الشيطان هو ذلك الملاك الذي تحطمت أجنحته، فهوى الى أعماق الجحيم. لذلك هو يجسّد الشر المطلق، كما يمثل الملاك الخير المطلق. الشيطان هو إذاً شر نقي، طاهر يشعل بصفائه رغبة الأجساد، ويلوّث الأرواح التي يعبث بها. الشيطان جزء من النفس البشرية، قد يُخيّل للبعض أنه هو الذي يتلاعب بنا. إنما في الحقيقة، إن جزءاً من نفسنا هو الذي يتحكم بنا. إذ أن كل الرغبات المقموعة تتغلغل في النفس البشرية، ومن ثم تتجلى وكأنها قوة غريبة عنها. وذلك لأننا لا نريد أن نعترف، لا نريد أن نُقر بأننا نحن أنفسنا شياطين، شياطين وملائكة في آن. إنه الشيطان، إنها ألاعيب الشيطان وإغراءاته... ولذلك ننبذ الشيطان ونرفضه، وذلك لكي ننعم بالطمأنينة، طمأنينة الغافل عن نفسه... ولكن، لا، لا تطمئنوا، فإن الشياطين كامنةً في أجسادكم وعقولكم، هي جزء لا يتجزأ من غرائزكم وأفكاركم. سأنظر الى نفسي في المرآة وأرى نيران الشياطين تتّقد في عيوني، وسأقول لنفسي: "أنا ملاك الجحيم، وسأحلّق بأجنحتي السوداء الى أقصى حدود النعيم!".
برز الشيطان بشكل أساسي في التيار الأدبي الرومنسي، إذ أننا نشهد على إرادة دمج الخير بالشر في تلك الأجواء. إنه الملاك الثائر، الملاك الساقط. وقد عبّر فيكتور هوغو في عمله الأدبي "نهاية الشيطان" La Fin de Satan عن السقوط الذي يؤدي أخيراً الى الخلاص بفضل ظهور ريشة ملاك الظلمات، وهكذا يلد ملاك الحرية. لطالما عالج التيار الرومنسي مسألة الشر، مُعتبراً أن الشر قد ينتهي يوماً ما. يظهر ذلك في "نهاية الشيطان" La Fin de Satan لفيكتور هوغو: "مات الشيطان، عد الى الحياة، يا لوسيفار السماوي!". وهكذا، تمازجت في هذا العمل الأدبي التناقدات ضمن حركة الموت والولادة.
نهاية الشيطان
يظهر سقوط الشيطان الأبدي في قصيدة "نهاية الشيطان" La Fin de Satan الرائعة: "هو يسقط في الهاوية منذ أربعة آلاف سنة/ عجز عن التشبث بقمة الجبل/ ولم يستطع أن يرفع جبينه المتعالي/ غاص في العتمة والضباب، خائفاً/ وحيداً، ووراءه، في الليالي الأبدية/ هوت ريَش أجنحته ببطء/ وقع مصعوقاً، كئيباً، صامتاً/ حزيناً، فمه مفتوح ورجلاه متجهان نحو السماء"، ويتواصل سقوط الشيطان: "كان يهوي. وفجأةً ضربت يده صخرةً/ فعانقها، كميت يعانق قبره/ ومن ثم توقف. صرخ أحدهم من فوق: - أُسقط!/ سوف تطفأ الشموس من حولك، أيها الملعون!-/ وضاع الصوت في ذلك الهول الواسع/ بات شاحباً ونظر نحو الفجر الأبدي/ كانت الشموس بعيدةً، ولكنها كانت تلمع/ فرفع الشيطان رأسه وقال، رافعاً يديه/ - أنت تكذب!- باتت هذه الكلمة لاحقاً روح يوضاس". يبدو جلياً في هذه القصيدة وكأن السقوط يقترن بالعتمة، وبنهاية النور، إذ أن الشموس تنطفئ. إنه النور الإلهي الذي حُرم منه الشيطان، الملاك المطرود من النعمة الإلهية. إنها اللعنة التي تترافق مع مشاعر الذنب، إذ أن صوتاً يتهم الشيطان أنه كاذب. ونلاحظ في هذا السياق تكرار عبارة "أبدي"، إذ أن ذلك السقوط هو قدر الشيطان السرمدي. تعبّر إذاً هذه البيوت ذات الجمال المميز عن حالة السقوط التي تعيشها أرواح ملعونة لا تعرف الراحة. في هذه القصيدة ذات الطابع الديني والملحمي المؤلفة من 5700 بيت، يهوي الشيطان، إنما الشر ظل ينتشر بين الناس بفضل إبنته ليليت - إيزيس. ولكن ينبع الخلاص من إبنة الشيطان الأخرى "ملاك الحرية" التي خلقها الله بإحدى ريشه الخاصة، وهي تطير لتنقذ البشر. لذلك، لا يمكننا أن نقتنع بأن مصدر الشر هو تلك الصورة الشيطانية الراسخة في خيالنا الجماعي، إنما الشر ينتشر بين البشر، لأنه بشري، ويلد من رحم الإنسان.
فاوست
تتجلى صورة أدبية أخرى للشيطان في عمل غوته الأدبي "فاوست"، حيث الإنسان والشيطان منفصلان عن بعضهما، إنما يتفقان. وبالفعل، يعقد فاوست اتفاقاً مع مافيستوفلاس، الشيطان، فيجرفه هذا الأخير بالملذات الأرضية، وبالمقابل يسلّم فاوست روحه للشيطان. أما في الجزء الثاني من ذلك العمل الأدبي فيتطرق غوته للمشاكل السياسية والاجتماعية. يتم استدعاء فاوست ومافيستوفيلاس الى بلاط الأمبرطور، ويقرر فاوست أن يعيد إيلين وباريس للحياة. فيضطر الى النزول الى منازل الآلهة الأكثر غموضاً، وهن الأمهات. يُغرم فاوست بأميرة سبارتا، فيطلب من مافيستوفيلاس أن يقتادها الى اليونان القديمة. أما في الجزء الثالث فيتم اقتياد إيلين في قصر مينيلا مع الأسيرات الطرواديات اللواتي تؤلفن جوقة موسيقية. يحذرها الشيطان المُقنع أن مينيلا سوف يقتلها، ومن ثم يصطحبها الى القصر الذي يحكمه فاوست، فيعيش فاوست وإيلين بسعادة. يلد أبنهما أُفوريون، ويموت. فتهجر إيلين فوست وتختفي. وفي الجزء الرابع، يجلس فاوست على الجبل حيث يغني ليعبّر خيبته. يأتي الشيطان ويقول له إن الإقطاعيين قد ثاروا على الإمبرطور، والمعركة باتت وشيكة. فيدمر الشيطان جيش الإقطاعيين، ويقدم الأمبرطور أرضاً لفوست تعبيراً عن امتنانه له. في الجزء الخامس، يكتسب فاوست أساليب الاستغال الرأسمالية، ويحاول الحصول على أراضي فيلامون وبوسي. وبما أنهما يرفضان يهاجمهما رجاله ويقتلهما. تمزّق قلب فاوست جراء ما حصل، فأقبلت أربعة آلهةً لزيارته، وهي الفقر، الدَين، الضيق والهم، فتقنعه هذه الأخيرة بالموت. وبعد أن يفارق فاوست الحياة، تكفّر مارغريت عن خطاياه وتنتزع روحه من الشيطان. اكتسب الشيطان في هذا العمل الأدبي قوةً خارقةً، إذ أنه يتدخل في مصير الشخصيات ويغير حياتهم. هو إذاً صورة للشر، الجشع والرغبة التي تفرض نفسها. ونلاحظ بأن الشيطان يحقق لفاوست رغباته، إذ أنه هو جزء منه، هو تلك الناحية من شخصيته التي تتوق الى فرض نفسها في هذا العالم. فلماذا لا يعترف الإنسان أنه هو الذي يقوم بكل هذه الأفعال؟ ولماذا يخلق صورة الشيطان؟ ربما ليلقي اللوم على أحدهم، وفي نهاية المطاف يتم الصفح عن روحه البريئة التي جرفها الشيطان في الشر.
رغبات من الجحيم
في رواية Les Diaboliques الشيطانيون لباربي دورفيلي، يبرز الشيطان، إنما كحليف للمرأة بشكل أساسي. الشيطان هو الرغبة في هذا السياق، هو نار الجحيم التي تشتعل بين فخذيها، وما يؤجج هذه النار هو شعور الذنب المُمتع الذي يرافق تجاوز المحرمات الاجتماعية. إذ أن الحرية الجنسية التي تتيح لنا أن نتمتع بأجسادنا تفتقد الى ذلك الشعور الرائع بالتدنيس الذي يرافق الجنس في الأجواء التقليدية والدينية. وها هو الشيطان بروعته الأخاذة والتدميرية في هذه الحالة! بالفعل، تكتسب المرأة في القصة القصيرة "السعادة في الجريمة" Le Bonheur dans la Crime بعداً شيطانياً، فهي المجرمة التي تقتل زوجة عشيقها السري من أجل رغبتها: "كانت هوتكلار قليلة التأنق، إنما كان لها، حين تستمع إلينا ونحن نكلمها، طريقتها بتناول شعرها الطويل المجعّد والمتجمع في ذلك المكان من رقبتها، ذلك الشعر الثائر على المشط الذي يملّس الكعكة، تلك الطريقة التي تكفي لزرع الاضطراب في النفس، كما ورد في الكتاب المقدس". في هذا العمل الأدبي، نلاحظ بروز المقدس، الذي يتناقد ويتمازج مع الشيطاني. ويصف الكاتب هوتكلير، الشخصية الرئيسية في هذه القصة القصيرة، من خلال عبارة: "تلك الفتاة الشيطانة". تقترن هذه الإمرأة الشيطانية بالأفعى من خلال الإبرة على "صدرها المثير"، إذ أن الإبرة تغرز البشرة على غرار أسنان الأفعى التي تلدغ. هوتكلار هي أفعى تقتل بدافع الرغبة، إذ أنها تسمّم زوجة عشيقها السري كونت سافينيي. وتبدو تلك المرأة وكأنها "أفعى نراها تتمدد وتنبسط، من دون أن تصدر أية ضجةٍ، وتقترب من سرير المرأة النائمة". تبرز العبارات التالية التي تربط بين المرأة والشيطان في تلك القصة القصيرة: "هنّ تفعلن ما تشأن بأجسادهن الشيطانية، تلك الثعابين الأنثوية"، "كل الفتيات اللواتي وضعهن الشيطان على طريقه". وهكذا، تشبه هوتكلار الأفعى التي تتحرك بهدوء، إنما تؤذي بشدة. هي تؤذي لتنعم بسعادتها مع حبيبها، تلك السعادة التي تبدو وكأنها "سخرية منتصرة ومتفوقة من قبل الشيطان في وجه الله، إن كان الله والشيطان موجودين!". وبالفعل، يبدو الشيطان وكأنه حليف النساء في تلك الحالة، إذ أنه هو الذي يعلمهن "أن تكنّ ما هنّ عليه، أو بالأحرى هن اللواتي تعلمنه". يبرز إذاً بوضوح التوافق بين الإمرأة والشيطان، ذلك التوافق الذي بدأ منذ سفر التكوين حين عصت حواء إرادة الله وأكلت التفاحة كما أوعز إليها الشيطان المتجسّد بالافعى.
انتقام امرأة
وفي القصة القصيرة "إنتقام إمرأة" La Vengeance d’une Femme لباربي دورفيلي من نفس ذلك العمل الأدبي، تبرز العبارة التالية: "حين يخلق الله إمرأة جميلة، يخلق الشيطان فوراً، بالمقابل، رجلاً أخرق ينفق عليها المال". وفي هذا السياق، يقترن الشيطان بالسواد وبالسقوط، إنه السقوط في الجحيم حيث "الشيطان هو أمير الظلمات. هو يمتلك هنا إحدى إماراته"، "الشيطان، الأب المرح لكل حالات الفوضى". وفي هذه الهوى الظلماء حيث فُتحت أبواب الجحيم، يشرع روبير تراسينيي باقتفاء إمرأة جرّته إليها رغبته، من خلال تعقّب "فستانها الذهبي، الذي كاد يختفي لبرهة في ظلمة تلك الفجوة المُعتمة". قد يبعده قرفه عن تلك العاهرة "إنما الشيطان تمسّك به". يرتبط إذاً الشيطان بتلك الرغبة المتّقدة التي تتحكم بالرجل. إنما تلك المرأة، التي تجرف روبير الى أعماق هوة الجحيم، هي دوقة أركو سييراليون. وقد خانت تلك المرأة زوجها مع عشيقها فاسكونسالو، الذي عاشت معه علاقة حب طاهرة وملائكية. إنما زوجها قتل عشيقها، فقامت بتطهير حزنها بعهرها. تبرز في هذا السياق صورة الملاك الساقط، إنه الشغف الطاهر الذي تحوّل الى قذارة. تلك هي صورة الشيطان، الملاك المدمر التي تفتت ريشه، فهوى الى أعماق الجحيم.
وفي القصة القصيرة "الستار القرمزي" Le Rideau Cramoisi لباربي دورفيلي، تبرز العبارة: "هي تستسلم لذلك الشيطان الذي يتغلغل في جزءٍ ما من كل النساء – كما يُقال - فيكون السيد الدائم، بالإضافة الى سيدين آخرين – الجبن والخجل -". وهكذا، يتناول الكاتب قصة ألبارتين "المثيرة بشكل شيطاني"، التي يجرّها شغفها الى التسلّل ليلاً الى غرفة عشيقها، وهو طالب داخلي يقطن في منزلها. إنما هي تنجح بإخفاء علاقتها به خلال النهار بحضور والديها اللذين يعيشان معها وعيشقها في البيت نفسه، من دون أن يدركان حقيقة ما يحصل حين تغيب الشمس. ترتبط في هذا السياق طبيعة المرأة الشيطانية بقدرتها على إخفاء رغبتها؛ إذ أن ألبارتين تبدو هادئة للغاية طيلة النهار، إنما تفجّر رغباتها ليلاً. وتبدأ رواية "أجمل حب في حياة دون جوان" Le Plus bel Amour de Don Juan لباربي دورفيلي، التي استُهلت بجملة: "أشهى مآدب الشيطان هي البراءة"، بحوار يتناول دون جوان والشيطان. وتقول إحدى النساء: "الشيطان لا يموت"، فتجعل من الشيطان ودون جوان أسطورتين خالدتين. وهكذا، يبدو وكأن جاذبية دون جوان التي تسحر كل النساء مُستمدة من قوى الجحيم، فيُطرح السؤال: "هل كان له اتفاق مع الشيطان؟". تعرض هذه القصة القصيرة لقاء دون جوان مع عشيقاته الإثنتي عشرة خلال عشاء جهنمي يبدأ لدى مغيب الشمس ويطول كل الليل. وقد كانت الأجواء شديدة الإثارة طيلة ذلك اللقاء، لذلك ذكر الكاتب المشهد التالي في نهاية القصة القصيرة: "حين كان يوسف عبداً لدى السيدة بوتيفار، كان شديد الجمال، إذ أن النساء الحالمات كنّ يقطعن أصابعهن بالسكاكين وهن تنظرن إليه، كما ورد في القرآن". وهكذا، لا يتردّد باربي دورفيلي عن مزج المقدس بالأجواء الشيطانية، لينتج عن ذلك شر مقدس باهر.
وفي القصة القصيرة "خلال عشاء الملحدين" A Un dîner d’Athées لباربي دورفيلي، يتجلى حضور الشيطان: "إنه أحد العشاءات التي يعرف الشيطان وحده أن يعبث بها من أجل أناسه المفضلين... وبالفعل، أليس ضيوف هذه العشاءات هم من كبار المفضلين لدى الشيطان؟"، "وكان مجلس الشياطين ذوي القرون المتعددة مرؤساً من شيطان كبير يعتمر قبعة من القطن". يتبادل ضيوف هذا العشاء الأحاديث ويتكلمون عن أنفسهم، فيوصف المشهد وكأنه "اعتراف الشياطين". وتكثر العبارات الشيطانية في أحاديثهم على غرار: "فليقتلع الشيطان عينيَّ بمخالبه"، "فوهة الجحيم". كما يستخدم مانيلغران، أحد ضيوف هذا العشاء عبارة "المرأة هي مغناطيس الشيطان!" خلال تطرقه الى روزالبا، وهي أكثر النساء فسقاً وحشمةً. وبالفعل، إنها روزالبا "تلك الزانية الفريدة من نوعها التي رواها الشيطان بالحشمة، والتي، على الرغم من عهرها، حافظت على قدرةٍ، ذات طابع خارق، تجعلها تحمرّ حتى عمودها الفقري مئتي مرة كل يوم!". وهكذا، يلعب الشيطان دور الخالق: "هل العالم هو نتاج الشيطان، حين فقد صوابه؟ إنه بلا شك ذلك الشيطان هو الذي خلق روزالبا في إحدى لحظات جنونه المُفرط، وذلك من أجل لذته الخاصة... وقد قام ذلك الشيطان بمزج اللذة بالحشمة، والحشمة باللذة، ومن ثم فلفل بالإثارة السماوية، تلك اليخنة الجهنمية المليئة بالملذات التي تقدمها المرأة للرجال الفانين".
غالباً ما يكتسب الشيطان في الأدب بعداً إلهياً، إذ أن بودلير يتوجه اليه في قصيدته "صلوات للشيطان" Les Litanies de Satan من ديوانه "أزهار الشر" Les Fleurs du Mal: "أنت أكثر الملائكة معرفةً وجمالاً/ إله خانه القدر وحُرم من المديح/ يا أيها الشيطان، إرحم بؤسي الطويل!/ يا أمير المنفى، الذي لطالما أذيناك/ فتنهض على الرغم من هزيمتك/ يا أيها الشيطان، إرحم بؤسي الطويل!/ أنت الذي تعرف كل شيء، يا ملك الانفاق الكبير/ ويا أيها الشافي المألوف للمخاوف البشرية"، وهو يضيف: "أنت الذي أنجبت من الموت، عشيقتك العجوز والقوية،/ الأمل - ذلك المجنون الفاتن"، ويبرز البعد الأبوي للشيطان: "أيها الوالد المتبني كل الذين طردهم/ الأب الإله من الجنة الأرضية". كما يكتسب الشيطان بعداً إلهياً في قصيدة إيوان غيلكين "نشيد الشيطان" Hymne à Satan: "ولدت كل الكائنات من نار غضبك/ نحن نمجدك، أيها الشيطان، يا والدنا الحقيقي". ويضفي هذا الشاعر على الحب بعداً شيطانياً: "تسرّبت روحك الشيطانية الى روحي/ إمتص قلبي كيانك القذر على غرار المصفاة/ ولم أعد أعرف الإله الذي كنت أعبد". تتمازج الأرواح في هذه البيوت الرائعة، وتغمر الروح الشيطانية روح حبيبها لتغرقها في جحيمها.
الشيطان القاتل
أما في رواية تيوفيل غوتيه القصيرة "ممثلان لدور واحد" Deux Acteurs Pour un Rôle فيبرز الشيطان ضمن سياق فني ومسرحي. يريد هانريش أن يلعب دور الشيطان في إحدى المسرحيات، ولكنه يلتقي بالشيطان في خلفية المسرح. يهاجمه الشيطان ويلعب دوره بنفسه، ويثير إعجاب الجمهور. يرتبط في هذا السياق الشيطان بازدواجية الشخصية، إذ أن ذلك الشر يكمن في شخصية كلٍّ منا، وظهور الشيطان هو تعبير عن ذلك الشر. وبالفعل، يظهر الشيطان في هذا السياق وهو شديد الغموض، يرتدي بزة الممثل نفسها، وعيناه ذات شفافية خضراء تلمعان في العتمة، كما أن لأسنانه البيضاء شيئاً من الشراسة. أما في رواية "أونِفريوس" Onuphrius لتوفيل غوتيه فيرتبط الشيطان بالجنون الهذائي. وبالفعل، يتساءل الرسام أونِفريوس: "ما هي الأسباب التي قد تدفع بِلزيبوت الى اضطهادي؟ فهل هو يريد أن يسيطر على روحي؟"، وهو الذي يظن أن الشيطان قام بتحريك عقارب الساعة، كما أنه يتخيل أن الشيطان حاول أن يعبث برسمته، إذ أن براثن أوذيل الشيطان قد اخترقها، "وعلى اللوحة، الى جانب وجه جاسينتا الحلو والنقي، كان وجهاً وحشياً يكشّر بشكل مشؤوم، وهذا الوجه ليس سوى نتاج هذيانه". إذاًَ يبدو وكأن الشيطان يسكن عقل هذا الرسام ويتلاعب به، إذ أن الجنون مُتجسداً في الشيطان. تبرز كذلك في هذا السياق شخصية كلاريموند في القصة القصيرة "العاشقة الميتة" La Morte Amoureuse لتيوفيل غوتيه، وهي إمرأة ذات طابع شيطاني تظهر في حياة سارد الرواية أثناء احتفال ترسيمه كاهناً. إنها اللحظة التي يستعد ليتخلى فيها عن كل ملذات هذه الحياة ليكرّس نفسه لعبادة الله، إنما تجذبه تلك المرأة، و"هي ملاك أو شيطان، وربما الإثنين". وهي تنافس الله قائلةً: "إذا كنت تريد أن تكون لي، سأجعلك أكثر سعادةً من الرب نفسه في جنّته؛ الملائكة ستحسدك". ولكن هذه المرأة المثيرة، التي تجسّد إغراء الشيطان، باتت قاتلة في نهاية المطاف، إذ أنها أخذت تمتص دماءه لتعيش. إنه الشيطان المدمر الذي يتناوله بودلير في إحدى قصائد "أزهار الشر" Les Fleurs du Mal، "التدمير" La Destruction: "يهيج الشيطان الى جانبي بلا توقف/ فيسبح من حولي كهواء غير ملموس؛/ أبتلعه مع الأحاسيس التي تشعل رئتي/ وتملأها برغبة أبدية ومذنبة". وهكذا، يبرز الشر الشيطاني بأشكاله المتعددة، فهو تارةً مصدر رغبة وطوراً قاتلاً، مدمراً. إنه في نهاية المطاف تلك الرغبة القاتلة التي تضفي على حياتنا معنى مميزاً.
منير ابي زيد
المصدر: السفير