتب شيئاً يبــعدني عن نفسي، محتفظاً بالهدوء ما استطــعت. لو أخرج من نفــسي كي أعــود إليها و قد غدوتُ شخصاً آخر! أمنية مســتحيلة وحلم يثير السخرية.
لا يعرف الشاعر دائماً دقائق ما يصنعه. لكني أرى الغياب متجذراً في جوهر الحياة، وجهها الآخر، توأمها السيامي؛ الشعر لا يتجه إليه بل ينطلق منه في دائرة لا تكتمل. من منا لم يتخيل غيابه مثلاً؟ الفراغ الذي يتركه وراءه، حتى لو كان وحده؟ هناك ما يتوقع الكثيرون فقدانه دون تمهيد، ثم يعود المرء مرة أخرى إلى وحدته التي يلعنها.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق